بعد وصول الجنرال الإسرائيلي المتطرف أرييل شارون، الى سدة رئاسة الحكومة لأول مرة في إسرائيل عام 2001، وتبنيه قرارات ومشاريع تخالف مع ما وعد به خلال حملته الانتخابية، ذهب اليه عدد من ناخبيه وداعميه لمطالبته بالالتزام بعهوده فرد عليهم: من على هذا الكرسي، ومن هذا الجانب من الطاولة، أرى الأمور بشكل مختلف.
وهذا الأمر يصح في حق كل قائد منتخب، وإن بقي التفاوت في مدى الالتزام - أو نية الالتزام - بالبرنامج الانتخابي، وفي خبراته، والتبدلات التي قد تحدث في المشهد العام بعد توليه. فخلال الحملة الانتخابية، تدفع المنافسة كل مرشح للتصريح والتلميح بما يحسب أنه سيكسبه ما يحتاجه من أصوات. وقد يناقض نفسه بين ما يعد به التاجر مثلاً، وما يعد به المستهلكين. وتصل المزايدة بين المرشحين الى وعود هلامية أو خيالية يعلمون أنها كذلك. ولكن الناخب البسيط في تعليمه وثقافته وقدراته العقلية قد يصدقها. والأغرب أن يختار من هم أكثر علماً وخبرة تصديقها، لأنها تغذّي أحلامهم وتشنّف آذانهم.
وفي شرقنا المبتلى، كان لنا نصيب وافر من هؤلاء القادة الذين وعدونا الثريا فلم ندرك معهم غير الثرى. وبقوا عاماً بعد عام، وانتخابات بعد أخرى (إن سمحوا بها وتنزهوا)، يكررون الأسطوانات المشروخة نفسها. وفي النهاية ذهبوا عن الدنيا ولم تحرر فلسطين، ولا رمينا إسرائيل في البحر، ولا توحّدت الأمة من المحيط الهادر الى الخليج الثائر. رحلوا وتركوا ما ورثوه أقل وأضعف وأفقر.
إرث ترامب
وبرغم عيوبه الشخصية، يُذكر للرئيس ترامب أنه أوفى بما تعهد به لناخبيه، اتفقنا مع سياساته أو اختلفنا، فلم يخض حرباً جديدة، خلاف من سبقه من رؤساء، وسحب قواته من بؤر الخطر، وطبّع علاقات إسرائيل بأربع دول عربية، وبنى السفارة الأميركية في القدس واعترف بضم الجولان، وقضى على دولة "داعش"، وانسحب من الاتفاق النووي مع إيران مع تكبيلها بالعقوبات، وأسهم في تحقيق المصالحة الخليجية، وفرض على حلفائه تحمل تكلفة الدفاع عنهم، وروّج للمنتجات الأميركية، وبنى الجدار مع المكسيك، وحارب الهجرة غير الشرعية، وأعاد الاستثمارات الخارجية وواجه التنين الصيني، وخفض البطالة ورفع سوق الأسهم الى مستويات تاريخية. ولولا جائحة كورونا لربما كان الاقتصاد الأميركي اليوم أفضل حالاً مما كان عليه منذ عقود.
ولكنه في الوقت نفسه يترك للرئيس الجديد تحديات كبيرة وملفات ساخنة، لعل أبرزها الخلافات مع أوروبا وروسيا والصين وفنزويلا والمكسيك والمنظمات الأممية والاتفاقيات الدولية، والمواجهة الاقتصادية والعسكرية مع إيران، وربما تركيا، والانقسام الداخلي الحاد، وتصاعد التيار اليميني المتطرف، ومخالفات اتفاقية المناخ والأنظمة البيئية، والأبعاد الصحية والاقتصادية لجائحة كورونا، برغم تحقيق وعده باكتشاف اللقاح وتوفيره.
رؤية بايدن
وعندما يجلس سيد البيت الأبيض الجديد، جو بايدن، الى مكتبه العتيق، في المكتب البيضاوي، ويطّلع على التقارير اليومية المقدمة من قيادات الأمن القومي والاستخبارات المركزية والشرطة الفدرالية والأمن الوطني والهجرة والبنتاغون والخارجية والخزانة، وغيرها من الإدارات السيادية، سيرى العالم بغير ما كان يراه خارج دائرة صناعة القرار.
ومع أن الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة يأتي من خلفية سياسية عميقة وطويله، تقلّب فيها بين الكونغرس والبيت الأبيض على مدى أربعة عقود، ومع أنه قضى ثماني سنوات نائباً للرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما (2009 - 2017)، إلا أنه ابتعد أربع سنوات عن غرفة العمليات التنفيذية، تغيّر خلالها العالم وأميركا كثيراً، واستجدت في الأمور أمور. والأمر نفسه ينسحب على مساعديه المخضرمين، القادمين معه من الإدارة السابقة.
ولعل التصريحات والإجابات التي قدمها مرشحوه لقيادة الإدارات (الوزارات) السيادية في استجواب الكونغرس لتثبيتهم، تشي باستيعابهم المتغيرات التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة. ومثال ذلك، تأكيد مرشحيه للاستخبارات والخارجية والدفاع أهمية إشراك حلفاء أميركا في الشرق الأوسط في أي مفاوضات جديدة للاتفاق النووي مع إيران، وأن تشمل سد الثغرات التي ظهرت، وإضافة البرنامج الصاروخي والسلوكيات المزعزعة للسلام. وبالنسبة الى تركيا، التي كانت حليفة لواشنطن في مشروع الربيع العربي بعهد أوباما، صار عليها الانسحاب من بؤر الصراع، وجلّها في الدول العربية، من سوريا والعراق، الى ليبيا والصومال، والكف عن التدخلات في شؤونها الداخلية.
وبرغم تمايز الإدارة الجديدة عن السابقة في الملف الفلسطيني، وتأكيد حل الدولتين، وإعادة التواصل مع القيادة الفلسطينية وفتح ممثليتها في نيويورك والعودة لدعم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، إلا أن السفارة التي عارضت إدارة أوباما نقلها الى القدس ستبقى، وستواصل الإدارة مشوار التطبيع بين إسرائيل والبلدان العربية. وفي ما يخص مشروع فرض الديموقراطية والقيم الأميركية على المنطقة، فقد تراجع ذلك من تآمر مع إيران وتركيا والإخوان، ومخطط "الفوضى الخلاقة" الذي خططت له إدارة الرئيس جورج دبليو بوش ونفذته إدارة أوباما، الى مجرد دعوات للضغط الدبلوماسي على قيادات المنطقة في مجال الحريات المدنية وحقوق الإنسان وربطها بالمساعدات الاقتصادية والصفقات العسكرية والدعم السياسي.
عالم جديد
إذاً نحن أمام إدارة جديدة، وإن جاءت بخبرة إدارة سابقة، وهي تعي تماماً أن خريطة العالم اختلفت عما كانت عليه، وتغيّرت معها التحديات والتهديدات والأهداف، وبالتالي الأولويات والتحالفات والأدوات. ومع التزامها المعلن بالقيم الديموقراطية، إلا أنها كسابقاتها من الحزبين، تعلم حدود الممكن والمستحيل. وأن أمن أميركا ومصالحها في نهاية المطاف، هي المسؤولية الأولى لقيادتها، أياً كانت خلفيتها السياسية. وأن الدولة العميقة في بلد مؤسساتي بحجم الولايات المتحدة، لن تقبل بأقل من ذلك، ولن تسمح بالتفريط بالبلد من أجل الشعار، وبالمصلحة من أجل المبدأ. وهي كغيرها ينطبق عليها القول: "عندما نتكلم فكلنا أصحاب مبادئ، وعندما نعمل فكلنا أصحاب مصالح".
وهذا الأمر يصح في حق كل قائد منتخب، وإن بقي التفاوت في مدى الالتزام - أو نية الالتزام - بالبرنامج الانتخابي، وفي خبراته، والتبدلات التي قد تحدث في المشهد العام بعد توليه. فخلال الحملة الانتخابية، تدفع المنافسة كل مرشح للتصريح والتلميح بما يحسب أنه سيكسبه ما يحتاجه من أصوات. وقد يناقض نفسه بين ما يعد به التاجر مثلاً، وما يعد به المستهلكين. وتصل المزايدة بين المرشحين الى وعود هلامية أو خيالية يعلمون أنها كذلك. ولكن الناخب البسيط في تعليمه وثقافته وقدراته العقلية قد يصدقها. والأغرب أن يختار من هم أكثر علماً وخبرة تصديقها، لأنها تغذّي أحلامهم وتشنّف آذانهم.
وفي شرقنا المبتلى، كان لنا نصيب وافر من هؤلاء القادة الذين وعدونا الثريا فلم ندرك معهم غير الثرى. وبقوا عاماً بعد عام، وانتخابات بعد أخرى (إن سمحوا بها وتنزهوا)، يكررون الأسطوانات المشروخة نفسها. وفي النهاية ذهبوا عن الدنيا ولم تحرر فلسطين، ولا رمينا إسرائيل في البحر، ولا توحّدت الأمة من المحيط الهادر الى الخليج الثائر. رحلوا وتركوا ما ورثوه أقل وأضعف وأفقر.
إرث ترامب
وبرغم عيوبه الشخصية، يُذكر للرئيس ترامب أنه أوفى بما تعهد به لناخبيه، اتفقنا مع سياساته أو اختلفنا، فلم يخض حرباً جديدة، خلاف من سبقه من رؤساء، وسحب قواته من بؤر الخطر، وطبّع علاقات إسرائيل بأربع دول عربية، وبنى السفارة الأميركية في القدس واعترف بضم الجولان، وقضى على دولة "داعش"، وانسحب من الاتفاق النووي مع إيران مع تكبيلها بالعقوبات، وأسهم في تحقيق المصالحة الخليجية، وفرض على حلفائه تحمل تكلفة الدفاع عنهم، وروّج للمنتجات الأميركية، وبنى الجدار مع المكسيك، وحارب الهجرة غير الشرعية، وأعاد الاستثمارات الخارجية وواجه التنين الصيني، وخفض البطالة ورفع سوق الأسهم الى مستويات تاريخية. ولولا جائحة كورونا لربما كان الاقتصاد الأميركي اليوم أفضل حالاً مما كان عليه منذ عقود.
ولكنه في الوقت نفسه يترك للرئيس الجديد تحديات كبيرة وملفات ساخنة، لعل أبرزها الخلافات مع أوروبا وروسيا والصين وفنزويلا والمكسيك والمنظمات الأممية والاتفاقيات الدولية، والمواجهة الاقتصادية والعسكرية مع إيران، وربما تركيا، والانقسام الداخلي الحاد، وتصاعد التيار اليميني المتطرف، ومخالفات اتفاقية المناخ والأنظمة البيئية، والأبعاد الصحية والاقتصادية لجائحة كورونا، برغم تحقيق وعده باكتشاف اللقاح وتوفيره.
رؤية بايدن
وعندما يجلس سيد البيت الأبيض الجديد، جو بايدن، الى مكتبه العتيق، في المكتب البيضاوي، ويطّلع على التقارير اليومية المقدمة من قيادات الأمن القومي والاستخبارات المركزية والشرطة الفدرالية والأمن الوطني والهجرة والبنتاغون والخارجية والخزانة، وغيرها من الإدارات السيادية، سيرى العالم بغير ما كان يراه خارج دائرة صناعة القرار.
ومع أن الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة يأتي من خلفية سياسية عميقة وطويله، تقلّب فيها بين الكونغرس والبيت الأبيض على مدى أربعة عقود، ومع أنه قضى ثماني سنوات نائباً للرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما (2009 - 2017)، إلا أنه ابتعد أربع سنوات عن غرفة العمليات التنفيذية، تغيّر خلالها العالم وأميركا كثيراً، واستجدت في الأمور أمور. والأمر نفسه ينسحب على مساعديه المخضرمين، القادمين معه من الإدارة السابقة.
ولعل التصريحات والإجابات التي قدمها مرشحوه لقيادة الإدارات (الوزارات) السيادية في استجواب الكونغرس لتثبيتهم، تشي باستيعابهم المتغيرات التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة. ومثال ذلك، تأكيد مرشحيه للاستخبارات والخارجية والدفاع أهمية إشراك حلفاء أميركا في الشرق الأوسط في أي مفاوضات جديدة للاتفاق النووي مع إيران، وأن تشمل سد الثغرات التي ظهرت، وإضافة البرنامج الصاروخي والسلوكيات المزعزعة للسلام. وبالنسبة الى تركيا، التي كانت حليفة لواشنطن في مشروع الربيع العربي بعهد أوباما، صار عليها الانسحاب من بؤر الصراع، وجلّها في الدول العربية، من سوريا والعراق، الى ليبيا والصومال، والكف عن التدخلات في شؤونها الداخلية.
وبرغم تمايز الإدارة الجديدة عن السابقة في الملف الفلسطيني، وتأكيد حل الدولتين، وإعادة التواصل مع القيادة الفلسطينية وفتح ممثليتها في نيويورك والعودة لدعم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، إلا أن السفارة التي عارضت إدارة أوباما نقلها الى القدس ستبقى، وستواصل الإدارة مشوار التطبيع بين إسرائيل والبلدان العربية. وفي ما يخص مشروع فرض الديموقراطية والقيم الأميركية على المنطقة، فقد تراجع ذلك من تآمر مع إيران وتركيا والإخوان، ومخطط "الفوضى الخلاقة" الذي خططت له إدارة الرئيس جورج دبليو بوش ونفذته إدارة أوباما، الى مجرد دعوات للضغط الدبلوماسي على قيادات المنطقة في مجال الحريات المدنية وحقوق الإنسان وربطها بالمساعدات الاقتصادية والصفقات العسكرية والدعم السياسي.
عالم جديد
إذاً نحن أمام إدارة جديدة، وإن جاءت بخبرة إدارة سابقة، وهي تعي تماماً أن خريطة العالم اختلفت عما كانت عليه، وتغيّرت معها التحديات والتهديدات والأهداف، وبالتالي الأولويات والتحالفات والأدوات. ومع التزامها المعلن بالقيم الديموقراطية، إلا أنها كسابقاتها من الحزبين، تعلم حدود الممكن والمستحيل. وأن أمن أميركا ومصالحها في نهاية المطاف، هي المسؤولية الأولى لقيادتها، أياً كانت خلفيتها السياسية. وأن الدولة العميقة في بلد مؤسساتي بحجم الولايات المتحدة، لن تقبل بأقل من ذلك، ولن تسمح بالتفريط بالبلد من أجل الشعار، وبالمصلحة من أجل المبدأ. وهي كغيرها ينطبق عليها القول: "عندما نتكلم فكلنا أصحاب مبادئ، وعندما نعمل فكلنا أصحاب مصالح".
نُشر أيضاً في "النهار العربي"