الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

استقلالهم لو يعود

المصدر: "النهار"
إكليل الجمهورية اللبنانية (تعبيرية- مارك فياض).
إكليل الجمهورية اللبنانية (تعبيرية- مارك فياض).
A+ A-
المحامي انطوان صفير 
 
داهمتنا أزمات متراكمة هي الأشد خطورة على الكيان الوطني منذ مجاعة 1914 الكبرى مع انهيار اقتصادي ومؤسساتي وخرق القوانين واستشراء الفساد من دون رادع. ولا بدَّ من التوقف عند مسار لبنان الكبير الذي نستذكر أول ذكرى استقلال في مئويته الثانية وقد ضاعت معانيه لتصبح آمالا متكسرة.
 
1. الواقعات السياسية للبنان الكبير 
 
لم يأتِ لبنان الكبير في العام 1920 من عدم أو من قبيل المصادفة السياسية الدولية، بل هو تتويج قانوني لنضال سخي طوال عقود. وقد ثابر اللبنانيون على تعلقهم بالحرية والاستقلال، وعرفوا كيف يستثمرون التوقيت الدولي المؤاتي، فطالبوا حتى تكرس لبنان الكبير كياناً سياسياً وقانونياً من قبل المجموعة الدولية الممثلة وقتذاك بعصبة الأمم. والبطريركية المارونية لم ترسم معالم الكيان السياسي الوليد، بل ناضلت مع القيادات التي كلفت البطريرك الحويك رئاسة الوفد الثاني إلى باريس من أجل المطالبة باستقلال لبنان "الطبيعي"، وزاوجت بين الجبال العصية والسهول الغناء محققة عمقاً استراتجياً لهذا الكيان. والبطريرك الحويك لم يكن مخيراً بين اعتماد لبنان الكبير بوضعيته الحالية وبين إقرار استقلال جبل لبنان مع ضمّ مساحات "مسيحية" من الساحل السوري إليه، بل كان خيار الحويك محصوراً، خصوصاً بعد محادثات فيصل في باريس، في تكريس حكم ذاتي للجبل بشكل لا يرقى إلى الاستقلال، على أن يكون تابعاً للحكومة العربية في دمشق. 
وقد رفض البطريرك الحويك بشكل قاطع أن يتحول لبنان مرة جديدة إلى وضعية تبعية ولو عبر حكم ذاتي كان من الممكن أن يهتز أو يطاح به عند أي تغيير في لعبة الأحلاف. وفي ذاكرة الحويك صور معاناة الأهالي طوال الحكم المملوكي ومن ثم العثماني خصوصاً في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. 
 
وقد تلقفت بكركي التوقيت المؤاتي بُعيد انتصار الحلفاء في الحرب الكونية الأولى، وشكّلت حاضنة للمطالبة اللبنانية التاريخية بالاستقلال الناجز دون تبعية من أي نوع. وتجدرالإشارة في هذا السياق، إلى أن الانتداب الذي قررته عصبة الأمم شكّل تطبيقاً قانونياً دولياً للاتفاقات السياسية بين بريطانيا وفرنسا، والتي كانت اتفاقية سايكس- بيكو أحد تجلياتها1. ولبنان الكبير في فلسفة البطريرك الحويك لم يكن مساحة في الجغرافيا السياسية بل مساحة رسالية، إذ أنّه لا يمكن لأي مكّون أن يختصر الكيان اللبناني أو أن يختزل بقية المكونات، مهما عظمت قوته وتلقى دعماً من خارج الحدود. 
 
لكن بكركي ظلت أمينة على هذا "اللبنان"، اذ دأبت على المطالبة باحترام خصوصية الكيان اللبناني ورفعت الصوت كلما اهتزت ثوابت هذا الكيان. وقد عارضت بعض القيادات المسيحية التوجهات البطريركية في مراحل معينة، لأن بكركي لم تكن لتتفاعل مع "اللحظة"، ولكن عندما يتعلق الأمر بالثوابت، فليس أكثر حسماً من خيارها.

1. انطوان صفير، قراءة في الدستور والتعددية والحياد، مجلة المنارة 2020.
وأمثولات التعددية التي كرستها الصيغة اللبنانية تجلت باستياء البطريرك عريضة من كيفية إدارة انتخابات أيار 1947 وبنضاله من أجل تكريس خصائص الوطن والمواطنية. كما انتقد البطريرك المعوشي بقسوة نتائج انتخابات 1964. بينما ناوأ الوجود الفلسطيني المسلح و"اتفاق القاهرة" في العام 21969. ولا بد من التذكير أن روحية لبنان الكبير والصيغة اللبنانية قد تجلت في فتح البطريرك صفير صالون بكركي للعزاء بمفتي الجمهورية حسن خالد الذي استشهد سنة 1989.
 
2. الوضعية الدستورية للجمهورية 
 
أُرسيت أسس الدولة اللبنانية وأُنشئت المؤسسات، وأبرز النتائج كان إقرار الدستور اللبناني سنة 1926، والذي عدّل بشكل واسع بعد سنة، ثم أدخلت عليه تعديلات كبيرة تطبيقاً لوثيقة الطائف، وهو بدون شك يحتاج إلى إعادة قراءة شاملة ليتلاءم مع المقتضيات. 
 
والدستور اللبناني هو مدني بامتياز، إذ لم يجعل مصدر التشريع مستنداً إلى أي دين أو مذهب، ولم يفاضل بين المكوّنات الوطنية. أمّا وجود القيد الطائفي فما هو إلا ضامناً لمدنية الدولة، بحيث إن التعددية هي الركن الأساس للطابع المدني للنظام الدستوري، وإن حصل أن أُلغي هذا القيد الطائفي بشكل غير مقترن بآليات حديثة تحافظ على التعددية، وقعنا في المحظور.
 
الجدير ذكره، أنه وأثناء وضع الدستور اللبناني، طالبت البطريركية المارونية بالحياد اللبناني، ونتيجة لذلك طلب المفوض السامي الفرنسي هنري دو جوفانيل من السلطات الفرنسية أن تُرسِل إليه نسخة من الدستور السويسري الذي يقر الحياد بعدما وجده مناسبًا للتركيبة اللبنانية. 
تجدر الإشارة إلى أن الموقف اللبناني شبه الجامع حول رفض التوطين هو من العوامل الجامعة بالنسبة إلى لبنان ما بعد الحرب، كما يجدر التذكير أن بكركي قد رفضت التمديد لأي رئيس للجمهورية كما انتخاب رئيس للجمهورية بصوت زائد واحد، كي يكون رئيساً لأكثرية اللبنانيين وليس رئيس فئة، مهما اختلفت التفسيرات الدستورية3. 
 
لم تكن الجمهورية أن تقوم لولا الإرادة المسيحية التي لاقت إرادة إسلامية في إطلاق عجلة الاستقلال عن دولة الانتداب. وقد قامت الجمهوريّة اللبنانية مُكرّسة بالميثاق الوطني، ما يعني أن حالة الحياد السياسي قد تكرّست في معركة الاستقلال بين المكونات اللبنانية. الجدير ذكره، أن البطريرك عريضة كان متوجساً من استقلال لا يحقق الأهداف الوطنية بشكل يحفظ التعددية، ولكنه دعم الالتزام بالحياد بين الشَّرق والغرب والذي أقره آباء الاستقلال وحكومته. 
2.هالة حمصي، النهار16-11-2017.
 
3. إميل خوري، السلطة الرابعة، 12 شباط 2009.
 
وقد أكدت مذكرة "لبنان والحياد الناشط" التي صدرت عن بكركي في 17 آب 2020 على وجوب مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية وكل اعتداء عبر"تعزيز الدولة اللبنانية لتكون دولة قوية... خلاصة القول في هذا المجال "إن لبنان لا يرتجي خيراً من القوة وهو يرتجي كل الخير من العدل والقانون الدوليين4. ونذكر في هذا السياق قول البطريرك صفير مراراً، أننا لن نستطيع المطالبة الحاسمة بجلاء الجيش السوري إلا بعد خروج الاحتلال الإسرائيلي. ومن هنا أتى نداء المطارنة في 20 أيلول 2000، الذي شكل موقفاً استراتيجياً مميزاً. 
 
مواقف بكركي لم تكن حيادية ولا متفرجة عندما يكون مصير لبنان في كفة الميزان، لذلك كانت للبطاركة مواقف صريحة، لا بل جريئة في زمن العثمانيين، وفي زمن الانتداب وفي زمن الوصاية. كما كانت لهم مواقف من استقلال لبنان عام 1943، ومن جلاء الجيوش الأجنبية عن أرضه، ومن العلاقات مع سوريا عندما فرضت القطيعة على لبنان، ومن انضمام لبنان إلى جامعة الدول العربية اذ اشترطوا أن تتخذ القرارات الملزمة بالإجماع، ومن انتخابات أيار 1947 المزورة، ومن التجديد للرئيس بشارة الخوري، ومن حلف بغداد، ومن "المد الناصري" عندما بدا أنه يهدد لبنان بوجوده وكيانه، ومن انتخابات 1992 كونها جرت بشكل مخالف لاتفاق الطائف، كما وقفت بعناد ضد بقاء القوات السورية في لبنان خلافاً لما نص عليه اتفاق الطائف، وتحملت في كل هذه المواقف مسؤوليتها وهي مواقف اتخذت لمصلحة لبنان وليس انحيازاً لأي فريق.5 ويقول قريبون من بكركي أن لا حياد عندما تتهدد الأخطار لبنان بكيانه ووجوده وهويته ونظامه6. في غمرة الزمن الرديء الذي يعيشه لبنان، تطرح علامات استفهام مصيرية حول المستقبل، وأول السبل إطلاق طاقم سياسي جديد وتطوير النظامين الدستوري والسياسي. 
 
4. حميد فرنجية، الجريدة الرسمية، جلسة مجلس النوّاب، 4 أيلول 1945. 
 
5-6. إميل خوري، السلطة الرابعة،12 شباط 2009.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم