تحديد الصلاحيات الاستثنائية

السفير الدكتور جان معكرون

نصّت المادة 16 من الدستور اللبناني على أن تتولى السلطة المشترعة هيئة واحدة هي مجلس النواب، كما أناطت المادة 17 السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء، وأضافت المادة 18 أنّ لمجلس النواب ومجلس الوزراء حق اقتراح القوانين ولا يُنشر قانون ما لم يقرّه مجلس النواب.
المبدأ أنّ مجلس النواب يشترع القوانين في حين أنّ الحكومة تتولى السلطة الإجرائية أي تنفيذ القوانين، والواضح أنّ الحكومة تحتاج دائماً إلى موافقة مجلس النواب على مشاريعها لكي تنفذ سياستها.

لا شكّ أنّ التشريع يعني سنّ شريعة أو قانون لتنظيم علاقة مجتمعية ورعاية تطورها بهدف إشاعة السلام في المجتمع. فالقانون هو برأي القديس "توما الأكويني" قاعدة أو مقياس أعمال بفضله نقوم بأعمال ونمتنع عن القيام بأعمال أخرى، إضافةً إلى أنّ "محدودية الإنسان تسوّغ حاجته إلى القانون" كما اعتقد أبو الشرائع مونتسكيو.
وإذا كان التشريع يهدف في الأساس إلى إحقاق الحق وفرض العدل والمحافظة على المساواة، فإنه يتخطى ذلك إلى الابتكار عندما يصبح تشريعاً يهدف إلى التقدم وجعل الإنسان في وضعٍ أفضل.

ظروف نشأة الصلاحيات الاستثنائية – تفويض البرلمان حق التشريع إلى الحكومة
يُعتبر القرن العشرين عصر التقهقر البرلماني في ميدان التشريع لصالح الحكومات، ولقد تنوّعت تعابير الفقهاء في الشهادة على ذلك التراجع وتمثّل عملياً في عناوين مقالاتهم وفقاً للتالي:

أفول القانون Burdeau G، تقصير النظام البرلماني Goguel F – انحطاط البرلمانات، Avril P، المجالس النيابية في البلدان المتقدمة أوهام أم حقائق Baaklini A – سقوط القانون، Sauvageot A – النائب المشترع وهمٌ أم حقيقة؟ زاهر الخطيب – هذه العينة من مجموعة عناوين تدلّ بوضوح على مدى تراجع البرلمان في دوره التشريعي، ولقد أدّى هذا الوضع إلى حدّ دفع بالاتحاد الأوروبي إلى تنظيم ندوة في جنيف في العام 1976 تحت عنوان: "من يشترع في العالم المعاصر؟".

إنّ بلوغ هذا الحدّ من التساؤل حول هوية من يشترع في العالم المعاصر يدلّ بلا شك على حالة عدم الفاعلية التي يرزح فيها مجلس النواب.

وثمة سؤال يُطرح دائماً، ما هي أسباب عدم فاعلية مجالس النواب في التشريع؟
نجيب على هذا السؤال بالنقاط التالية:

1- مصالح النواب الشخصية: تقتضي مصلحة النائب المحافظة على ثقة منتخبيه وتأمين فوزه في الانتخابات اللاحقة وبالتالي تصبح وعود الخدمات الشخصية أسهل تحقيقاً من وجود التخطيطات الاجتماعية والإنمائية الشاملة. ولقد عبّر الكاتب الفرنسي Andre Tunc عن هذا الواقع واصفاً مجلس الممثلين الأميركي بأنّ العامين الأولين من ولايته مخصصان لدفن الوعود التي قُطعت للناخبين في حين أنّ العامين الأخيرين مكرّسان لإغداق وعودٍ جديدة. وقد ينطبق هذا الوصف على برلمانات عديدة في العالم ومنها البرلمان اللبناني.
وكان الدكتور خير الله غانم قد أشار في كتابه "الراديكالية في السياسة اللبنانية" نقلاً عن بعض النواب ما يلي:

"نادراً ما اقترح نائب قانوناً أو تعديلاً لقانون إلاّ وقد وقفت وراء هذا المشروع مصالح خاصة".
2- إنّ بطء التشريع وتفوّق الحكومة في المبادرة التشريعية هما من أسباب عدم فاعلية البرلمان. عبّر عن هذا البطء في التشريع النائب بشير الأعور في العام 1963 قائلاً: "أنا لم أشاهد كسلاً يستولي على مجلس كالكسل المستولي على المجلس الحالي".
كما كشف ملف النهار الصادر في شباط 1968 عن سلبية النشاط النيابي من 1964 حتى 1968 "إنّ فقدان النصاب قد عطّل 35 جلسة في السنوات الأربع".

ولا بدّ لنا من التوقف هنا أمام وقائع جديرة بالأهمية وهي منافسة الحكومة للبرلمان في إطار المبادرة التشريعية، ولقد أشار العديد من الفقهاء القانونيين إلى أنّ من يملك حق المبادرة هو الذي يحكم. أما بالنسبة للبطء في العملية التشريعية فالواضح أنّ الأصول العادية في التشريع طويلة وبطيئة وتتلخص في المراحل التالية: مبادرة تشريعية – أخذ العلم بها في بدء الجلسات النيابية – إحالتها إلى اللجان المختصة – إحالة المشروع أو الاقتراح إلى اللجان المشتركة في حال دخل في اختصاص أكثر من لجنة – رفع تقارير اللجان إلى مكتب المجلس لإدراجها في جدول أعمال الجلسات – تلاوة المشروع موضوع المناقشة مع أسبابه الموجبة وتقرير اللجنة المختصة والتعديلات – إعطاء الكلام للنواب – بعد انتهاء المناقشة، يبحث المجلس في المواد والتصويت عليها مادة مادة إلاّ إذا تمّ تقديم اقتراح بردّ المشروع إلى اللجان.

هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ المادة 77 من النظام الداخلي لمجلس النواب قد أعطت الأولوية بالمناقشات والتصويت إلى اقتراح رفض المشروع وردّه إلى الحكومة أو إلى لجنة غير التي درسته أو إلى تأجيل المناقشة ثمّ إلى اقتراح التعديل على التعديل وأخيراً اقتراح التصويت على أصل المشروع.

3- تقنية النصوص القانونية
إنّ المشاريع المطروحة على مجلس النواب متنوعة من حيث المضمون كالمواضيع الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والقانونية فكان من الطبيعي أن تحتوي على نصوص مختلفة المعالم وعلمية الإطار منسكبة في قالب قانوني وتقني بحيث يتعذر على أيٍ كان استيعابها ومناقشتها ما لم تتوافر له المقدرة العلمية والاطلاع الواسع. الواقع يشير إلى أنّ الإمكانيات العلمية والتقنية المتوافرة للمشترع اللبناني ضعيفة قياساً مع الإمكانيات العلمية الموجودة في بعض البلدان الغربية. ففي الولايات المتحدة مثلاً، يتأمن الجهاز المساعد للكونغرس عبر موظفين كفوئين بنسبة اثني عشر لكل سيناتور وخمسة لكل عضو في مجلس الممثلين، بالإضافة إلى مركز توثيق خاص بالكونغرس له دور فاعل بتزويد النائب بالمعلومات الفنيّة والدراسات العلمية. وكان البروفسور عبدو بعقليني مدير مركز التشريع الإنمائي في جامعة Albany في نيويورك قد ذكر في مقالته "إنماء الموظفين التشريعيين في الدول النامية" والمنشورة في مجلة الحياة النيابية عام 1975 أنه فقد الأمل في مقدرة النواب على تخطّي الصعوبات التي فرضها واقع التشريع المعاصر "ما دام التشريع عملاً فائق التعقيد ويتطلب مشاركة العديد من المهارات والاختصاصات فإنّ أي لجنة تشريعية بغض النظر عن اختصاصات أعضائها لا تستطيع أن تسير في هذا العمل للصعوبات العديدة التي ستواجهها".
وما يعزّز هذه النظرية أنّ دور الدولة كان مقتصراً في عصر النظام الليبيرالي على نواحي الدفاع الوطني والسياسة الخارجية وحفظ النظام العام، في حين أصبحت الدولة مسؤولة حالياً بفعل تطور الظروف عن رفاهية المواطن فتدخلت في مختلف الميادين الاقتصادية والاجتماعية.

وكانت العجلة في اتخاذ القرار من أهم العوامل التي ساهمت في تقويض الدور التشريعي للبرلمان لأنها وجدت صعوبة في تحقيق مبتغاها في ظلّ ظروف ومراحل العملية التشريعية البطيئة. وتعاظمت هذه المشكلة بفعل الظروف الاستثنائية والمفاجئة مثل الحروب والأزمات الاقتصادية والأخطار الداخلية التي تستلزم بطبيعتها حلولاً سريعة واستثنائية.
واستمرّ تضاؤل الدور التشريعي لمجلس النواب حتى وصل إلى ما هو عليه الآن حيث وُصف بآلة تسجيل لمشاريع الحكومة أو بـRubber Stamp أي خاتم مطاطي الذي يعني في هذا السياق موافقة البرلمان الروتينية على القوانين من دون التدقيق في مضمونها. وهكذا نرى أنّ الحكومة قد انتزعت دور التخطيط والتوجيه من مجلس النواب الذي كان ضحيّة الانتقال من مجتمع ليبيرالي إلى مجتمع أضحت فيه الدولة مسؤولة عن رفاهية المواطنين الفردية والاجتماعية. وأكثر من ذلك، فإنّ الفقيه الدستوري Burdeau وصل إلى اعتبار أنّ "الحكومة غير المتمتّعة بحق التشريع كالربّان دون مقود".

ويجدر بنا أن نلقي الضوء على الخلاصة التي توصّل إليها الأستاذ الفخري في القانون George Liet-Veaux وهي التركيبة الدستورية التالية:
- السلطة التنفيذية والتشريعية في يد الوزراء.
- السلطة السيادية والمالية في يد المجالس المنتخبة.
- السلطة القضائية في يد التقنيين.

تحديد الصلاحيات الاستثنائية
الصلاحيات الاستثنائية هي أن يفوّض البرلمان بموجب قانون صادر عنه وبصورة استثنائبة صلاحياته التشريعية إلى الحكومة بناءً على طلبها وفي مواضيع تشريعية عائدة أصلاً لصلاحيته وضمن مهلة محددة. وبناءً على هذا التفويض، تقوم الحكومة بإصدار مراسيم اشتراعية نافذة منذ تاريخ نشرها ولها قوة القانون.
لقد اعتمدت فرنسا مبدأ تفويض البرلمان للحكومة في مواضيع مالية في العام 1879 أي خلال الجمهورية الثالثة، واستمرّ هذا التقليد حتى الجمهورية الخامسة الحالية (المادة 38).
وإنّ تفويض البرلمان للحكومة معمول به أيضاً في بريطانيا وإيطاليا وسويسرا وبلجيكا والولايات المتحدة.
أما في لبنان فلقد طرحت حكومة إميل إدّه، حكومة الإنقاذ والإصلاح، في تشرين الثاني 1929 في بيانها الوزاري، برنامجاً إصلاحياً برّرته بالفوضى الاقتصادية الناتجة من الأزمة الاقتصادية وتذرّعت بالظروف الاستثنائية. ولأجل الإسراع في العمل، رأت الحكومة أنه لا يمكن عملياً تحقيق برنامج الإصلاح الإداري والاقتصادي إلاّ باللجوء إلى إصدار مراسيم اشتراعية وبالتالي طلبت الحكومة من البرلمان تصديق مشروع قانون تفويضها والتي تقدمت به إلى البرلمان.
صوّت مجلس النواب على قانون تفويض الحكومة التشريع بواسطة مراسيم اشتراعية في قضايا وظيفية لها نتائج مالية. وتعليقاً على أول قانون تفويض البرلمان اللبناني صلاحياته إلى الحكومة يمكن القول إنه لم يكن فعلاً مبرراً بالظروف الاستثنائية بل بدت لنا الظروف عادية إضافةً إلى أنّ المواضيع المفوضة إلى الحكومة هي عادية جداً.
كان مجلس النواب اللبناني مطواعاً في تفويضه صلاحياته التشريعية إلى الحكومة، ولقد صوّت ستة عشر قانون تفويض ابتداءً من العام 1929 لغاية 1984 وأصدرت الحكومات بموجب هذه القوانين 788 مرسوماً تشريعياً علماً أنّ مجلس النواب لم يرفض سوى مشروع قانون تفويض واحد عام 1968.

إنّ التدقيق في قوانين التفويض المتعاقبة يظهر التطور الحاصل في طبيعة موادها، فمن قضايا وظيفية في سنة 1929 إلى قضايا المصالح المشتركة في سنة 1944، إلى قضايا جمركية في العام 1950. وفي العام 1952، اتخذت المواضيع منحى جديداً في اتجاه القضايا السياسية والاقتصادية والقضائية كقانون الانتخابات النيابية وقانون المطبوعات وقانون التنظيم القضائي وإنشاء مجلس تصميم وإنماء اقتصادي وقانون الطوارئ وقانون معاقبة الإثراء غير المشروع. أما القضايا المالية فبرزت في قانون تفويض سنة 1958 واستمرت مستهلكة في بنود قوانين التفويض حتى سنة 1982.
سنداً لما تقدم، وفي ظلّ الظروف الاستثنائية التي يمرّ فيها لبنان حالياً، نجد الحاجة ماسّة إلى أن يجيز مجلس النواب للحكومة اتخاذ مراسيم اشتراعية في المواضيع التالية:
تعديل قانون الانتخابات النيابية، إعادة النظر بالقوانين المتعلقة بالمهل القانونية والقضائية والعقدية والإدارية.

إعادة النظر في قوانين الضرائب والرسوم، تعديل أو إلغاء الأحكام التشريعية النافذة أو وضع نصوص جديدة في ما يتعلق بالشؤون الدفاعية والأمنية وشؤون السلامة العامة والشؤون الصحية والاجتماعية والاقتصادية والمالية والمصرفية والإنمائية والتربوية والإعلامية وفي كل ما يتعلق بإعادة تعمير البلاد وتنمية موارد الخزينة.
قانون الموازنة، مكافحة الغلاء والاحتكار، إلغاء المرافق العامة والوزارات أو دمجها.
الإصلاح الإداري والقضائي والمالي، تشجيع الاستثمارات الداخلية والخارجية، استرجاع الأموال المحوّلة إلى الخارج بطريقة غير شرعية ومخالفة للقوانين.

وتقتضي الحكمة العملية أن تراعي الحكومة عند إصدارها المراسيم الاشتراعية التقيّد بمبادئ العدل والإنصاف والمساواة بين الغني والفقير، بين القوي والضعيف، وبين صاحب العمل والعامل.

وأخيراً، نخلص إلى القول بأنّ التشريع رسالة ومسؤولية وطنية ويترتب على من يتولاّها الاهتداء والالتزام بالقيم إضافةً إلى تمتعهم بالنزاهة والكفاءة العلمية وأن تكون لديهم رؤية مستقبلية من شأنها تأمين الظروف الفضلى للمواطن.

L’objet de la loi est de rendre les hommes meilleurs.
Portalis – French Jurist.