الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

في الذكرى السابعة بعد المئة للإبادة الجماعية الأرمينية... سامحيني يا أرضي

رئيس الوزراء الأرميني (أ ف ب).
رئيس الوزراء الأرميني (أ ف ب).
A+ A-
سيروج أبيكيان
 
لا أدري كيف بقيت حيّاً. لا أعرف كيف أعيش. لا أفكر في العودة، وهل من طريقٍ للعودة؟

ولكنّني أعلم كيف افترقت عنك يا أرضي، حيث كانت الغاية إبادتنا، والقضاء علينا، ومحو أثرنا وآثارنا وثقافتنا. أطريق الفراق هي طريق العودة؟

تمرّ صور تلك الأيام في مخيّلتي، فأتذكّر طفولتي عندما جمعتنا البراءة والسّعادة والأفكار السطحيّة البسيطة، فأناديك اشتياقاً: "أين أنت يا أرضي؟".
 
عندما بلغت مرحلة الوعي أيقنت أنّ ما كان يجمعنا هو أعمق ممّا ظننت وشعرت وعشت؛ أيقنت أنّه منك ولد فؤادي، وفيك ومنك وُلِدت، ولأنت فيّ كلّ يوم تولدين.
 
اليوم بدأت أفهم أكثر؛ فهمت معاني تلك العلاقة وما كان ليملأ حياتي، وكلّ ما يحيطني ويغمر طفولتي وشبابي، لأعود وأتذكر وأعيش الحياة والواقع خيالاً يراودني ويحملني إلى الأمس.
 
أشعر بالنسيم اللطيف، وأتذكر تلك الشجرة العملاقة قرب منزلنا تعبّر عن السعادة والطمأنينة بحفيف أوراقها. أتذكر أمواج بحيرة "فان" المولودة من رحمها، لتموت على صخور ورمال شواطئها، أتذكّر المدينة وحياتها ونبضها وضوضائها وزحمة ناسها.
 
أتذكّر الشتاء القارس، والثلج الناصع يغطّي سفوح الجبال، ويشعّ لمعانه مع كلّ إشراقة للشمس لينقل البرد والدفء إلى نفوسنا.
 
أتذكّر شرارة الصّيف والأشعة المتلاشية في داخل بيوتنا الخشبية.
 
أتذكّر البراري والمراعي وخضرة السهول، والحيوانات الأليفة الأكثر إنسانية من البشر، والكلاب الحارسة الوفيّة التي كانت تحمينا من الحيوانات المفترسة ومن أشباه البشر المتوحّشين.
 
أتذكر النّهار وظلّه. واليوم فهمت أنّه لولا الشمس لما كان النور، ولولا النور لما كان الظّل، ولولا النّور لما عرفنا ظلام اللّيل.
 
أتذكر اللّيل والقمر الفضّي يملأ السماء، ويرسل خيوطه لتحتلّ كياني خارقةً زجاج نافذتي، وليلمع البريق في عينيّ، فأنظر إلى الغابة وأراها فضيّة وسوداء؛ لوحةٌ علّمتني أن الحياة نور وظلام، خيرٌ وشرّ.
 
أشمّ العطر، عطر والدي ينثره كلّ صباحٍ على عنقي، ويقبّل جبيني، ويودّعني عند ذهابي إلى المدرسة، وهو إلى عمله، وكأنّه آخر مرّة يراني. ربّما كان يعلم ما المصير المنتظر، وأنا غافلٌ ما زلت أعيش البراءة. نعم، كنت غافلاً عن معاني ودلالات ما يدور من حولنا.
 
أتذكّر ليالي السهر والعائلة المفعمة بالفرح، والموسيقى والنغم في الببيت، ورقص والدي على وقع الأغاني التراثيّة وضحكته المزلزلة.
 
ولكن اليوم...
 
استشهاد والدي وغيابه الأليم يبكيني.
 
الآن فهمت، وقد أغدو متأخّراً، أن الشمس الرائعة وحرارتها الدافئة أحياناً تكون حارقة.

أن القمر منوّر وجميل، لكن وجهه الآخر ظلامٌ وغموض.
 
أن الأمطار الهادئة والهنيّة المباركة قد تتحوّل إلى فياضانات جارفة.

أن الثلج الأبيض الناصع اللطيف يكون أحياناً قاسياً مجمّداً للحياة.

أن الفواكه الشهيّة اللذيذة قد تكون في بعضها سامّة قاتلة.

أن النحلة المعطاءة قد تصبح لادغة خادعة.

أن العصافير زقزقتها ألحانٌ مريحة على إيقاع الطبيعة، لكن الغراب موجود بصوته المزعج.

لم أكن أظنّ يوماً أن بيوتنا الخشبيّة يسهل تدميرها وهدمها.

ولكن... طريق العودة... وهل من طريقٍ للعودة؟

سامحيني يا أرضي، سامحيني لأنني لم أستطع النضال كفايةً كي أبقى معك. نعم ابتعدت، ولكنّني لن أتركك لمصيرك وأن يشبه مصيري، ولا أريدك أن تبكي أو تغضبي أو تحزني، بل أريد فقط أن تعتبي وتعلمي أن الفراق المفروض والمحتّم يولّد اشتياقاً كبيراً وحبّاً عظيماً يتعاظم أكثر يوماً بعد يوم، وأحلم بالوصال والعناق.

لأنني، أخيراً فهمت أن قساوة الحياة والصعوبات تصنع وتخرج إلى الحياة رجالاً، فوعدي لك يا أرضي أن الذكريات الجميلة التي أصبحت أليمة ستبقى حيّة في داخلي إلى يوم عودتي بالاندفاع الرجوليّ كي أعبدك وأعبد السماء فوقك.
 
فإن الذي يجري في عروقي ليس دمي، بل فيض غزارة ذكرياتي التي تحملني إلى النضال.
 
 مدير مركز MEC affairs
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم