غسان صليبي
هناك قراءة للاضراب العمالي العام في ١٧ حزيران الحالي، متداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والاعلام. أقدّم في هذا النص قراءة ثانية، لا اعتقد بانها تتناقض مع الاولى، بقدر ما اجدها اكثر ملاءمة لواقع الحال وتشعباته وتناقضاته.
قراءة أولى
دعوة الاتحاد العمالي العام الى الاضراب من اجل تأليف الحكومة، لا يمكن ان تتم بدون دفع من حركة "امل"، التي تحظى مع حلفائها بأكثرية الاصوات في هيئات الاتحاد العام. الدعوة تأتي في سياق مواجهة بين الرئيس بري ورئيس الجمهورية، تحمّل هذا الاخير مسؤولية تعطيل تأليف الحكومة.
هناك قراءة للاضراب العمالي العام في ١٧ حزيران الحالي، متداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والاعلام. أقدّم في هذا النص قراءة ثانية، لا اعتقد بانها تتناقض مع الاولى، بقدر ما اجدها اكثر ملاءمة لواقع الحال وتشعباته وتناقضاته.
قراءة أولى
دعوة الاتحاد العمالي العام الى الاضراب من اجل تأليف الحكومة، لا يمكن ان تتم بدون دفع من حركة "امل"، التي تحظى مع حلفائها بأكثرية الاصوات في هيئات الاتحاد العام. الدعوة تأتي في سياق مواجهة بين الرئيس بري ورئيس الجمهورية، تحمّل هذا الاخير مسؤولية تعطيل تأليف الحكومة.
تأييد احزاب السلطة للإضراب، بما فيها "التيار الوطني الحر" و"تيار المستقبل"، المعنيان قبل غيرهما بتأليف الحكومة، هو إيهام قيادات الأحزاب للرأي العام، بانها تتحسس معاناة الناس وتريد تأليف حكومة لمعالجتها.
الحزبيون في الاضراب والاعتصامات، كانوا اكثر مشاركة وتنظيما، بالمقارنة مع النقابيين والعمال.
من حق مجموعات الانتفاضة والقوى النقابية والاجتماعية المعارضة للاتحاد العمالي العام، ان تنتقد دوافع هذا الاضراب ومشاركة أحزاب السلطة فيه.
قراءة ثانية
لا اعتقد ان المشاركة الحزبية في الاضراب هي مجرد مسرحية، بل مؤشر إلى ان جميع الاحزاب متضررة من الانهيار العام، ولو بدرجات مختلفة، وتريد الخروج من الازمة بأقل خسائر حزبية ممكنة. يجب الانتباه الى ان الاتحاد العمالي العام لا تقوده حركة "امل" وحدها، انما بالتعاون مع "حزب الله" وحلفائه في ٨ آذار. اي ان "حزب الله"، ومن خلال الاضراب، يشارك أيضا بالضغط على رئيس الجمهورية، من اجل تأليف الحكومة. لا يريد "حزب الله" على الارجح ان يدفع من كيسه الثمن المقابل لتنازلات جبران باسيل لتأليف الحكومة، بل يريد ان تأتي هذه التنازلات نتيجة ضغط غيره على هذا الاخير.
من حق مجموعات الانتفاضة والقوى النقابية والاجتماعية المعارضة للاتحاد العمالي العام، ان تنتقد دوافع هذا الاضراب ومشاركة أحزاب السلطة فيه.
قراءة ثانية
لا اعتقد ان المشاركة الحزبية في الاضراب هي مجرد مسرحية، بل مؤشر إلى ان جميع الاحزاب متضررة من الانهيار العام، ولو بدرجات مختلفة، وتريد الخروج من الازمة بأقل خسائر حزبية ممكنة. يجب الانتباه الى ان الاتحاد العمالي العام لا تقوده حركة "امل" وحدها، انما بالتعاون مع "حزب الله" وحلفائه في ٨ آذار. اي ان "حزب الله"، ومن خلال الاضراب، يشارك أيضا بالضغط على رئيس الجمهورية، من اجل تأليف الحكومة. لا يريد "حزب الله" على الارجح ان يدفع من كيسه الثمن المقابل لتنازلات جبران باسيل لتأليف الحكومة، بل يريد ان تأتي هذه التنازلات نتيجة ضغط غيره على هذا الاخير.
الإجماع الحزبي حول الاضراب او حول عدم امكان معارضته، يقول بوضوح ان القضية المعيشية هي اولوية الاولويات في لبنان اليوم ولا احد يستطيع ان يتنكر لها علنا. لذلك، ومع انها موجهة ضد "التيار الوطني الحر"، فهو لم يستطع الا ان يؤيد الدعوة للإضراب. فأعضاء الاحزاب متضررون مثلهم مثل باقي اللبنانيين، بإستثناء ربما أعضاء "حزب الله" الذين يستفيدون من مداخيلهم بالدولار ومن خدمات اجتماعية يوفرها لهم الحزب. لكن على عكس ما يعتقد البعض، يشارك حزبيون كثر في الإضراب برضاهم وبحماسة، وكمتضررين من الازمة المعيشية، ولو ان بعضهم ينتظر من اجل المشاركة، موافقة قياداته الحزبية0.
اولوية القضية المعيشية تقابلها اولوية سياسية هي تأليف الحكومة وهو المطلب الوحيد للاضراب. وهذا أيضا ما لا يستطيع معارضته احدٌ علنا، لأنه مطلب دستوري محق وحاجة وطنية قصوى، مما يشكل احد اسباب تأييد اصحاب العمل للإضراب. فالصراع ليس صراعا طبقيا في ظروف الانهيار، بل ان للطبقات جميعها، ولو بدرجات مختلفة، مصلحة في إيجاد الحلول السياسية السريعة لأزمة وطنية شاملة، وهذا ما لا يمكن تحقيقه بدون حكومة قادرة على استجلاب الدعم الدولي.
من الخطأ النظر الى الاضراب، كإضراب للسلطة ضد نفسها او ضد الشعب، كما جرى تداوله في الاعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي. الاضراب البارحة هو أساسا، من منظور شريحة واسعة من الشعب، إضراب في وجه رئيس الجمهورية و"التيار الوطني الحر"، على إفتراض انهما يتحملان مسؤولية تعطيل تأليف الحكومة، وإطالة معاناة الشعب.
رغم عدم استقلالية الاتحاد العمالي العام وتمثيله الضعيف للعمال، يبدو من خلال تجربة الاضراب، وكتنظيم نقابي قائم على مستوى الوطن، الاقدر على خلق حالة وطنية جامعة، ولو ظرفية ورمزية. انه تذكير بالدور الوطني الفعلي وليس الرمزي للاتحاد العمالي العام عندما كان مستقلا، والذي تجلى ابان الحرب، من خلال توحيد الشعب في إضراب وطني عام سنة ١٩٨٧ ضد الحرب ومن اجل دعم العملة الوطنية أيضا، في جو من الانقسام الطائفي الحاد في حينه. في هذا المعنى يمكن اعتبار "الوحدة الطبقية العمالية"، احدى الركائز الاساسية للوحدة الوطنية. للمقارنة، يمكننا ملاحظة القدرة التنظيمية لاتحاد عمالي ضعيف وتابع لأحزاب السلطة، مقابل الضعف التنظيمي على المستوى الوطني، للمجموعات الثورية المستقلة. وهذا لا يعود للقوة التنظيمية للاحزاب وللاتحاد نفسه، او للضعف التنظيمي لمجموعات الثورة، بقدر ما يعود للقاعدة الطبقية القطاعية للمنظمة النقابية، وخاصة في قطاعات المصارف والإدارات والمؤسسات العامة والتعليم والصحة والبلديات والبترول والمطاعم وبعض الصناعات وغيرها.
على الجميع ان يدرك ان الاتحاد العمالي العام لا يضم فقط حزبيين، بل نقابيين مستقلين أيضا، موزعين على اكثر من ٥٠ اتحادا. ٥٤ % من هذه الاتحادات هي اتحادات حزبية مذهبية، تابعة لاحزاب السلطة، مع رجحان عددي لحركة "امل" و"حزب الله"، ووجود نسبي لـ"القوات اللبنانية" والحزب الاشتراكي والحزب القومي وحزب البعث والكتائب و"المستقبل". الاضعف تمثيلا من بين احزاب السلطة الاساسية من حيث عدد الاتحادات، هما "المستقبل" و"التيار العوني". اما الاتحادات المتبقية فهي اتحادات مختلطة، يقودها في بعض الاحيان تحالف احزاب. واذا كان للاتحادات المذهبية الحزبية الكلمة الفصل، فلأن القرارات في الاتحاد تُتخذ على اساس عدد الاتحادات وليس على اساس عدد الاعضاء الذين يمثلون هذه الاتحادات. بالتالي لا تعكس قرارات الاتحاد بالضرورة إرادة أعضائه بالمعنى الديموقراطي، مما يفترض وجود معارضات مستقلة داخل الاتحاد نفسه. وهذا ما قد يفتح الباب امام تعديلات في توجهات الاتحاد ونظامه، تجعله أكثر ديموقراطية واستقلالية. لكن ذلك يحتاج الى مبادرات جماعية مستقلة لم تتبلور بعد، وقد تتلاقى مع تطلعات بعض الحزبيين المؤيدين لضرورة تطوير الاتحاد العام وجعله اكثر استجابة لمطالب الاجراء. الاضرابات العامة وغيرها من التحركات الشعبية الميدانية، هي مناسبة مهمة حسب اعتقادي، لإطلاق هذا النوع من المبادرات، لأن في مناسبات كهذه، يتقاطع الوعي النقابي الحزبي مع الوعي النقابي المستقل. الاضراب العمالي هو مناسبة مهمة أيضا للقوى العمالية والنقابية والاجتماعية المعارضة للاتحاد العمالي العام، للاستفادة من الحالة التعبوية. فليس مطلوبا من هذه القوى عزل نفسها عن الذي يحصل بحجة انه "مسيس" ومن تدبير السلطة، بل من الافضل ان تلاقي هذه التعبئة الشعبية الحزبية وغير الحزبية التي ينظمها الاتحاد العمالي العام، من اجل الدفع في إتجاه إنشاء نقابات مستقلة، وبالتوازي من اجل الضغط لاجراء انتخابات جديدة في النقابات والاتحادات والاتحاد العمالي العام، كما بدأ ينادي المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين، الذي يعقد الاسبوع المقبل ورشة عمل في هذا الخصوص. فمعظم التنظيمات النقابية الحالية لم تجرِ انتخاباتها حسب القانون، واصبحت قياداتها الحالية بالتالي غير شرعية.
الاضراب ليس مجرد وسيلة ضغط، تستخدمه النقابات. الاضراب مدرسة نضالية توعّي العمال على مصدر قوتهم وتعرفّهم بالملموس إلى خصومهم وإلى تضارب مصالحهم معهم. حتى لو استخدمته الاحزاب لتحقيق اغراضها، يبقى الاضراب تجربة تسمح للمواطن بوعي قوته الذاتية وبالمشاركة المباشرة في تحديد مصيره. وهذا ما لا تستطيع الاحزاب تفادي حصوله وهي تستخدم الاضراب لأغراضها الخاصة. لذلك هي تستخدم الاضراب بحذر شديد، وبشكل محدود، مما يمكن ان يفسر تقليصها لعدد المشاركين من قبلها في الاعتصامات. فاضراب كهذا من اجل تأليف الحكومة مثلا، وإذا اريد له ان يحقق مطلبه، لا يمكن ان يكون الا إضرابا مفتوحا وحاشدا، ولا سيما ان الاتحاد العمالي العام سبق ونظم اضرابا عاما ليوم واحد وللهدف نفسه قبل اسابيع قليلة، ولم يعطِ اي نتيجة. لكن الاحزاب لا تجرؤ على الانخراط في إضراب عام مفتوح، لأنه من جهة يكشف للمواطنين قدرتهم على التأثير المباشر في القرارات السياسية، ويؤدي عمليا من جهة ثانية الى ضرب اسس المحاصصة الطائفية من خلال كسر شوكة رئيس الجمهورية. وهذا ما لا يمكن ان يقبل به "حزب الله" وباقي احزاب السلطة. فالمحاصصة الطائفية هي أكثر ما تحرص عليه هذه الاحزاب، حتى في زمن الانهيار.