الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

سلمان رشدي ووكلاء الله الجدد

المصدر: "النهار"
منى فياض
سلمان رشدي (أ ف ب).
سلمان رشدي (أ ف ب).
A+ A-

نحن موتى، وشرُّ ما ابتدع الطغْيانُ موتى على الدروب تسيرُ، كانت هذه حال الروائي سلمان رشدي.

بحسب الصحافي مارتن تشولوف في الغارديان، يتراوح وضع الإيرانيين بين المديح والقلق، حيث أشاد بعض المواطنين بالطعن الوحشي، بينما ادّعى آخرون أنه مسّ بحرية التعبير، وآخرون خافوا من مزيد من العزلة لإيران.

وزعم العديد من كبار المسؤولين أن ذلك كان مؤامرة للإضرار بصورة إيران العالمية، مع ربط الحادث بالمحادثات النووية بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران على أنها السبب في ذلك الاعتداء بهدف عرقلتها. وإن كان ثمة ربط بالنووي، فالأرجح أنها رسالة تتقصّد منها إيران إظهار ندّيتها وعدم خضوعها للأميركيين؛ فالفتوى ضد رشدي صدرت بعد "تجرّع الخميني للسمّ" عند إنهاء الحرب مع العراق.

 

في العالم العربي الإسلامي عموماً، وخصوصاً في البلدان التي تهيمن عليها إيران لم يجرؤ الكثيرون على إعلان إدانتهم، بينما اندفع كثيرون للدفاع عن مهاجم رشدي، ووصل الأمر بالبعض لهدر دم ديما صادق التي تجرأت ووضعت تحت صورة الملالي عنوان الرواية "آيات شيطانية". وأهدر دم الصحافي حسن شعبان لأنه صوّر تظاهرات تعترض على انقطاع المياه في الجنوب.

 

كنّا قد غفلنا عن هذه الفتوى، التي أصدرها الخميني بحق رشدي عن كتابه "آيات شيطانية" منذ 3 عقود، بالرغم من أن خامنئي أثارها مجدداً عام 2019، مع الإشارة إلى أن آراء النقاد متفاوتة حول جودة الكتاب، وشهرته نتجت أساساً عن الفتوى نفسها. ثم من كان يتابع أخبار رشدي أخيراً أو يهتم به سوى دوائر أدبية معيّنة؟  

فإن كان هدف القتل القضاء على أفكار الرجل، فهي محاولة بائسة لأن المعلومات تشير إلى أن محاولة الاغتيال أشعلت الطلب على الكتاب أكثر من ذي قبل، وشكلت أفضل دعاية لترويجه مجدّداً، وافتتحت حملة غربية ضد ظلامية الإسلام والمسلمين، وسمحت لمسؤولة أميركية باعتبار ما ينطق به رشدي "الحق بعينه"؟

 

لكن ربما هذا هو المقصود، إثارة الحماسة والتعصّب الدينيين لقمع حرية التعبير نظراً لأن بوادر التململ من حكم رجال الدين تتصاعد في مناطق الهيمنة الإيرانية. فجاءت ردود الفعل المحلية تفيد بنجاعة ذلك، وبدل أن يغضب اللبناني لوضعه المزري وجّه غضبه نحو من "يمسّ" بمقدّساته.

يطرح كل هذا سؤال الرقابة، وخصوصاً الرقابة الدينية على الإبداع. فكيف يمكن أن نقتل أحداً من أجل كلمات أو أفكار في رواية خيالية بدل مقارعتها؟

الرقابة على الكتب وُجدت على مرّ العصور. فالتاريخ يحفل بالكتب الممنوعة التي عرّضت مؤلفيها للسجن أو للنفي أو للموت. الموت حرقاً كان من نصيب Giordano bruno الذي اعتمد على نظرية كوبرنيك لكي يبرهن فلسفياً، على ما بيّنته صور تلسكوب جيمس ويب، عن لانهائية الكون واحتوائه أعداداً لا تحصى من العوالم. كُتب غاليليو منعت، وسُجن في منزله حتى موته.

 

آلاف الكتب أحرقت وأتلفت أو منعت بواسطة الرقابة وأُعدمت أفكار وعُطّلت طاقات خلاقة في معظم المجتمعات. هناك كتب اختفت آثارها تماماً وأخرى ما زالت الأيدي تتناقلها في السر. كتب ملعونة تشكل قراءتها اعتداءً على المقدسات، كالكتب الملحدة والفلسفية وكتب السحر أحياناً أو كتب الصوفية، وتلك المتعلقة بالجنس. الكنيسة تخلت عن هذه الرقابة القاتلة في زمن ثورة الاتصالات واكتشفت أن الكتابات لا تؤثر على إيمان المسيحيين. وبقي مجد القتل لوكلاء الله الجدد.

 

كثر ماتوا ضحايا للرقابة القاتلة، لكن كتبهم بقيت. علام إذن قتلهم ما دامت أفكارهم ستعيش من بعدهم وتقاوم القتل؟

 

قد يجعلنا ذلك نعتقد أن علمانية مجتمع ما قد تخلصه من هذه الممارسة، أبداً: "يظل منع المنع" حلماً غير متحقق. في الاتحاد السوفياتي السابق مُنع ديكارت وفرويد. في السنوات السبعين حاول الجنرالات اليونانيون، مع "علمانيتهم"، منع الإضرابات والميني-جوب فانتهوا إلى منع سوفوكل وأوربيد وأريسطوفان. أي أساس الثقافة اليونانية نفسها.

 

في السبعينيات اللبنانية استفقنا على منع كتاب صادق جلال العظم "نقد الفكر الديني"، وأثار ضجة تسبّبت بشهرة صاحبه أكثر ممّا أسهمت بقمع أفكاره، ومُنعت رواية لليلى بعلبكي.

 

لكن المشكلة في بلادنا أن الرقابة لا تُمارس من طرف السلطات الدينية أو الرسمية فقط، بل من قبل المجتمع الأهلي أيضاً ومن الجماعات الأصولية. فلقد قُتل فرج فودة عام 1992، وتعرّض نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال في عام 1994، ولم تشفع له جائزة نوبل التي حصل عليها في عام 1988، بل ربما أسهمت في حضّ الجاهل الذي لم يقرأه على الاعتداء.

 

أما الاغتيالات التي عرفها لبنان، والتي قد تكون من أعلى نسب الاغتيالات في العالم مقارنة بعدد السكان، فلا تُعد ولا تُحصى. ومعظمها يتعلق بالكتابات والأفكار والمواقف السياسية. فعدا عن حسين مروة ومهدي عامل، اغتيل ايضاً مصطفى جحا عام 1992، بسبب كتاباته، بعد فتوى تكفيرية صدرت عن المحكمة الجعفرية. وآخر عنقود الاغتيالات المثقف والمناضل لقمان سليم.

 

يبرهن الموقف العام الفاتر تجاه الاغتيالات في بلادنا، على قلة المبالاة بأفعال القتل الشائعة بسبب ما يسمّيه نوتوهارا صاحب كتاب "العرب بعيون يابانية... هيمنة فكرة النمط الواحد"، على غرار الحاكم الواحد والزعيم الواحد والقائد الواحد. فمن هنا نلاحظ أن الناس يوحّدون أشكال ملابسهم وسلوكهم وآراءهم. في مثل هذا النمط تذوب الفروق الفردية وتتدنى استقلالية الفرد وخصوصيته وإمكانية اختلافه عن الآخرين، وتحلّ الجماعة، المهيمنة المتشابهة والممتثلة للنظام السائد في الاعتقاد وفي السياسة وفي العادات اليومية، محل الفرد. فينتج عن ذلك خوف الابتعاد عن الآراء الجماعية السائدة والمواقف الجامدة التي تتبنّاها.

 

والقتل يجد له تبريراً إيديولوجياً في الكثير من الحالات، فيجعل من القتيل إما عميلاً أو خائناً أو خارجاً عن الدين وملحداً يجب القضاء عليه لعبثه بمقدسات الأمة وقضاياها. تسود عندها ثقافة الخوف. الخوف من إدانة الجريمة ومن التعاطف مع القتيل لأن ذلك يجعل من المُتضامن شريكاً في الجرم الموجّه إلى الضحيّة وتصبح أصابع الاتهام موجّهة إليه أيضاً.

 

لا تزال الغالبية بعيدة عن إطار الاعتراف المتبادل مع الاحتفاظ بحق الاختلاف والبحث عما هو مشترك والدفاع عن حرية التعبير والحق في الوجود معاً. فكل رأي هو اجتهاد قابل للموافقة أو المعارضة وليس للاجتثاث أو العدوان أو الإقصاء.

 

ملاحظة أخيرة:

لفتني مقال الصديق المفكر الإسلامي رضوان السيد في "أساس ميديا"، المرتبك والمليء بالتناقضات، الذي لا يدين فتوى القتل بل يجدها فقط غير حكيمة!! كما سبق له أن اعتبر إرهابيي داعش مجرّد "منشقين" عن الإسلام.

 

يتساهل رضوان السيد مع القتل للدفاع عن صورة الإسلام!! ويرتبك تجاه الرد على الكلمات بحدّ السيف!! مع أنه يبرهن لنا أن رواية رشدي التاريخية مغلوطة وهي تخييل مبالغ فيه، وأنه كتبها ليحرّر نفسه من أصوله الإسلامية، كما سبق أن حرّرها من وطأة الاستعمار الغربي في رواياته السابقة. وإن نماذج هذه الرواية التي لم يقرأها أكثر من 10 آلاف مسلم، والتي تتصدّى لعقائد دين معيّن عديمة التأثير على المتديّنين: "مهما كان الكاتب كبيراً تبقى غير مؤثّرة بتاتاً في جمهور ذلك الدين، بعكس ما زعم صادق جلال العظم وسلمان رشدي نفسه"!!

من أين أتى بقلة صبره: "من غير الممكن الصبر الدائم على تلقّي اللطمات من جهاتٍ مختلفة دونما إمكانيّةٍ للردّ أو الدفاع"! ما دامت الفتوى نفسها هي التي شهرت الكاتب وخدمته، وجعلت من الرواية بست سيلر في حينه، ومرة ثانية الآن؟ 

 

أليس من المرجّح أن المسألة كلها في الغالب، ألاعيب سياسية لأنظمة محشورة تريد إلهاء جمهور مغلوب على أمره وجد من يتمرجل عليه؟

 

ثم ما رأي السيد بهدر دم الصحافية ديما صادق والمصوّر حسن شعبان الشيعيين الجنوبيين من قبل أتباع صاحب "الفتوى غير الحكيمة"؟؟

 

نُشر  في موقع "الحرة" أيضاً.

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم