من مكر التاريخ إلى "الرقص مع الذئاب"... ميادين النزال تتّسع بين واشنطن وبكين

محمد حسين أبو الحسن
 
للمرة الأولى منذ 500 عام، تتجه الهيمنة الغربية على العالم إلى نهايتها، مفسحة الطريق لصعود الصين. منذ اكتشف كريستوف كولومبوس أميركا، ظل الغرب قوة رائدة في كل المجالات، يحدد قواعد اللعبة الدولية، رغم كونه أقلية في العالم؛ إذ لا يشكّل سوى 15% من سكان الأرض، بينما تشكل الصين 18%. اليوم تجري إعادة الاعتبار لنوع من التوازن؛ تأخذ الأغلبية مكانها، رويدا رويدا، في صدارة المشهد العالمي. بالطبع لن يكون الأمر بالسهولة التي يبدو عليها؛ فالتاريخ ماكر والمفاجآت واردة، تصرّ الولايات المتحدة على الاستفراد بمقعد القيادة العالمية، وستفعل كل ما تستطيع لكبح مسيرة منافسها العملاق الأصفر، ما يجعل الباب مفتوحا لكل الاحتمالات والمفاجآت، فالتاريخ ماكر مراوغ بطبيعته.
 
يوم الجمعة الماضي، عقد الرئيس الأميركي جو بايدن، قمة افتراضية، مع زعماء الهند واليابان وأوستراليا، لمواجهة تنامي قوة الصين ونفوذها على المسرح العالمي. تحاول اميركا "تقليم الأظافر اللينة" للصين، وفق برنامج سري أقره الكونغرس منذ عام 1995؛ هدفه النهائي تفكيك الصين، عبر الضغط على بطنها الرخوة، أي النزعات العرقية والدينيّة، وإشعال العداوات بينها وبين جيرانها حول ثروات بحر الصين الجنوبي، كما عقد وزيرا الخارجية والدفاع الأميركيان مباحثات مهمة مع نظيريهما اليابانيين في طوكيو، اليوم.
 

الإرادة والامتثال
من دون مبالغة، تقف الإنسانية، أمام "لحظة تاريخية"، تتزاحم الامبراطوريات على أسباب القوة ومعززات الهيمنة، ألم يقل شوبنهاور "العالم إرادة وامتثال"، قوى تسعى للصعود بدأب للإمساك بالزعامة، وأخرى تقاوم الاضمحلال بضراوة، ظهور قوة كبرى جديدة على المسرح الدولي حدث نادر، يحمل قدراً من الانتظام أو الفوضى، عراك غير مسبوق بين غرام الغرب بالقوة وفلسفات مابعد الحداثة، وحكمة الشرق النابعة من تعاليم كونفوشيوس الروحية-المادية وأفكار صن تزو "أبو الاستراتيجية".
 
 
في ثلاثينات القرن العشرين دعي جنرال صينى إلى مباراة كرة قدم - لم تكن مألوفة بعد في الصين- وبعد دقائق من بدء المباراة، أمر الجنرال معاونيه بإعطاء "كرة" لكل لاعب، وفض هذا النزاع السخيف باللهاث حول كرة واحدة؟!..
 
 
ينفر العقل الصيني من المنافسات الصارخة ذات النتائج الحاسمة، ويستملح الاستراتيجيات الناعمة، بينما "الصراع" فكرة حاكمة للعقلية الغربية، منذ صراع الآلهة عند الإغريق، حتى "صراع الحضارات"، عند صمويل هنتنغتون. ومن جماع التعارض بين الرؤى والأسلوبين الغربي والصيني، يجري وضع حجر الأساس لسرديات، تتهاوى معها تصورات البريطاني "كيبلينغ" عن الشرق والغرب، وتبرز خرائط اقتصادية جديدة: أسقط ترامب "اتفاق التجارة عبر المحيط الهادئ"، خرجت بريطانيا من الصف الأوروبى، مدت القارة العجوز بقيادة ألمانيا يدها للصين مرة واليابان مرة، لضمان حرية التجارة. لكن المشهد في حقيقته أعقد من هذا المثال المغرق فى الوضوح.
 
تحت الظلال
فى عمق الصورة وتحت ظلال ألوانها الكثيفة، تواجهنا مشاهد من اختيار مخرج عبقري اسمه التاريخ، تدرك الصين نقاط ضعفها مثلما تعي نقاط قوتها، كل ملمح لزيادة نفوذها على المسرح العالمي، ربما يفضي لضعف البناء الداخلي واحتمالية عدم الاستقرار في هذا البلد/القارة المتعدد القوميات، وسط تفاوت طبقي متزايد، يرى أهله أنهم ينتمون الى العالم الثالث، البون واسع بينهم وبين اميركا وأوروبا، من حيث نصيب الفرد من الناتج القومي. حتى لو انتزعت الصين– وستفعل- قمة الاقتصاد العالمي، فسوف تواجهها مشكلات النمو، والاضطرار لمضاعفة الإنفاق العسكري، كبحا لمهددات مصالحها التجارية والاستراتيجية، وضمان تدفق مشتقات الطاقة إلى قلبها الصناعي، تلك هي شرارة التوترات.
 
 
زرت الصين، منذ عامين، وجدتها خلية نحل؛ الصيني "نحلة عسل"، يأكل قليلاً ويعمل كثيراً، ويعيش طويلاً، لهذا لا أحد قادراً– هذا الزمان- على منافسة بكين في مدارج الصعود، النقاش مع المواطنين والمسؤولين يمنحك شعورا بأن "الحلم الصيني" لن يقف عند حد، امبراطورية قديمة تبعث من جديد، فى سابقة تاريخية.
 
 
قبل سبعة عقود، بدت الصين كديناصور هائل، غاص في مستنقع لا قرار له، قبل أن يحاول الزعيم ماو تسي تونغ و(شو إن لاي)- بمسيرته الطويلة وثورته الثقافية-تغيير الأوضاع واستعادة وحدة التراب الصيني، صورة "ماو" على جدار في أهم ميادينها، تذكر بأن ثورته الثقافية حافظت على وجود الدولة، لكنها تركت الشعب ضحية للفقر والمجاعات، رحل ماو عام 1976، وبعد صراع مرير على السلطة والقضاء على "عصابة الأربعة"، عثر رفيقه وخلفه دينغ شياو بينغ على طريق مغاير، عام 1979، رأى أن مفتاح حل الأزمات يتلخص فى إصلاح الداخل والانفتاح على الخارج وتنمية الاقتصاد وتخليص البلاد من الفقر والانغلاق، وجلب التكنولوجيا المتطورة من كل مكان، وأطلق عبارته الشهيرة: "لايهم أن يكون القط أسود أو أبيض، ولكن الأهم أن يكون قادراً على اصطياد الفئران". اللافت أن الخطوة الأولى فى مشواره الإصلاحي- قبل أي شيء- كانت الأولوية المطلقة، لإصلاح التعليم وإحياء البحث العلمى وابتعاث الطلاب إلى الدول المتقدمة؛ القرض الأول للصين من البنك الدولي في السبعينات خصص بأكمله لإصلاح التعليم. ثم شرع دينغ فى إصلاح اقتصادي (إنتاجي)، بنى هذا البلد مصانع وطرقا ومرافئ، مدنا وبلدات جديدة، مطارات وقطارات مغناطيسية ومركبات فضاء، وجيشا جرارا حاذقا وتكنولوجيات حديثة.. ومنذ عام 1979 انتشل 450 مليون صينى من دائرة الفقر الجهنمية، ما يوازى 80% من مجمل الذين انتشلهم العالم، خلال القرن العشرين، وقد احتفلت الصين- قبل أيام- بالقضاء على الفقر المدقع، وتلك، في رأيي، هي "المعجزة الحقيقية" للصين، معجزة كاملة الأوصاف، وقد نتوقف أمامها باستفاضة قريبا. تغيرت الصين من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي - زراعي مُنتج، فارتفعت صادراتها، خلال عقد واحد، من 10مليارات دولار إلى تريليون دولار، اليوم تتجاوز تجارتها مع العالم تريليونى دولار..!.
 
 
كيف حدث ذلك؟!
 
إليك الحكاية من بدايتها..!!
 
قبل 40 عاماً، كانت "شينزن" قرية صغيرة لصيادي السمك، تطل على بحر الصين الجنوبي، مجرد رقعة واسعة من الوحل، على الشاطئ المقابل لهونغ كونغ، اختار دينغ "شينزن"، لتكون "مختبرا" لأحلام شعبه الكبرى، دشنها منطقة اقتصادية خاصة، شبه رأسمالية وموجهة للصادرات. فى البدء ظن كثيرون أن الأمر مجرد دعابة!.. ثم ما لبثت الإنجازات أن ارتسمت على أرض الواقع، "شينزن" حاليا عاصمة ديناصورات التكنولوجيا الراقية في العالم، من شركات الكمبيوترات والصناعات الدوائية، والملاحة الفضائية والأقمار الاصطناعية والرقائق الإلكترونية والليزر والسيارات الكهربية الصديقة للبيئة..إلخ.. إجمالى ناتج شينزن وحدها "نحو 200 مليار دولار سنويا". نموذج باهر، انتشر في أرض التنين، كالنار فى الهشيم، لدرجة أن الصين أصبحت المنتج الأول للسلع المصنعة عالميا، وأكبر دائن في عصرنا، بخاصة بالنسبة لأكبر مدين، واسمه "الولايات المتحدة".
 
ما بعد الشيوعية
لم يتحقق الانفتاح فى الصين بخطوة واحدة، ولم يفتح الباب على مصراعيه للاستثمارات الأجنبية بين يوم وليلة، فقد قام على مبدأ الإصلاح المتدرج في كل المجالات. طور الصينيون لأنفسهم إطارا اقتصادياـ سياسيا يعتمد علي رأسمالية السوق الحديثة‏,‏ لكنه يجسد نبض الصين بحضارتها الممتدة وتراث "ما بعد الشيوعية‏",‏ ويحتفظ بقوة كبرى لدولة نشيطة قادرة بقوة وهدوء على فرض خططها وتحديد مهامها، وفقا لحاجات النمو ومصالح الأمة، صانعة تحولات بنيوية كبرى فى مجال الاقتصاد والاستراتجية عموما؛ ورغم ذلك لم يصبح الصينيون صورة من الغربيين سياسيا أو ثقافيا‏،‏ فالنظرية الوحيدة في بلاد "المملكة السماوية"‏,‏ هي التنمية، ومن ثمّ كان الصعود‏.‏
 
وقد شكّل الصعود العارم للتنين الصيني تحولا كوكبيا في مجال تركز الثروة والسلطة من الغرب إلى الشرق‏,‏ ومن العالم المتقدم إلي النامي‏,‏ بعدما صدقنا- نحن أبناء الشرق العربي- طويلا رأي مفكري الغرب- من خلال النظرة التشاؤمية العرقية- أن العالم الثالث ليس إلا أمما متخلفة، بحكم واقعها نفسه أو بقدرية بيولوجية أو بحتمية جغرافية، وأن لا أمل لها بتجاوز عللها إلا بتبعية الغرب، وها هي الأفكار والأفعال الصينية تبطل هذا السحر بعدما تغلبت علي كوابح التنمية‏، وحافظت على ثوابت هويتها التى كانت "أفعى" التقمت كل الأوهام. فتحت الصين طاقة الأمل للشعوب الفقيرة، أنها تستطيع النهوض والتقدم، بعدما ثارت وتغيرت بأقل الأضرار.
 
 
الرقص مع الذئاب
تنام اميركاالمتوجسة بعين وتصحو الثانية تراقب الصين المتحفزة، بانتظار ما تسميه مؤسسة "راند" الأميركية للأبحاث، "القرن الأميركى". وهو ما يطلق عليه أهل الصين "المحاولة الثامنة" التي سبقتها سبع محاولات؛ اعتقادا منهم أن الذي يفشل سبع مرات ينجح في الثامنة. إن الصين التى تقول التقارير الدولية إنها تملك 7% من الأراضى الزراعية استطاعت إطعام شعبها الذى يشكل خمس العالم، أى 1400مليون نسمة، إنه أسرع الاقتصادات نموا على سطح الكوكب، في العقدين الماضيين بمتوسط 10% سنويا، ومن ثمّ صارت الصين "مصنع العالم" وغطت أسواقه بمنتجاتها وخدماتها المتطورة، باتت السلع الصينية على أرفف المحال فى كل بلاد الدنيا، كأنها قدر لا مهرب منه، وبأسعار منافسة بالغة التحدي والشراسة في مواجهة الدولار، العملة الرئيسية فى التجارة الدولية، منذ الحرب العالمية الثانية، حتى بحّ صوت واشنطن في مناشدة بكين تخفيض عملتها "اليوان"، للحد من حضورها الثقيل في السوق العالمية، مع عجزها عن مقاومة السوق الصينية الكبيرة (الطلب الداخلي).
 
فى لعبة الأمم تظل الحقائق ناقصة، مادامت الظلال تحيطها كالثقوب السوداء؛ فالسياسة مجرد مظهر لمصالح اقتصادية وراءها.. تجيد الصين الرقص مع الذئاب، تبني مجالها الحيوي، خصما من الهيمنة الأميركية، تقاتل ببصيرة على كل الجبهات، لأن إهمال إحداها عاقبته الهزيمة النكراء. لا أحد يقدر على التنبؤ بنتيجة المواجهة، يحكم الأميركيون العالم بالسلاح والتكنولوجيا، وقد طالب جو بايدن في القمة الرباعية الافتراضية جيران الصين بالوقوف مع واشنطن لمحاصرة حضور الصين، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، على الساحة العالمية، من خلال التعاون الأمني بين دول المجموعة وإقامة منطقة تجارة حرة في المحيطين: الهندي والهادي، ما يعكس ضراوة المعركة المستعرة بين الطرفين.
 

العرب في المعمعة
هنا، قد يقول قائل إن المنافسة المتأججة بين التنين الصيني والاخطبوط الأميركي لا تخصنا أو تعنينا، لكن هذا سيكون خطأ فادحا يضاف إلى أخطائنا الجسيمة المتراكمة، لأن شرور المواجهة أو فوائدها، ستضاف إلى أرصدة الطرفين، لا مصلحة شعوب المنطقة، إلا إذا أفقنا من غيبوبة الوعي وخوار الإرادة وضلال السلوك ودموية الفعل.. ظل الشرق الأوسط، منذ القدم، مسرحا دائما لصراع الإمبراطوريات على النفوذ، مزّق الاستعمار الغربي خرائط المنطقة، وأعاد صوغها مرات على مقاس مصالحه، من دون توقف حتى اليوم. يرى المؤرخ الألمانى ليوبولد رانكة "أن هناك حركة دائمة فى الحياة صعودا كانت أم هبوطا، وأن الأفكار قد تكون هى القوى المحركة لتطور التاريخ من بين مجموعة من القوى"، ومن المؤكد أن الغطس إلى أعماق أكبر ليس "حلا أمثل" للغريق، لهذا لا تحتاج البلاد العربية إلى البحث عن شركاء من خارجها لإخماد حرائقها، أو مزيد من العنف والعبث بالدين وتشويهه، تحت لافتة "الجهاد" زوراً وبهتانا، إنما تحتاج إلى التعاون الخلاق مع كل القوى العالمية، لا التبعية، وتدشين نظام عربى جديد، يراعي طموحات الشعوب وآمالها فى حاضر كريم ومستقبل مشرق، وإلا فالضياع مصير الجميع على مائدة الكبار. رياح الشرق تهب بقوة والمسافة هائلة بين تاريخ تصنعه بحضورك وقدرتك على الفعل، وتاريخ يُصنع لك في غيابك، فى ظل عجزك عن الفعل، وأخطر أسباب النكبات العربية، أننا نكرر أخطاءنا وكأننا بلا وعي أو ذاكرة..!
 
نُشر على "النهار العربي"