المفهوم القانوني لحكومة تصريف الأعمال


الدكتورة ماريا القاموع
محامية وأستاذة جامعية
 
في كل مرة تكون تكون فيها الحكومة مستقيلة يدور النقاش حول مدى صلاحياتها ومساحة هذه الصلاحيات. لم يحدد الدستور اللبناني بشكلٍ صريح ما هي حدود وأطر صلاحيات الحكومة المستقيلة كما وأنه لم يتضمن تفسيراً لعبارة تصريف الأعمال ما عدا ذكره في أحكام الفقرة الثانية من المادة ٦٤: "لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها... إلا بالمعنى الضيق لتصريف الأعمال"، مما يترك المجال للاجتهاد لتحديد معنى ومفهوم تصريف الأعمال بمعناه الضيق.
ﺇن تأليف حكومة جديدة ونيلها الثقة يستوجب عادةً فترةً زمنية معينة، تكون خلالها الحكومة المستقيلة غير مختصة للقيام بمجمل مهامها، كما أن الحكومة الجديدة لا يمكنها الشروع بعملها التنفيذي قبل نيلها الثقة من مجلس النواب. 
مدة هذه الفترة الضرورية للتأليف وإعطاء الثقة غير محددة صراحةً في الدستور اللبناني، غير أن العرف استقر على اعتبارها "مهلة معقولة" توازياً مع الإجتهاد الفرنسي الذي أورد في احكامه عبارة : "Un délai raisonnable". هذه المهلة المعقولة تفترض عدم المماطلة في التكليف والتأليف. فكيف بالحري اﻵن بعد إعلان حالة الطوارئ؟
يرتدي موضوع تصريف الأعمال أهمية كبرى في لبنان، ذلك لما بات يستغرقه تشكيل الحكومات من وقتٍ طويل، يصل في غالب الأحيان إلى أشهرٍ عدة تقارب السنة الميلادية الكاملة أحياناً. من الواجب خلال هذه الفترة المستغرقة لتأليف الحكومة ألا تتوقف الأعمال في الإدارة العامة، إذ لا فراغ على الإطلاق في السلطة! 
مبرر عدم ﺇﺤﺩﺍﺙ الفراغ يعود لمبدأ أساسي وهو مبدأ استمرارية المرافق العامة. فتأميناً للمتطلبات العامة، يتوجب على المرافق المذكورة الاستمرار في العمل من دون أي توقف أو انقطاع، ذلك لأن استقالة الحكومة لا يمكن أن تعكس شللاً كاملاً في المؤسسات والحياة السياسية والإقتصادية والاجتماعية للوطن. أكد هذا الأمر مجلس شورى الدولة الفرنسي (C.E. Ass., 4 Avril 1952, Syndicat régional des quotidiens d'Algérie) حين ذكر في قراره ما يلي : 
«Considérant qu’en raison de son objet même, et à défaut d’urgence, cet acte règlementaire… ne peut être regardé comme une affaire courante si extensive que puisse être cette notion dans l’intérêt de la continuité nécessaire des services publics».
توازياً مع زميله الفرنسي تبنى مجلس شورى الدولة اللبناني الرأي نفسه عام ١٩٦٩ عقب استقالة رئيس مجلس الوزراء رشيد كرامي. أورد القرار المذكور رقم ٦١٤ تاريخ ١٧/ ١٢ / ١٩٦٩، في مندرجاته تكريساً لمبدأ "تصريف الأعمال العادية" كمبدأ واجب التطبيق في كل مرة تكون فيها الوزارة فاقدة لكيانها الحكومي المشروع تجنباً للأخطار والمحاذير المتعددة الناشئة عن الفراغ في الحكم.
بناءً على ذلك، وضع مجلس شورى الدولة في قرارﻩ تصنيفاً ثلاثياً للأعمال على الشكل التالي: 
- الأعمال العاديّة الإداريّة: "أيّ الأعمال اليومية التي يعود إلى الهيئات الإداريّة إتمامها...".
- الأعمال التصرفيّة: "تهدف إلى إحداث أعباءٍ جديدةٍ أو التصرّف باعتماداتٍ هامّة أو ادخال تغييرٍ جوهريّ على سير المصالح العامة تحت طائلة المسؤوليّة الوزاريّة... لا يجوز لحكومة مستقيلة من حيث المبدأ أن تقوم بها".
- الأعمال الواردة في الظروف الاستثنائيّة: "انها تدابير الضرورة التي تفرضها ظروف استثنائية تتعلق بالنظام العام وأمن الدولة الداخلي والخارجي، والأعمال الإدارية التي يجب اجراؤها في مهل محددة تحت طائلة السقوط والإبطال... في هذه الحالات، تخضع تدابير الوزارة المستقيلة وتقدير ظروف اتخاذها إياها إلى رقابة القضاء الإداريّ بسبب فقدان الرقابة البرلمانيّة وانتفاء المسؤولية الوزارية". 
ﺇن التقليص المذكور للصلاحيات والذي حصر بالمعنى الضيق للكلمة، ألزم الاجتهاد إيجاد التوازن المناسب ما بين استمرار العمل الإداري وعدم تجاوز الحد الأدنى للممارسة الفعلية للأعمال العادية. مع العلم ﺃنه عند استقالة الحكومة تصبح هذه الأخيرة خارج رقابة مجلس النواب، لأن هذه الرقابة ستكون مجردة من سلطة العقاب، فلا يمكن تصور إمكانية إسقاط حكومة مستقيلة! 
هذا ما استقر عليه الاجتهاد اللبناني في مجمل قراراته المتتالية، منها قرار رقم 575 الصادر عن مجلس شورى الدولة عام 2007، الذي قضى بإبطال القرار رقم ١٤٦ تاريخ ٨ / ٣/ ٢٠٠٥ المتضمن تعديلاً للنطاق الاداري لبلدية البترون، لكونه عملاً من أعمال التصرف الواجب صدورها من حكومة مسؤولة أمام مجلس النواب.
أما المجلس الدستوري اللبناني فقد اعتبر من جهته أن مفهوم تصريف الأعمال أساسي لتأمين استمرارية السلطات الدستورية تجنباً لأي فراغ، من دون القيام بأعمال انشائية جديدة وذلك في القرار رقم ١/ ٢٠٠٥ الذي صدر بعدما تمثلت حكومة نجيب ميقاتي في أيار 2005 خلال فترة تصريفها للأعمال في جلسة لمجلس النواب الذي أقر خلالها عدة قوانين كان أبرزها يتعلق بتأجيل النظر بالمراجعات أمام المجلس الدستوري.
مقابل الأعمال الإدارية العادية تظهر الأعمال التصرفية بخاصة تلك التي تطرأ خلال أوضاع استثنائية. هذه الأعمال رغم خطورتها تكون في بعض الأحيان طارئة ﻭﻣﻠﺣﺔ لارتباطها مثلاً بالسلامة العامة، هذا ما أكد عليه المجلس الدستوري اللبناني في قراره رقم ٧/٢٠١٤ تاريخ ٢٨/ ١١/٢٠١٤: " وبما ان الظروف الاستثنائية هي ظروف شاذة خارقة تهدد السلامة العامة والأمن والنظام العام في البلاد، ومن شأنها ربما ان تعرض كيان الأمة للزوال، وتقتضي اتخاذ إجراءات استثنائية بغية الحفاظ على الانتظام العام الذي له قيمة دستورية...". 
من البديهي اعتبار أنه كلما طالت الفترة الزمنية لتشكيل حكومة جديدة ارتفعت بطبيعة الحال احتمالات حدوث أزمات إقتصادية وإجتماعية أو حوادث طبيعية تستدعي المعالجة الملحة والطارئة. بذلك، في حال انعدام الحالة الملحة، لا يدخل في مفهوم تصريف الأعمال سوى الأعمال اليومية والتي لا تغير في طبيعة الأعمال الإدارية المرعية.
فعكس ما يشاع، إن مفهوم تصريف الأعمال هو مفهومٌ مطاطي غير جامد على الإطلاق يضيق ويتسع وفقاً للظروف التي تمر بها البلاد وبخاصة الاستثنائية منها التي تستوجب معاجلة سريعة وملحة تحت طائلة تهديد سلامة الدولة وأمنها وضرورة معالجتها بأفضل الوسائل الممكنة.