الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

استعادة الاتحاد العمالي العام من أحزاب السلطة: التحديات الكبرى

من اعتصامات الاتحاد العمالي العام (مارك فياض).
من اعتصامات الاتحاد العمالي العام (مارك فياض).
A+ A-
غسان صليبي

بعد انتخابات نقابة المهندسين، وقبلها انتخابات نقابة المحامين، جرى الكلام على استعادة النقابات من يد أحزاب السلطة. كان من البديهي أن يطرح البعض ضرورة استعادة الاتحاد العمالي العام، بالرّغم من الفارق الكبير بين واقع نقابات المهن الحرة وواقع نقابات الأجراء التي يمثّلها الاتحاد العام.
 
نشرت كتاباً والعديد من الدراسات والمقالات حول الاتحاد العمالي العام. أريد في هذا النص أن أعرض بعض الخلاصات التي أرجو أن تساعد المهتمّين بمسألة التغيير في الحركة النقابية اللبنانية على مقاربة الموضوع بقدر كافٍ من الموضوعية بما يسمح بالتأثير في الواقع وظروف لبنان الحالية.
 
منذ منتصف التسعينيات، استمرّ تقاعس الاتحاد العمالي العام عن الدفاع عن مصالح العمال والموظفين، بالتوازي مع انخراطه المتصاعد في النزاعات بين أركان السلطة السياسية. وقد تُوّج هذا التقاعس، وتجسّدت هذه التبعية، في غيابه التام عن انتفاضة 17 تشرين لا بل في انتقاده لها علناً.
 
هناك عوامل اقتصادية ساهمت في إضعاف فاعلية النقابات بشكل عام:
 
- صغر وتشتّت المؤسسات (90 % منها لديها خمسة عمّال وما دون) يصعّبان التنظيم والتضامن النقابي، ويضعان النقابيين تحت رحمة أصحاب العمل.
 
- هيمنة الاقتصاد الريعيّ يقلّص قدرة الأُجراء على التأثير في علاقة الأجور والأرباح.
- اتساع القطاع غير الرسمي (أكثر من 60 % من اليد العاملة) يحتاج إلى جهد مضاعف من أجل تنظيم عمّاله.
 
- هجرة اليد العاملة الجامعية والماهرة تؤثّر سلباً في فاعليّة العمل النقابي.
 
- العدد الضخم للعمال المهاجرين والنازحين يضعف قدرة النقابات على التأثير في سوق العمل وحركة الأجور والتقديمات الاجتماعية.
 
لكن الوضع الذي وصل إليه الاتحاد العمالي العام اليوم هو أيضاً نتيجة عوامل طاغية أخرى: سياسية، اجتماعية – سياسية، إدارية - اقتصادية وتنظيمية. ابتداءً من نهايات الحرب، واستمراراً إلى ما بعد اتفاق الطائف، استخدمت الأحزاب المذهبية مواقعها في السلطة (وزارة العمل خاصة التي أناط بها القانون إعطاء رخص لإنشاء النقابات والاتحادات)، وبالتعاون مع سلطة الوصاية السورية، التي بسطت هيمنتها على البلد لمدة ثلاثين عاماً، من أجل تكوين نقابات واتحادات ذات طابع مذهبيّ. من الملاحظ أن أكثرية الاتحادات التي تنتسب اليوم إلى الاتحاد العمالي العام، وعددها نحو الخمسين، تمّ إنشاؤها في فترة ما بعد الحرب، وقد حصل هذا التكاثر في وقت كان يسجل فيه تراجع القاعدة المادية والإنتاجية للاقتصاد اللبناني، خصوصاً في قطاعي الزراعة والصناعة، فضلاً عن تراجع نسبة العمل المأجور إلى إجمالي القوى العاملة على المستوى الوطني. بالفعل، انخفضت نسبة العاملين بأجر في العقود الأربعة المنصرمة من نحو 65 في المئة في أواسط التسعينيات إلى نحو 50 إلى 55 في المئة في الوقت الحاضر. كما يلاحظ أن هذا التكاثر لم يكن مرتبطاً بحاجة موضوعية لسدّ حاجات قطاعيّة محدّدة فرضها نمو الاقتصاد وتطوّر تقسيم العمل فيه، كما يظهر من خلال أنواع الاتحادات المستحدثة، التي غلب عليها الطابع العام وليس القطاعي. إذ تُشكل الاتحادات القطاعية إضافة إلى اتحادَي المصالح المستقلّة نحو نصف إجمالي عدد الاتحادات، أما باقي الاتحادات فهي من دون وظيفة مطلبيّة.
 
وقد سعت الأحزاب المذهبية من خلال تأسيس النقابات والاتحادات إلى تحقيق هدفين على الأقلّ: أولاً تأطير عمّال المذهب وتوجيههم بما يتلاءم مع المصالح المذهبية والحزبية، وثانياً تأمين كتلة نقابية واسعة داخل الاتحاد العام واستخدامه في الصراع السياسي في البلاد. على عكس ما يعتقده البعض، فإن السيطرة على الاتحاد العمالي العام لم تكن نتيجة سعي النيوليبيرالية ممثلةً برفيق الحريري للجم حركة النقابات في وجه السياسات الاقتصادية -الاجتماعية، بالرّغم من تصفيق السياسة النيوليبيرالية لما آل اليه الاتحاد العمالي العام. فـ"تيار المستقبل" هو الأضعف من حيث عدد النقابات والاتحادات التابعة له، بالمقارنة مع حلفاء النظام السوري. السبب الأساسي لذلك هو أن قدرته على التأطير الشعبي كانت أضعف بكثير من الميليشيات التي سيطرت على الأرض. فسيطرة الأحزاب المذهبية كميليشيات على بيئاتها المذهبية من خلال شبكة من الخدمات الأمنية والاجتماعية والصحية والتعليمية، سهّلت عليها عملية تأطير أفراد المذهب بشكل عام، والعمال والموظّفين بشكل خاص. جرى التعاون والتحاصص بين الرأسمال الكبير، الذي مثّله رفيق الحريري، وأمراء الحرب في الإفادة من السياسات الاقتصادية الاجتماعية النيوليبيرالية، دون أن يعني ذلك عدم بروز خلافات وصراعات، كان يُستخدم فيها الاتحاد العمالي العام في وجه الحريري بدفع من النظام الأمني السوري - اللبناني، الذي كان يدير اللعبة ويقطف الثمار السياسية والمالية للصراعات. حتى اليوم، لا تزال قوى 8 آذار تشكل الأكثرية السّاحقة داخل الاتحاد العمالي العام بقيادة حركة "أمل" و"حزب الله"، ولا يزال الاتحاد جزءاً من الصراعات السياسية التي أخذت أشكالا مختلفة. في المحصلة، هناك اليوم 54 % من الاتحادات المنضمّة إلى الاتحاد العمالي العام تحمل صبغة حزبية مذهبية. أما الأحزاب الممثّلة فهي: "أمل" و"حزب الله" و"الاشتراكي" و"القوات" و"البعث" و"القومي"، وبنسبة أقلّ "الكتائب" و"المردة" و"التيار الوطني الحر". وكانت الاتحادات القريبة من الحزب الشيوعي قد انسحبت من الاتحاد العام منذ سنوات لاختلافها مع سياساته.
 
مسار هيمنة أحزاب السلطة خاصّة على الاتحاد العمالي العام اعتمد أيضاً على عوامل إدارية - اقتصادية (هيمنة الأحزاب الإدارية على المؤسسات الاقتصادية العامة والخاصة سمحت لها بالتأثير المباشر على عملية الاستخدام وعلى خيارات الأجراء، لا سيّما في الانتخابات النقابية)؛ وعلى عوامل تنظيمية (نظام الاتحاد العمالي العام يسمح بتكوين الاتحادات من النقابات من دون اعتبارات قطاعيّة، تمثيل الاتحادات داخل هيئات الاتحاد العمالي العام يتمّ بغضّ النظر عن حجم العضوية، مما يعطي التأثير في القرارات لعدد من الاتحادات حتى لو كانت وهميّة أو صغيرة الحجم كما هي الحال بالنسبة إلى الاتحادات المذهبية).
 
هل من المتوقع أن تؤثر الحالة الشعبية التي انتجتها الانتفاضة على إحداث تغيير في واقع الاتحاد العمالي العام، كما حصل في نقابتي المحامين والمهندسين؟
من المحتمل أن يكون لأربع خصائص على الأقل للانتفاضة، تأثير منفصل أو مشترك في النقابات العمالية:
 
- الخاصية الأولى هي هذه الاندفاعة المطلبية المدافعة عن معيشة المواطنين في إطار نظرة نقدية للسياسات المالية والاقتصادية المعتمدة. من المتوقع أن تضخ هذه الاندفاعة الحماسة في الأوساط النقابية من جهة، وأن تُبرِز الحاجة من جهة ثانية إلى مراجعة المطالب في اتجاه تغيير السياسات المالية والاقتصادية بدل الاكتفاء بالدفاع عن الحقوق المكتسبة.

- الخاصية الثانية هي في بروز كتلة شعبية مستقلة عن الأحزاب السياسية والطوائف، ومن الأرجح أنها تضم فئة من أعضاء النقابات التي يديرها حاليا ممثلون عن أحزاب أو تحالف ممثلي أحزاب. هذه الكتلة المستقلة في حاجة بالطبع إلى تظهير وتنسيق بين أفرادها في مختلف النقابات والاتحادات. وهذا ما ليس واضحا بعد، على غرار ما حصل في النقابات المهنية من خلال تجمع "مهنيون ومهنيات" التي افرزتها الانتفاضة.

- الخاصية الثالثة هي تمظهر الخصم الأول للانتفاضة تحت شعار "كلن يعني كلن"، الذي يعني عملياً الأحزاب السياسية الفاعلة في لبنان. وبما ان هذه الأحزاب السياسية هي التي تسيطر على النقابات في لبنان وعلى الاتحاد العمّالي العام، يمكننا توقع قيام معارضة داخل هذه النقابات على أيدي الأفراد المستقلين المنتفضين. من المفيد ربما التذكير بأن شعار "كلن يعني كلن" هو في الأساس من إنتاج هيئة التنسيق النقابية عندما كانت تنظم تحركاتها من أجل إقرار سلسلة الرتب والرواتب، حيث تبيّن لها عبر النضال أن مواقف الطبقة السياسية هي واحدة من مطالبها. وقد جرى لاحقاً تبني هذا الشعار وبلورته في الحراك الشعبي.
 
- الخاصية الرابعة، هي الأكثرية الشابة التي تتألف منها الانتفاضة، مع تساوٍ في مشاركة الشبان والشابات. معروف أن النقابات العمّالية تكاد تخلو من الشباب، ومشاركة النساء في عضويتها وفي قيادتها ضعيفة، ومن المتوقع ان ينخرط الشباب أكثر في النقابات بعد الانتفاضة، ولا سيما بتأثير من شبكة "مدى" التي تضم النوادي العلمانية في الجامعات، والمفترض دخول أعضائها الى سوق العمل.
 
لا يمكن التنبؤ بالشكل الذي ستتخذه هذه المعارضة العمّالية في المستقبل. فهل تبقى معارضة داخل النقابات الحالية، أم ستأخذ شكل بناء نقابات جديدة مستقلة، كما حصل في مصر والجزائر والأردن والسودان في موازاة الانتفاضات الشعبية التي حصلت في هذه البلدان؟
 
للمزيد من الوضوح في امكانات التغيير، أود الإشارة إلى ثلاثة "تحوّلات" اختبرتها شخصيّاً داخل الاتحاد العمالي العام في السنوات الاخيرة.
 
- التحول الأول ظهر في دراسة أجريتها مع أعضاء المجلس التنفيذي للاتحاد العمّالي العام وقد بيّنت بوضوح عدم قدرة الأكثرية الساحقة على إخفاء تذمرها من الوضع القائم ووصفها للاتحاد العمّالي العام بأنه غير مستقل وغير ديموقراطي وغير فعّال.
 
- التحول الثاني هو نوع من الإجماع في أوساط الكوادر النقابية من حزبيين ومستقلين، على ضرورة تعديل القانون النقابي في اتجاه المزيد من الاستقلالية للتنظيمات النقابية تجاه السلطة السياسية ووزارة العمل تحديداً، وبالتالي تعديل القانون بما يتلاءم مع الحرية النقابية المنصوص عليها في الاتفاقية الدولية رقم 87 الصادرة عن منظمة العمل الدولية. وقد أعدت الكوادر مشروعاً لتعديل المرسوم 7993 المتعلق بتنظيم النقابات وأرسلته إلى وزارة العمل.
 
- التحول الثالث هو ما عكسته إجابات عينة من قيادات الاتحاد العمّالي العام، خلال ورشة لوضع خطة استراتيجية، على السؤال الآتي: "لماذا بحسب رأيكم لا يحقق الاتحاد العمّالي العام مطاليبه؟"، فتلخصت الأجوبة بالتركيز على اربعة اسباب: تبعية الاتحاد العمّالي العام لأحزاب السلطة، هيكلية الاتحاد العمّالي العام وبنيته، أسلوب التحركات المعتمد، التركيبة الطائفية للسلطة وصعوبة الضغط عليها.
 
أعتقد بأن التغيير في الحركة النقابية اللبنانية تواجهه في الظروف الحالية ثلاثة تحديات كبرى.
 
التحدي الاول يتعلق بالاتحاد العمالي العام. فأي تغيير داخلي يفترض إجراء انتخابات في النقابات والاتحادات المنتسبة الى الاتحاد العمالي العام وفي هيئات هذا الاخير أيضا. وقد سبق وصرح وزير العمل السابق كميل ابو سليمان ان معظم النقابات والاتحادات والاتحاد العمالي العام لم تجرِ انتخاباتها بعد بحسب المواعيد التي ينص عليها القانون. وحتى ولو أجرت انتخاباتها حسب القانون، من العادة ان تتم العملية بدون التدقيق في لوائح الشطب، مما يحتم وجود مراقبين مستقلين غير وزارة العمل. أما بالنسبة لهيئات الاتحاد العمالي العام فالعملية الانتخابية نفسها لا تتوفر فيها الشروط الديموقراطية، من مثل ضرورة تسديد الاشتراكات (الاتحاد لا يجبي اشتراكات وكامل موازنته من مساعدات الدولة)، ووجود وحدات انتخابية مستقلة (هناك نقابات تنتسب الى اتحادات عدة في الوقت نفسه)، وتصويت ديموقراطي، فالتصويت بحسب عدد المنتسبين غير مطبق حيث ان لكل اتحاد مهما كبر او صغر حجمه، عدد الاصوات نفسه. وعليه، فهل المطلوب انتخابات ام تغيير كامل للهيكلية ولقواعد الانتخاب، ام انه في الحالتين "فالج لا تعالج"، والمطلوب بالتالي اتحاد عمالي عام آخر؟
 
التحدي الثاني يتعلق بالقطاعات التي لا يوجد فيها نقابات وهي التي تضم اكبر عدد من الاجراء، ذلك ان الاتحاد العمالي العام لا يضم اكثر من 5% من الذين يحق لهم الانتساب الى النقابات. إضافة الى الصعوبات التاريخية لتنظيم عمال هذه القطاعات الموزعة على مؤسسات صغيرة معظمها في القطاع غير الرسمي، يواجه العمال اليوم، في ظروف تعثر المؤسسات الاقتصادية وإغلاقاتها الدورية او النهائية، خطر الصرف من الخدمة بسهولة اذا هم حاولوا التنظّم نقابيا. من المستحسن في هذه الحال البدء بإنشاء تجمع عمالي مستقل على المستوى الوطني قبل مباشرة المقاربات (او بالتوازي معها) على مستوى المؤسسات او القطاعات. الحاجة الى هذا التنظيم العمالي المستقل على المستوى الوطني، لا تستدعيه فقط مخاطر الصرف من الخدمة، بل كون مسببات الازمة عامة أكثر مما هي قطاعية او ذات علاقة باوضاع المؤسسات الاقتصادية.
 
التحدي الثالث يتعلق بالقوى التي ستدفع من اجل مواجهة التحدي الاول والثاني. حتى الآن لم تبرز قوى عمالية مستقلة ومعارضة، تعلن عن نفسها داخل النقابات والاتحادات والاتحاد العمالي العام. في المقابل هناك تجمع "التحالف الاجتماعي" الذي يضم نقاببيين من مختلف القطاعات والذي يزمع العمل على التنظيم القطاعي المستقل، و"المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين" الذي ينتقد الاتحاد العمالي العام ويطالب بانتخابات ديموقراطية.

مطلوب التنسيق بين مختلف القوى المعارضة. والاهم من كل ذلك، المطلوب مواكبة اي جهد تنظيمي قطاعي او عام بحملات مطلبية، تستجيب الاحتياجات المعيشية للعمال والموظفين. فالتحرك المطلبي هو الدافع الابرز للتنظيم وهو الذي يعطي هذا التنظيم الشكل الهيكلي المناسب.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم