لبنان يحتاج نظاماً سياسياً جديداً برعاية دولية

 فرانسوا ضاهـر- قاض سابق ومحامٍ
 
13 نيسان 1975، إنه يوم انطلاقة حرب دارت رحاها على أراضي الجمهورية واتخذت أوجهاً متعدّدة بدءاً من دخول قوات الردع العربية (١٩٧٦) الى انحصارها بالقوات السورية ومواجهة المقاومة اللبنانية لها لإخراجها من مناطقها (١٩٧٨- الأشرفية و ١٩٨١ زحلة) مروراً باجتياح إسرائيل للبنان (١٩٨٢) الذي دخلته لإخراج الفصائل الفلسطينية المقاتلة منه ووقف تمدّد نفوذها على أراضيه وحمله على توقيع معاهدة سلام معها.
 
وما لبثت أن أثارت بفعل انسحابها من الجبل اقتتالاً طائفياً فيه أدى الى تهجير المسيحيين من الشوف وعاليه إقليم الخروب وشرق صيدا (١٩٨٣)، وقد عجزت قوات السلام الدولية المتعددة الجنسيات من إحلال السلام فيه (تفجير مقر المارينز ١٩٨٣)، حتى وصل الى عهد الحكومة الانتقالية التي ترأسها العماد ميشال عون وخاض بها، خلافاً لمدى صلاحياتها الدستورية، ثلاث حروب داخلية عبثية (ما بين ١٩٨٩/٣/١٤ و ١٩٩٠/١٠/١٣) أدّت الى انعقاد مؤتمر الطائف (١٩٨٩/١٠/٢٢) وصدور وثيقة الوفاق الوطني عنه (١٩٨٩/١٠/٢٢) التي صادق عليها المجلس النيابي المنعقد في القليعات (١٩٨٩/١١/٥)، وتحوّلت بنودها الى تعديلات في الدستور اللبناني (١٩٢٦/٥/٢٣) التي أقرّها المجلس النيابي بالقانون الدستوري الصادر في ١٩٩٠/٩/٢١.
 
وهذا يعني أنّها كانت حرباً أهلية بامتياز، مهما قيل في تسمياتها ومهما تعدّدت توصيفاتها ومهما اتخذت من أوجه ومرت بمحطات، رمت في جوهرها إلى قلب نظام الحكم في لبنان وتقليص صلاحيات المسيحيين فيه وتحجيمهم وترحيلهم عنه، بفعل قسمتهم على بعضهم (مجزرة إهدن ١٩٧٨) وتهجيرهم (مجزرة الدامور ١٩٧٦ وحرب الجبل ١٩٨٣)، إحقاقاً لمطالب استخدمت القوى الفلسطينية المسلحة اللاجئة إلى الأراضي اللبنانية (١٩٤٨ و ١٩٧٠) والمقيمة عليها للانطلاق منها (اتفاق القاهرة ١٩٦٩) لمقاومة المحتل الإسرائيلي، كأداة عسكرية لتحقيق تلك المطالب.
 
وإن هذه العملية الانقلابية على نظام الحكم القائم (١٩٧٥/٤/١٣) قد فتحت الباب للقوى المعارضة للنظام اللبناني، والتي تمثّلت بالحركة الوطنية (الحزب التقدمي الاشتراكي والحزب الشيوعي و"المرابطون" و"منظمة العمل الشيوعي" و"حزب البعث العربي الاشتراكي" و"جيش لبنان العربي" والقوى الفلسطينية وغيرها)، كي تسير هي أيضاً بعملية الانقلاب تلك، وتثبّت نظاماً سياسياً جديداً قائماً على إلغاء الطائفية السياسية.
 
وإن القوى الفلسطينية مدعومةً من بعض الدول العربية بالمال والسلاح والمرتزقة إذا كانت قد ارتضت لنفسها أن تكون الأداة الانقلابية على النظام اللبناني، فهو لأنها كانت ترمي الى التوطّن فيه من جهة، وتحويله إلى بلد مواجهة مفتوحة بوجه إسرائيل، من جهة ثانية.
 
وما يثبّت هذا التوصيف للحرب اللبنانية، وإن كانت لها أذرع ومآرب وتدخّلات خارجية، هو أنها انتهت إلى تعديلات دستورية منحت الطائفة السنيّة الكريمة والمسلمين عامةً، المناصفة العددية في المجلس النيابي (٢٤/أ دستور)، وأخرجت السلطة الإجرائية من يد رئيس الجمهورية (١٧ و٥٣ دستور ١٩٢٦) وأناطتها بمجلس الوزراء مجتمعاً (٦٥ دستور ١٩٩٠) الذي هو السلطة التي تخضع لها القوات المسلحة (٦٥ دستور).
 
غير أن الحروب العبثيّة الثلاث التي خاضها آنذاك العماد ميشال عون، كما أسلفنا، هي التي أوصلت الى انعقاد مؤتمر الطائف والى التعديلات الدستورية التي نشأت عنه وأدّت الى وضع لبنان، بقرار دولي، تحت الوصاية السورية لفترة امتدّت حتى ٢٠٠٥/٤/٢٦. وكان من مفاعيل تلك الوصاية أن تمّ تشويه تطبيق دستور الطائف على نحوٍ يؤمّن استمرار النفوذ السوري على الأراضي اللبنانية ويؤمّن إمساكه بمفاصل الحكم في لبنان وفي لعبة التوازنات الطائفية التي تبدّلت بعد تمركز الدولة الإسلامية في إيران وبدء امتداد نفوذها على الدول العربية بواسطة أبناء الطائفة الشيعية الذين يكوّنون النسيج المجتمعي لكل من تلك الدول.
 
من هنا، دخلت الشيعيّة السياسية كمعادلة جديدة على الداخل السياسي اللبناني ودخل معها المشروع الممانع الذي تنتمي إليه، ويغذيها ويدعمها ويسلّحها في مواجهة العدو الإسرائيلي الذي يجب إزالته عن الخريطة الجغرافية في المنطقة العربية وإعادة أرض فلسطين إلى بنيها.
 
ولتحقيق هذا المشروع الممانع بكلّ مقتضياته، كان لا بدّ من استخدام سلاح المقاومة الإسلامية في الداخل اللبناني في محطات مفصليّة أدّت الى فرض معادلات سياسية جديدة أضعفت مرتكزات الكيان اللبناني ومقومات صموده واستنزفت مدّخراته وموجوداته وإحتياطاته حتى وصلت البلاد إلى أوضاعها وإلى الفراغ في السلطة الإجرائية الى الحدّ والمدى اللذين لم يعد من الممكن إعادة تكوينها، إلاّ على قياس المشروع الممانع ووفق متطلباته ومنهجيته ومطالبه في تكوين السلطات الدستورية في البلاد وفي نظرته لاقتصادها وماليتها العامة.
 
من هنا، يمكن الاستنتاج بأن لبنان منذ ما قبل ١٣ نيسان ١٩٧٥، وتحديداً منذ نشأته في الأول من أيلول ١٩٢٠ وحتى اليوم، ما زال يعاني من أزمات داخلية قامت كلّها على خلفيّة إسقاط نظامه السياسي الذي أُقرَّ بدستور ١٩٢٦/٥/٢٣. وأن هذه الأزمات ما زالت تتوالى عليه حتى أوصلته الى أوضاع لم يعد بإمكانه لا استيعابها ولا النهوض منها ولا تجاوزها ولا معالجتها.
 
وبات يتعيّن على جميع اللبنانيين أن يلتئموا في مؤتمر وطني جامع، برعاية دولية، كي يتوافقوا على نظام سياسي جديد لإنقاذه وإدارته وحكمه على قواعد نهائية ثابتة ومثبّتة توفّر الطمأنينة لجميع أبنائه وتضمن تعدّديتهم وخصوصيتهم وإستقلالهم البنيوي، بحيث يتمّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية من رحم هذا النظام الجديد وبفعل تفعيل أحكامه.