الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

من مذكرات الشرطة القضائية… عندما تنتقم الزوجة من زوجها بالسمّ الخفيّ

المصدر: "النهار"
الصورة من أمام سجن قصر عدل بعبدا (مارك فياض).
الصورة من أمام سجن قصر عدل بعبدا (مارك فياض).
A+ A-
العميد المتقاعد أنور يحيى
 
شهدت بلدة القرين قضاء المتن، وفاة المدعو جوزف، 73 سنة، أثناء عمليات الأجتياح الاسرائيلي للبنان صيف 1982، وقد دُفنت الجثّة بشكل طبيعي، في مقبرة البلدة، دون أيّ كلام عن ظروف الوفاة.
 
بعد حوالى الأسبوع من الدفن، وصلت معلومات الى قاضي تحقيق بعبدا، الأستاذ سعيد ميرزا، بأنّ الوفاة ليست طبيعية، أنّما بسبب التسمّم المقصود، الذي شربه جوزف عبر أبريق من الفخّار، اعتاد الشرب منه في ظلّ أنقطاع التيار الكهربائيّ.
 
أصدر المحقق أستنابة قضائية، كلّف بموجبها مفرزة بعبدا القضائية، بأمرة الرائد اسكندر شلفون، وعناصر الأدلّة الجنائيّة فيها، إعادة الكشف على مسرح الجريمة، وجمع المعلومات والأدلّة، والاستماع إلى الشهود والمشتبه بهم، واستخراج الجثّة عند الحاجة، وأعادة الكشف الطبّي الشرعيّ عليها ومخابرته.
كلّف الرائد شلفون المعاون عبد الرحمن فاضل، رئيس دوريّة الأدلّة الجنائية العاملة في نطاق المفرزة ، الذي ترأّس فريقاً من التحريين العاملين فيها، للتفرّغ والتحقيق والتحرّي عن ظروف وفاة جوزف في القرين.
 
انتقل المعاون فاضل وفريقه الى منزل المتوفّي في البلدة وتبيّن لهم ما يلي:
1- يعيش جوزف، في منزل يتقاسمه مع زوجته روز، وهو على علاقة سيّئة بها منذ سنتين، وقد قسم المنزل الى شقّتين، يفصل بينهما حائط من الخشب الثابت، وكان الجيران يسمعون الشجار بينهما، والشتائم المتبادلة، دون إمكانية تسوية الأمور، وإعادة الحياة الزوجية الى طبيعتها حتّى بعد تدخّل كاهن الرعية.
2- أفادت إحدى السيدات التي تقيم على مقربة من المنزل، بأنّها شاهدت الزوجة ترمي إبريقاً من الفخّار خارج سور المنزل، في اليوم الثاني بعد الوفاة، وقد أصرّت أن تقطّعه قطعاً صغيرة بشكل ملفت للنظر.
 
3- إحدى السيدات التي ترتبط بصداقة مع الزوجة روز، أفادت بأنّها سمعتها تقول: "يا ريت بيموت بالسّم وبيريّحني منّو، وبتعرّف عا زوج جديد".
 
4- توجّهت الدوريّة الى مكان بقايا الأبريق المحطّم، وأضحى حوالى الخمسين قطعة صغيرة، جَمَعوا الأجزاء، وفقاً لصورة رسمتها سيدة من الجيران بيدها، سبق لها أن شاهدته عند جوزف، وبحسب الألوان على الأبريق، تمّت على مدى ساعات إعادة تكوينه وتركيب القطع الصغيرة، عبر اللصق، ليظهر دون لمس القطع من الداخل، وأودع المختبر المركزيّ في وزارة الصحّة، وكانت رائحة السمّ ما تزال عالقة على بعض القطع من الداخل.
 
أنكرت الزوجة إقدامها على دسّ السمّ لزوجها، لكنّها أصرّت على أنّه مات بشكل طبيعيّ، وكان يعاني من الربو، وأنّها رغم سوء العلاقة بينهما، فهو زوجها وربّ العائلة... كما  أنكرت رمي الإبريق خارج سور المنزل، وتحطيمه قطعاً صغيرة، وعند مجابهتها بنتائج تحليل المختبر المركزيّ، بوجود بقايا السمّ على بعض القطع، رغم مرور ثمانية أيام على دفن زوجها، أصرّت بأنّها لا تعلم شيئاً عن ذلك.
 
قاضي التحقيق في جبل لبنان، الرئيس ميرزا، وبعد أن اطّلع من المعاون عبد الرحمن فاضل، على نتائج تحليل المختبر المركزي، الذي أكّد وجود بقايا السمّ على بعض الأجزاء، أشار باستخراج الجثّة من المدفن، رغم مرور 8 أيام على دفنها، وتكليف الطبيب الشرعي أخذ أجزاء من المعدة أو غيرها، والتحقّق من طريقة الوفاة، وعمّا أذا كان هناك بقايا من السمّ؟ .
 
استدعي الطبيب الشرعي الدكتور فنيانيوس، وبعد إخراج الجثة من المدفن، عاينها بدقّة وأخذ بعض الخزعات من المعدة والأمعاء، وأرسلها الى المختبر المركزي، حيث تبيّن وجود بقايا السمّ الذي تطابق مع تلك الموجودة على بقايا الإبريق الذي تمّ جمعه والذي شرب منه المغدور، وحطّمته الزوجة شرّ تحطيم.
 
اطّلع القاضي ميرزا على نتائج تحاليل المختبر المركزي، وأشار باستدعاء الزوجة الى المفرزة للتحقيق معها شخصياً، وعندما علم أحد أبنائها، وهو مسؤول في ميليشيا مسلّحة نافذة في حينه، ّهدّد بقتل كلّ من يستدعي والدته للتحقيق، واتّصل بالقاضي ميرزا مهدّداً ومتوعّداً ومؤكّداً براءة أمّه، وأنّ والده مات نتيجة نوبة ربو فقط.
 
لم يرضخ القاضي ميرزا للتهديد، وتوجّهت دورية معززة من المفرزة، ورغم انتشار الميليشيا المسلّحة، اقتيدت الزوجة الى مفرزة بعبدا القضائية حيث حضر القاضي ميرزا والرائد شلفون بحضور المعاون فاضل، الذي شرح لهم نتائج أقوال جارتها التي شاهدتها تحطّم الأبريق الذي شرب منه زوجها، وكيف أصرّت على تحطيمه قطعاً صغيرة، وكيف أنّها قالت أمام إحداهنّ أنّها تتمنّى أن يموت جوزف بالسمّ، لتتزوّج رجلاً آخر تمضي معه بقية عمرها بسعادة وحب وعلاقات طبيعية، وأنّ نتائج السمّ من معدة الزوج طابقت نوعية السمّ المتبقّي على بعض أجزاء الأبريق.
 
رضخت الزوجة للحقيقة واعترفت بأنّها اشترت السمّ من دكان في البلدة، بحجّة القضاء على الحشرات السامة، وقرّرت التخلص من جوزف، الزوج، فرسمت الخطّة بأن تتقرّب منه متودّدة، ووعدت بمرحلة حبّ جديدة، فتحضّر له التبولة، ويشربان كأسين من العرق سويّاً، وعهد جديد من الحبّ بينهما.
 
نفّذت الزوجة الخطّة التي رسمتها، وقد فوجئ الزوج بزوجته تدخل ومعها التبولة والعرق وبعض الأطعمة ومعتذرة عن تصرّفاتها السابقة، وقد وضعت بعض السموم بإبريق من الفخار، اعتاد جوزف شرب المياه الباردة منه، مع انقطاع الكهرباء نهائياً أثناء عمليات الاجتياح الإسرائيليّ صيف 1982.
 
ما لبثت أن خرجت بعد تناول الأطعمة سويّاً، وبدأت معاناة جوزف وأستغاثته، الذي ظلّ وحيداً حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. تمّ دفنه في ظروف سريعة أثناء العمليات الحربية، وحتى دون حضور الكاهن، نظراً للقصف العنيف حينها.
 
اعترفت للمحقق القاضي ميرزا، بأنّها أقدمت على ذلك لتتحرر من عقد زواجها، وأنّ حياتها معه لا تطاق لأسباب عديدة.
 
أصدر القاضي ميرزا مذكرة توقيف وجاهية بحقها، وأودعت السجن ونالت نصيبها جزائياً من محكمة جنايات جبل لبنان.
 
كان الفضل لذكاء وطول بال المعاون فاضل أثناء جمع أجزاء الإبريق المتناثرة والصغيرة، والذي استخدم لقتل جوزف، ونتائج التحليل والمقارنة لبقايا السمّ على بعض أجزاء الإبريق الصغيرة، ومع تلك المستخرجة من أمعاء المغدور جوزف، وجدارة القاضي ميرزا وشجاعته، بحيث لم يرضخ لتهديد ابن الزوجة، وهو المسلح النافذ في حينه، أثناء الاجتياح الإسرائيلي... وقد حضر العميد الركن محمود طي أبو ضرغم، قائد الشرطة القضائية، الى المفرزة ونوّه بإشراف الرائد اسكندر شلفون، ومتابعة المعاون عبد الرحمن فاضل وفريقه بصبر ودقّة وجمع المعلومات بصورة سرية عن ظروف وفاة المغدور جوزف، وأعفى قاضي التحقيق بعض الشهود من الأفادات الخطية، واكتفى بمعلومات سرية قدّمها بعضهم الى المعاون وفريقه، لاسيّما بعد أن اعترفت الزوجة بقتل زوجها.
 
إنّ لدى الشرطة القضائية قدرات بشرية ممتازة وتعتّمد أساليب التخفّي والتمويه لجمع المعلومات للتحرّي عن الحقيقة، وقد تمّ تجهيزها بمختبرات جنائية متطورة، (تحديد الحامض النووي، علم السموم والمتفجرات والأسلحة)، وعناصر مثقفة ومدربة للعمل في الحقل الجنائي، للتمكّن من تنفيذ دورها كضابطة عدلية مساعدة للنائب العام والقضاة، ولها تاريخ عريق في كشف الجرائم لاسيّما الغامضة منها كجرائم: القتل، الاغتصاب، التزوير، المخدرات، حقوق الأنسان، تبييض الأموال، وغيرها، لكن هل تعود الأيام لتمارس دورها الطبيعي والقانوني وتتصدى للجريمة بجدارة كما كانت سابقا؟ في ظلّ أندثار هيبة الدولة التي تستعطي الغذاء والدواء والمحروقات لآليّاتها، ولتامين وصول عناصرها الى أعمالهم، وفساد سياسيّ غير مسبوق، أدّى الى أنهيارالعملة الوطنية، وفقدان الثقة الدولية بالإدارة اللبنانية؟؟
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم