الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

"پنج شیر" وآفاق المقاومة بين الأسطرة ومعادلات الواقع

جدارية تمثّل القائد الأفغاني الراحل أحمد شاه مسعود مع عبارة "مسعود بطل أمتنا" في العاصمة الأفغانية كابول. (أ ف ب).
جدارية تمثّل القائد الأفغاني الراحل أحمد شاه مسعود مع عبارة "مسعود بطل أمتنا" في العاصمة الأفغانية كابول. (أ ف ب).
A+ A-
طارق قبلان
 
يحلو لكثير من الإعلاميّين استعادة "أسطورة پنجشیر" وتلاوة سرديّة تمجيد من دون تحقيق أو تَحْيين، وأنظارهم مصوّبة على الصراع الذي يحكم الولاية الأفغانية بين المقاومة الوطنية وحركة طالبان، فيُسقطون على الواقع الراهن شخوص القيادات الراحلة وظروفها الزمنيّة واللوجستيّة التي تحقّقت في سياق المواجهة مع الجيش السوفياتي الغازي، حين كان المهندس الراحل أحمد شاه مسعود أحد قيادات "الجمعية الإسلامية الأفغانية"، برئاسة الأستاذ برهان الدين ربّاني، يقاتل الغزاة، تعضده تشكيلات كثيرة من المجاهدين، ومن ورائها دول إقليمية فاعلة كباكستان وإيران... وأخرى من أنحاء المعمورة، لاسيّما الولايات المتحدة الأميركية التي جعلت اسم الجهاد عنواناً للوطنية والقِيم النبيلة، قبل أن تهوي به مع داعش إلى درك الإرهاب.
 
لكن پنجشیر اليوم ليست پنجشیر الأمس، وقد جرى عليها الزمن، وفقدت زعيمها الذي صاغته التحدّياتُ، وشبكةُ العلاقات الجهاديّة، والسياسةُ الدولية، وهي حقائق يتغافل عنها كثيرٌ من الإعلاميين. وقد يُغفِلون أو يَغفَلون عن التفاوت التاريخيّ بين الحاضر والماضي، ويتعاملون مع ولاية پنجشیر في واقعها اليوم كتعاملهم مع پنجشیر وصاحبها مسعود الأمس. لكن پنجشیر اليوم غير تلك، ومسعود الابن ليس أسد الوادي الأسطوريّ، والمشكلة الإعلامية تتمثّل في افتقاد كثير من الكتّاب الوعي التاريخيّ.
 
اليوم، يقاتل ابن ابيه وحيداً من دون مددٍ إلا ما أحاط به من رجال السّلطة المنهارة كنائب الرئيس الهارب أمر الله صالح، ووزير الدفاع بسم الله خان محمدي...ومنهم من يخضع لإقامة جبرية كرئيس المجلس التنفيذي، الرجل الشمالي القويّ، السياسي النشيط عبد الله عبد الله، فيما قضى عددٌ من الوجوه العسكرية والقيادية كفهيم دشتي (ابن اخت عبد الله عبد الله) والجنرال عبد الودود ذرّه.... وسط صمت إقليميّ ودوليّ إلا عن المطالبة بالتزام طالبان التعدّدية وحقوق الإنسان وإبداء الاستعداد لملاقاة جهود طالبان التنموية.
 
وبين تقدّم طالبان وممانعة الطاجيك، تبقى الحركة المنتصرة غير بعيدة عن محورٍ من المحورَين العالميّين، في مقابل المحور الآخر... ما يكبح انفلات الحلفاء المحليّين، ويُخفّف الميل العقائدي إلى التصادم، ويُعلي شأن التحالف السياسي – الاقتصادي الذي تصدّقه حدود أفغانستان ومعابرها المستقرّة.
 
في هذا الوقت، تبدو الساحة مفتوحة أمام الانطلاقة الباكستانية في دعم طالبان، بالرغم من النّفي المتكرّر لدعم الدولة الشقيقة والجارة، حيث تحمّل مواقع المقاومة الپنجشیرية المسؤولية عن "استشهاد" فهيم دشتي لقوات جويّة باكستانية، في وقت تحدّثت حسابات أخرى موالية للمقاومة عن غارات لصالح المناوئين لطالبان من دون تحديد الجهة المغيرة.
 
ومع إعلان طالبان الدخول إلى الوادي، انطلقت ردّات الفعل على السيطرة الطالبانية من كابول العاصمة، حيث تظاهر مواطنون في موقف عدائيّ ضد التدخّل الباكستاني، فحاولت طالبان مواجهتهم بأكثر الأساليب ليونة، لكنها لم تفلح في الاستغناء عن استعمال السلاح، فوجّهت الطلقات إلى الأعلى تفادياً لإصابات بين المواطنين وحفاظاً على سمعتها السلميّة.
 
إلى ذلك، اشتكت حسابات شيعية من فرض طالبان إتاوة عشرية على المواطنين من أملاكهم، ومن إطعام "المجاهدين" وجبات يومية، في وقت طالب وفد من علماء الشيعة في كابول ووجهائها بتشكيل حكومة معبّرة عن المكوّنات، تحفظ حقوق الأطراف الفاعلة في أفغانستان.
 
إذاً، تتدافع الأطراف الأفغانية في السياسة، وينطلق كلّ طرف إلى تعزيز مكاسبه وحضوره ومواقعه على الأرض، وفي بنية السلطة، من دون أن يؤدّي ذلك إلى انهيار الهيكل الذي تسعى طالبان والأطراف الدولية المؤثّرة إلى تشييده، تأسيساً على شرعيّتين محليّة، وأخرى دولية قانونية.
 
 
فهل تسقط پنجشیر؟
ليس بالضرورة، والحالة مفتوحة على احتمالاتٍ، وسط ظروف دقيقة ومحسوبة، وإن يكن انفلاتها ليس مستحيلاً، وپنجشیر قد تشكّل رائزاً!
 
 
هل يمكن التعويل على إمكانيّات جبهة المقاومة في پنجشیر؟
صحيح أن الجماعة المتحصّنة في الوادي تملك بنية عسكريّة، وقد انضمّت إليها فلول من العسكر النظاميّ المنهزم، وبحوزتها أسلحة ثقيلة من ترسانة الجيش المدعوم أميركياً، لكنّها لا تُداني طالبان عدداً وعدّة، في ظلّ استيلائها على الحكومة في واقع الأمر، ومحاولتها اكتساب الشرعية بالإواليات التمثيلية الديمقرطية وقيادتها للجيش...ويبقى التعويل على الدّعم الإقليمي والدولي.
 
 
هل من بوادر دعم لمقاومة پنجشیر في الأفق؟
يُكثر الرئيس الطاجيكي إمام علي رحمانوف الحليف للروس من إبداء دعمه لأفغانستان الجامعة لمكوّناتها، بعد أن دخلت طالبان كابول. وقد تعهّد مراراً كما في احتفالات الاستقلال بعدم ترك أفغانستان وحيدة، مهدّداً بالتدخل إلى جانب المقاومة إذا ثبتّ التدخل الباكستاني ميدانياً في الشأن الأفغاني.
 
من جهتها، تشير أصابع الجميع إلى باكستان باعتبارها عرّابة طالبان، وتُمسك "سلّة بيضها" جميعاً، وتسعى لنجاح تجربتها الراهنة، بل تجهد لتكون الحكومة الوليدة حليفتها في الإقليم في مواجهة خصومها التاريخيين. لذا لا يمكن الرهان على انفكاكٍ في المحور الباكستاني – الطالباني في المدى المنظور.
 
أما على الصعيد الروسي ومجاله الحيويّ في آسيا الوسطى، فالتجربة المدمّرة في الثمانينيات لا تشجّع روسيا على التدخّل لأنّها ستخوض تجربة فيتنامية مرّة أخرى مع شعب شديد البأس، ولا مصلحة تلائم سياسة بوتين، الذي لا تقوم استراتيجيته على عداء إيديولوجي، تميّزت به السياسة السوفياتية، بل تتأسس على معادلة المصالح، خصوصاً الأمن والطاقة، وقد يحصل على ذلك بالديبلوماسية!
 
وفي أحدث تصريحاته، شدّد الرئيس الروسي أن أفغانستان أصبحت على حافة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي التام، وأشار إلى أن مساعدة أفغانستان في استعادة الاستقرار من المصالح المشتركة لدول "معاهدة الأمن الجماعي" و"شنغهاي للتعاون".
 
وما قد يُعيد الروسيّ إلى الساحة الأفغانية هو النزوع الطالباني والدولة الأفغانية نحو تطرّفها السابق، وتَحوّلِ كابول مقرّاً للجهاديين وممرّاً باتجاه دول آسيا الإسلامية المحيطة بروسيا، التي تشكلّ مجالاً لها.
 
 
فأين إيران من هذا المجال؟
من الظاهر أن الإيرانيين وأذرعهم الخارجية كانوا ينسجون على الدوام علاقات وتحالفات سياسية وجماعات وتشكيلات في منطقة تُشكّل ملعباً من ملاعب بلاد فارس التاريخية والثقافية، والتي تتمتّع لدى صانع القرار الإيراني بأولوية تكاد توازي منطقة غرب آسيا، خصوصاً أن هناك توجّهاً يدعو إلى "الاستثمار" في المنطقة الآسيوية الشرقية بدل المواجهة المكلفة والشّاقة في السياق العربي والخليجي تحديداً... بالرغم من أن محدّدات عقيديّة وإيديولوجيّة واستراتيجيّة ما تزال تعطي الأولوية للقضية المركزية الجاذبة فلسطين.
 
وتستفيد السياسة الإيرانية من ميزة الدأب لديها، وتركيزها على الاستراتيجيا، فلا تدع التكتيك يُلهيها، ولا تستهويها الحركات السريعة.
 
عليه، لا تبدو إيران مستعجلة لإدخالها في صراع مع طالبان لمصلحة أيّ طرف لا ترى فائدتها الكبيرة فيه، كما لن تظهر العداء وتتناقض مع السياق الإيجابي للعلاقات الأفغانية – الإيرانية على المستويات السياسة والأمنية والتجارية...
 
لكن إيران – من زاوية أخرى - لا تحبّذ، بل ترفض أن يتم الاستفراد بحلفائها العضويين أمثال حزب الوحدة الإسلامية وقاعدته قومية الهزارة، والجمعية الإسلامية وقاعدتها الطاجيك، إلى جانب الأوزبك..... في الوقت الذي تجد نفسها ماهرة في إمساك العصا من الوسط، وتجاربها في هذا المجال مثيرة للاهتمام. فها هي ذي في لبنان قد نجحت في دعم المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وحافظت على علاقاتها الديبلوماسية مع الدولة اللبنانية حتى في أصعب الظروف (إبعاد القائم بالأعمال محمود نوراني في الثمانينيّات) في فترة ولاية رئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميل.
 
كذلك عملت في العراق على نسج العلاقات الرسمية مع مؤسّسات الدولة في الوقت الذي بادرت إلى دعم الحشد الشعبي، تحت رعاية مرجعيّة النجف، بالتدريب والعتاد، ورعت تأطيره في ما يمكن تسميته باستراتيجيا دفاعية.
 
 
نخلص إلى القول:
إن إيران يمكن أن تراهن على الوقت وتطوّرات العملية السياسة لتفادي الاصطدام بطالبان التي حافظت على علاقات مع طهران في كلّ مراحل الصراع مع أميركا وصولاً إلى لحظة التفاوض حتى إذا ما ساءت الأمور.... فإن بإمكان الجمهورية الإسلامية أن "تئب باطها" (تسمح) لتستعر المقاومة من جديد بصيغة جديدة ضمن تحالف شمالي جديد، في ظلّ حديث عن حشد شيعيّ في أفغانستان يقوده السيد حسن حيدري تشكّل قبيل الانسحاب الأميركي من كابول.
يمكننا الحديث أيضاً عن تميّز إيران وقدرتها على رعايتها المتناقضات في السياسة الأفغانية، إذ جمعت گلب الدین حکمتیار (يعترف بأنه لم يجد غير إيران للفرار من زحف طالبان) وأحمد شاه مسعود وحزب الوحدة الإسلامية...
 
أمّا أميركا التي خرجت من فيتنامها الثانية فلا يمكن التعويل على دعمها في المدى المنظور.
 
 
هل تستطيع السياسة تطوير مواقف الإسلاميين في أفغانستان؟
سيقول البعض إن من العسير بل المستحيل على الإسلاميين بتشكيلاتهم المختلفة، من أقصاها إلى أقصاها، أن تتطوّر تجاربهم التنظيمية والسياسية بسبب محدّدات فكرية وتنظيمية ميزتها الثبات، وقد يكونون ضمن مسار مخالف لمنطق التاريخ والاجتماع. لكن المتأمّل في واقع الحركة الإسلامية سيجد أن تجاربهم لم يُكتب لها الاكتمال كغيرها من تجارب القوميين واليساريين، بل تجهض عنوةً، ما يُعيد إنتاج العنف، ويدفع الحركات المستبعدة والمهمّشة إلى النضال في سبيل الحصول على المشروعيّة فيما يمكن للديمقراطية الحقّة أن تستوعب عنفهم وأن تحدّد مدى حركتهم من دون الخوض في صراعات مدمّرة.
 
 
هل القضية مرتبطة بطور حضاريّ؟
لا شكّ في ذلك، ولا يمكن توقّع الاستثنائي من تجربة طالبان أو سواها؛ وقد كان من قبل النظام الملكيّ والشيوعيّ في أفغانستان ولم يحصل العجيب المدهش، ثم سيطر المجاهدون لكنّهم تطاحنوا في العاصمة وطحنوها، ثمّ كان دخول طالبان عاصمة البلاد ولم يُصبح الحال أشفى ولا أرقى.
 
اليوم، يمكننا التفاؤل بالاستقرار السياسي وموازين القوى المتكافئة، ولو تطلب الأمر معادلات إقليمية ودولية لتحقيق ذلك، حتى يمكن للبلاد أن تخطو على طريق التنمية وتسير بخطى ثابتة.
 
ومناشدة الناطق باسم طالبان ذبيح الله مجاهد الصين للدخول إلى السوق الأفغانية بادرة انفتاح بالرّغم من الملاحظات التي يُمكن أن تورد في المجال. كذلك إعلان طالبان استعدادها للتعامل مع المساعدة لو أتت من الولايات المتحدة يفتح الطريق أمام الديبلوماسية التي لن تقتصر على هذين البلدين إذا كانت نتاج قناعة لدى الحركة المتشدّدة.
 
من حق الأفغان على الآخرين الانفتاح على تجربتهم، ومن واجب الآخرين دعم التجربة الأفغانية ما دامت تمارس انفتاحها على التطور والتنمية، لا اللجوء إلى القدح وسدّ الآفاق أمام المسار السلمي الذي تسلكه، بالرغم من تسجيل ممارسات لن تخرج عن واقع التخلف والجهل السائد والعنف القبليّ... فثمة جانب مظلم في كلّ مجتمع قد لا يصل المحلّل إلى إدراكه، لكنّه سيكون ناتجاً من خلفيّات وتراكمات تاريخية وثقافية واجتماعية، ولا مفرّ من حصد نتائج ذلك والتعامل معه بواقعية.
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم