التاريخ لا يُعيد نفسه لكن بعضهم لا يتعلّم

خطب السيد نصرالله مؤخراً، الغاضبة والمتشنجة، خصوصاً تلك التي هدَّد فيها علناً، بمناسبة غزوة 7 أيار المستجدّة على أحياء الطيونة المسيحية، بإفلات 100 ألف مقاتل شيعي (أكلهم وشربهم ومعاشاتهم تموّلها إيران) على الشعب اللبناني!! لماذا؟ كي "تتأدّب" "القوات اللبنانية" (الصهيونية)، وعدوة المسيحيين"!!.
 
حقاً إن السلطة تعمي المتسلّط وأتباعه. فكلّ ما ينطق به القائد حقائق منزلة مهما بدا من ركاكتها ومغايرتها للواقع. فلقد اقتنع جمهوره أن اللبناني المختلف عنه بقناعاته هو عدوّ.
 
كل ذلك يعيد إلى ذاكرتي فيلم "سقوط هتلر" الذي عرض في صالاتنا منذ سنوات عدّة. وهو يتناول آخر أيام هتلر وحكمه النازي.
 
تخبرنا السيدة تراودل يونغه، التي عملت كسكرتيرة لهتلر لعامين ونصف، وكان عمرها 22 سنة، أنها لم تبدأ بسؤال نفسها، لماذا قامت بخدمة هتلر، إلا بعد أن رأت نُصب صوفي شول. اكتشفت أنهما من مواليد نفس السنة، وأنها التحقت بالعمل لدى هتلر في نفس السنة التي أُعدمت فيها صوفي لمقاومتها هتلر.
 
فسألت نفسها لماذا قامت بذلك العمل؟ طبعاً، يمكن القول لأنها لم تكن تعلم ما يجري، وإنها كانت صغيرة السنّ. لكنها ترفض أن تجد في ذلك عذراً لها. كان عليها أن تعرف. فالجهل ليس عذراً لمن يعدّ نفسه مواطناً بالغاً مسؤولاً وليس مجرّد رعية تساق..
 
إن أمثال السيدة يونغه لا يزالون كثراً في بيئة وحاضنة الحزب، الشيعيّة خصوصاً، بعد أن بدأ ينفضّ عنه على ما يبدو من كانوا يحملون شعاراته ويحفرونها تاتوات على أجسامهم نصف العارية من المسيحيين. فهل سيندمون مثلها على عمائهم؟ ومتى؟
 
وحكاية صوفي شول وأخيها ومجموعتهما معاكسة تماماً لحكاية السيدة يونغه. صوفي أيّدت هتلر في مطلع شبابها، لكنها دفعت حياتها ثمناً لمقاومته بعد أن اجتاح بولندا. فلقد حسما موقفهما هي وأخيها حينها، وتوجّها للمعارضة.
 
كتبت لصديقها الحميم فريتز هارتناغيل، الذي أُرسل كباقي الشباب إلى القتال، تماماً كما يرسل حزب الله الشباب الشيعة: "لا أستوعب لِمَ يستمرّ بعض الناس بالمخاطرة بحياة الآخرين. لا أفهم ذلك أبداً وأراه شيئاً مروّعاً. لا تقلْ لي إنّه من أجل وطننا".
 
أصرّت صوفي وأفراد مجموعة الوردة البيضاء من الطلاب على مقاومة سياسة هتلر وتحكّم الديكتاتورية. طبعوا ووزّعوا عدداً من المنشورات التي حثّت المواطنين الألمان على مقاومة النظام النازي، وإدانة قتل المواطنين اليهود والمطالبة بإنهاء الحرب.
وكُتب في أحدها: "لن تُكمّم أفواهنا. نحن صوت الضمير، والوردة البيضاء لن تترككم بسلام".
 
وإذا كانت السيّدة يونغه ندمت متأخّرة على غشاوتها، لكنه ندم لم يطل جنرالات ومتنفّذي الحكم النازي. فحتى آخر لحظة، لم يكن هناك أدنى شعور بالندم على الخيارات التي قاموا بها وتسبّبت بسقوط خمسين مليون قتيل، بمن فيهم الـ 6 ملايين يهودي. حتى آخر لحظة رفضوا كلّ ما يمّت إلى الرأفة أو الرحمة بصلة تجاه المدنيين.
 
في مثل هذه الأنظمة لا أهمية لأرواح البشر، ولا وجود لشيء اسمه الرحمة لأنّها ضعف. وعلى قول هتلر"القرود يقتلون ضعافهم والبشر ليسوا أفضل من القرود". الضحايا المدنيّون هم وقود شعبية القائد الملهم.
 
يأتي الديكتاتور باسم الشعب ولخلاصه، لكنه سرعان ما يتحكّم به ويهلكه. فعندما يفشل ويخسر رهانه بالانتصار، يفقد صوابه، ولا يُحسن التصرّف أو اختيار الحلول والسلوك الملائم، ويتحوّل لمحاربة الشعب الذي زعم خلاصه.
 
مدهشة هذه الغشاوة التي تصيب الديكتاتور وتعمي قدرته على الرؤية. والمستغرب عجز وجبن المحيطين به عن إعلامه بالحقيقة أو تذكيره بالواقع. إنه الخضوع والاستلاب المطلق الذي يُصيب الجميع. لم يجرؤ أحد من جنرالات هتلر على أن يخبره بأن هذه المنطقة أو تلك ساقطة وبأنّ النهاية هنا.
 
في أنظمة الاستبداد لا شيء له أهمية ما عدا الرئيس أو الفوهرر أو الولي الفقيه، ولا أحد سواه. لا أحد مطلقاً يستحقّ الرحمة.
 
لم تنفع دموع إيفا براون وتوسّلاتها لهتلر، راكعة، في أن يحفظ حياة صهرها (مساعد هملر) من أجل اختها الحامل. وكان هذا الأخير أدرك أنها النهاية، وألا فائدة ترتجى بعد، وقرر الانسحاب وتمضية الوقت المتبقي في ماخور إلى حين أن يقضي هتلر على نفسه لأنه كان بدأ يبحث في كيفية انتحاره... عدّ خائناً، ووجد معتوهين يعدمونه فيما الموت يُحيط بهم كالهواء. وربما قبل أن ينتحروا هم أنفسهم بساعات!
 
فالعديد منهم فضّلوا الانتحار على البقاء بعد هتلر!! صرخت الممرضة المرافقة لطبيب هتلر في نوبة هستيرية: قل لنا ماذا علينا أن نفعل، قدنا إلى النصر وسوف نتبعك؟ وانخرطت في بكاء هستيريّ متشنّج.
 
السيدة غوبلز لا تتخيّل العالم بعد هتلر، ولا تتخيّل أولادها يعيشون في عالم خالٍ منه ومن حزبه. قتلتهم قبل أن تنتحر وزوجها. إنهم ملكيّتها الخاصة، لها حريّة التصرّف بهم!! فعرق المستبدّين من صنف الآلهة...
 
تقول إيفا براون للسيدة يونغه: "عشت معه 15 سنة ولا أعرفه حقاً". تستكمل يونغه: لا تعرفين ما يدور حقاً في العمق، في داخله؟ وتتابع: "يبدو رقيقاً أحياناً (فهو يلبس نظرات حنوّ وأبوّة يصوّبها نحو محيطه القريب طالما أنه يُطيعه). ولكن أحيانا تبرز هذه القسوة، كم من القسوة!". تجيبها إيفا: "إنه الفوهرر عندها!". يعني بتعابيرنا: إنه الزعيم!! الذي نفديه بالروح والدم. فالدم المُراق يُصبح مقدساً على ما ينبّهنا رنيه جيرار.
 
في صباح يوم إعدامها، قالت صوفي البالغة من العمر 21 عاماً: "ياله من يوم مشمس جميل، وأنا عليّ الرحيل… ماذا يهمّ موتي، إذا كنا قد أحدثنا صحوة لدى الآلاف فتحفّزوا للتحرك؟"
يبدو لي أن ما نعاينه في لبنان حالياً مقاومة شبيهة بتلك التي قامت بها صوفي ورفاقها. فحزب الله يتمتع بفائض من القوة انتجت فائضاً من الكره ومن الرفض.
 
أعدمت صوفي. ولقمان سليم أيضاً أعدم. وهي لم تصبح رمزاً في ألمانيا سوى بعد انتهاء الحرب. فمتى سيصبح لقمان سليم، المقتول غدراً، رمزاً لمقاومة حزب الله؟ وقبله هاشم السلمان؟ ربما سيقام نصبه في مكان الخيمة التي أحرقت والمكان الذي أعدم فيه أيضاً.