الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

تونس... وسياسة الهروب إلى الأمام إزاء التحركات الشبابية

اشتباكات بين متظاهرين وقوات الأمن خلال احتجاج بمدينة سليانة التونسية (أ ف ب).
اشتباكات بين متظاهرين وقوات الأمن خلال احتجاج بمدينة سليانة التونسية (أ ف ب).
A+ A-
روعة قاسم
 
تعيش تونس هذه الأيام على وقع اضطراباتها الاجتماعية المعهودة في هذه الفترة من السنة، والتي شهدت أهم أزماتها على مرّ تاريخها الحديث، بعد أن بات كانون الثاني شهر تصفية الحسابات بين الشعب وحكامه وبين القوى السياسية في ما بينها. وكأن الأمر يتعلق بموسم حج سنوي لإحدى الديانات يلتقي فيه المؤمنون للقيام بجملة من الطقوس بصورة جماعية وذلك لأيام معدودة ثم يتفرقون على أمل اللقاء مجدداً في الفترة ذاتها من السنة المقبلة.
 
كأن الأمر يتعلق أيضاً بعادات وتقاليد موروثة عن الأسلاف، أو ذكرى سنوية لا بد من إحيائها بصورة دورية في مثل هذا الوقت من العام، في مشاهد باتت مألوفة لدى عموم التونسيين ولم تعد تحرك ساكناً لدى البعض. إطارات مطاطية تحترق يتمّ من خلالها قطع الطرق في الأحياء الفقيرة والجهات المحرومة من التنمية، ومراهقون وشبّان يرشقون قوات الأمن بالحجارة وأحياناً بقنابل المولوتوف، وأمنيون يردون بالقنابل المسيلة للدموع، واعتداءات على الممتلكات العامة والخاصة، ودخان متصاعد يؤثر سلباً في عدسات المصورين التي تحاول عبثاً سبر أغوار هذه الفوضى العارمة.
 
لقد رحل نظام بن علي، وأصبحت بعده تونس أول ديموقراطية عربية غير طائفية وغير محروسة من مؤسسة ملكية أو عسكرية، ونال البلد ممثلاً بمجتمعه المدني الذي رعى حوار الأحزاب جائزة نوبل للسلام، وتداول على حكم البلاد في عشر سنوات خمسة رؤساء للجمهورية، وتسعة رؤساء حكومة وجحافل لا تحصى من الوزراء والمستشارين وكبار مسؤولي الدولة. لكن شيئاً لم يتغير في البلاد على مستوى معيشة التونسيين، بل ازدادت الأمور سوءاً إلى درجة الاختناق، وبدأ عدد مهم من التونسيين يشعرون بالحنين إلى الديكتاتورية الغابرة، فلم تتوقف الاحتجاجات والاضطرابات الاجتماعية وإن اختلفت أشكال التعبير عنها.
 
ولعل في استمرار هذه الاحتجاجات من قبل الشباب المهمشين في الأحياء والمناطق الفقيرة على مدار الأعوام الماضية يبرهن على أن رغبة هذه الطبقات المضطهدة والبائسة في عام 2010 لم تكن الإطاحة بنظام بن علي وبناء نظام ديموقراطي وإطلاق الحريات، بل كانت غاية هؤلاء أساساً هي تحقيق مطالب اقتصادية واجتماعية تتعلق بالتشغيل وتنمية الجهات المحرومة وخلق الأمل للأجيال القادمة للتجذر في التربة الوطنية عوض التفكير في قوارب الموت والهجرة السرية إلى القارة العجوز. لكن المشكلة في الطبقة السياسية الحالية، وفي أغلبها من معارضي نظام بن علي، خصوصاً "حركة النهضة الإخوانية"، وبدفع من الخارج الذي لديه مصلحة في سقوط النظام التونسي ليتمكن عبر الخضراء من الولوج إلى ليبيا والهيمنة على ثرواتها، سطت على مطالب المسحوقين وثوراتهم التي لم تكن طرفاً فيها وحولتها إلى عالم السياسة لتصفية الحسابات مع خصمها اللدود.
 
ويتساءل البعض عن أسباب هذه الاستقالة للطبقة السياسية في تونس من الاستماع إلى نبض الشارع والفئات المحرومة... ألم تتنبه الأحزاب السياسية إلى اتساع الهوة بينها وبينهم من خلال نتائج الانتخابات الأخيرة التي شهدت عزوفاً لغالبية الناخبين الرافضين لبرامج هذه الأحزاب ووعودها الكاذبة وللعملية السياسية برمتها؟ ألم يكن من الأجدر للحركة "الإخوانية" التونسية أن تستشعر الخطر بأنها لا تمتلك عمقاً شعبياً وجماهيرياً كافياً عوض الاحتفال بالعدد الزهيد الذي صوت لها والذي لم يتعدَ نصف مليون ناخب؟ وإذا كان هذا شأن الحزب الأول من حيث التمثيل الشعبي، فكيف هو حال بقية الأحزاب التي وصل أغلب نوابها إلى قبة قصر باردو بأفضل البقايا من خلال نظام انتخابي بائس أفرز مشهداً برلمانياً أكثر بؤساً؟
 
لقد خرج البعض يتغنى في الذكرى العاشرة للثورة بما سماها "إنجازات تحققت للتونسيين" مستفزاً الجياع من أبناء الجهات المحرومة والأحياء الفقيرة والذين لم تزدهم سيطرة هؤلاء على الحكم بعد الثورة إلا بؤساً على بؤس. ولعل ذلك كان من الأسباب التي زادت من شدة الاحتقان خصوصاً أنه، وخلافاً للسنوات المقبلة، لم يتضمن قانون المالية لهذه السنة زيادة في الضرائب التي تثقل كاهل المواطن والتي كثيراً ما كانت هي الدافع إلى التظاهر والإضراب في الأعوام الماضية.
 
ويتهم بعض قيادات "حركة النهضة الإخوانية" رئيس الجمهورية قيس سعيد بتحريك هذه الاحتجاجات من خلال تنسيقياته في الجهات، وذلك لأسباب عديدة منها غضبه من إقالة وزرائه في التعديل الوزاري الأخير الذي أجراه رئيس الحكومة هشام المشيشي ورضخ فيه لإملاءات "حركة النهضة". كما أن البعض يتهم رئيس الجمهورية بأنه بات أسيراً لدى رئيس التيار الديموقراطي محمد عبو الذي لم يهضم خروجه وفريق حكومة الفخفاخ من الحكم بصورة مبكرة بعد أن حرّكت "حركة النهضة" ملف فساد ضد "صاحب القصبة" (مقر رئاسة الحكومة) إلياس الفخفاخ وأجبرته على الاستقالة.
 
ولعل ما يزيد من شبهة تحريك الرئيس قيس سعيد للشارع هو رغبته التي أعلن عنها حتى قبل وصوله إلى قصر قرطاج، وهي تغيير شكل النظام باتجاه منح صلاحيات أوسع لرئيس الجمهورية ذي الصلاحيات المحدودة في النظام البرلماني التونسي الحالي. كما أن سعيد لا يؤمن بالظاهرة الحزبية ويميل إلى الديموقراطية المباشرة على مستوى المجالس المحلية التي يرى أنها يجب أن تمثل في مستوى أعلى من خلال مجلس وطني.
 
ولعل خروج قيس سعيد إلى الجماهير المحتجة والتحاور معها مباشرة وحضّها على تجنب العنف والاعتداء على الممتلكات، يوحي بأن ساكن قرطاج هو قائد هذه الاحتجاجات الذي يلتحم بأنصاره ومريديه الذين يأتمرون بأوامره. ولعل مقطع الفيديو الذي نُشر على الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية والذي يتضمن مشاهد للرئيس قيس سعيد مع أنصاره، الذين تعالت أصواتهم يطالبون بحل البرلمان، فيه أكثر من دلالة.
 
والحقيقة أنه وعلى غرار ملف تجنيد الشباب التونسي في التنظيمات الإرهابية والذي تستغل فيه أجهزة الاستخبارات الأجنبية التربة الخصبة المتطرفة في البلد للتغرير بهؤلاء الشباب، فإن هناك أيضاً بيئة خصبة من الفقر والبطالة وتدهور المستوى المعيشي في الأحياء الشعبية والجهات المهمشة يمكن أن تنفجر فيها الأوضاع في أية لحظة. ويمكن لبعض الأطراف السياسية أن تستغل هذه المآسي لخدمة أجنداتها، وسواء تم دفع هذا الشارع للاحتجاج أو لم يتم، فإنه سينفجر من تلقاء نفسه وما على السياسيين، خصوصاً "حركة النهضة الإخوانية" إلا البحث عن الحلول لهؤلاء المهمشين عوض الهروب إلى الأمام ووصمهم بالمخربين وبأنهم خدّام أجندات هذا الطرف أو ذاك.
 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم