سلفة الكهرباء: صياغة ملغومة لتشمل البواخر و...!

غسان بيضون*
 
نجحت إدارة المناقصات في "تهذيب" دفاتر شروط مناقصة المحروقات لصالح كهرباء لبنان، وتنقيتها من الشروط التعجيزية، لينتهي بذلك نزاع مزمن بين وزارة الطاقة وهذه الإدارة، تخلله انتهاء العقد مع سوناطراك وعدم تجديده، إثر نزاع قانوني على خلفية قضية "الفيول المغشوش"، ودخول نتائج التحقيقات حولها عالم المجهول، ومعها نتائج المفاوضات البطيئة حول تزويد لبنان بـ 500 ألف طن من النفط الثقيل، توازي ربع حاجته السنوية مقابل حصول العراق على أدوية وسلع وخدمات لبنانية؛ غير أن الإعلان عن إجراء المناقصة لم يحلّ المشكلة نظراً للحاجة إلى تمويل يغطي ثمن تلك المحروقات، لا سيما وقد أعلنت كهرباء لبنان عن نفاد سلفة المحروقات للعام 2020 بنهاية آذار .
 
في سياق البحث عن حل لمشكلة الكهرباء بعد أن حوّلها إلى معضلة عبث وزراء الطاقة من الـ "هواة"، تجدهم اليوم يتوسلون الإعلام لتبييض صفحتهم ويستسهلون العودة إلى نغمة التهديد بشبح العتمة وبالمسؤولية عنها، ويستنجدون بـ"السلطات العليا". وها هم قد نظموا حملة إعلامية واسعة وكثفوا إطلالاتهم على الشاشات. وقد شاهدنا الوزير غجر ترافقه الوزيرة البستاني في زيارته للقصر الجمهوري، وكأنها القيّم على شؤون القطاع، وهو القاصر وهي ظله والشاهد على مصداقيته، تحضر لتضبط إيقاع تصريحه لضمان عدم انحرافه عن النهج والأسلوب وعدم التفوه بـ"كلام لا تجد الوزيرة له طعماً". وضمن هذا المشهد أطل الوزير غجر ليتلو "الدرس" ويبشّر بذهاب "لبنان إلى العتمة الشاملة في حال عدم منح مؤسسة كهرباء لبنان مساهمة مالية لشراء الفيول" ويحذر من "عواقب كارثية" على كافة القطاعات، ويعتبر مشهد الحياة في القرن الـ21 سوريالياً بلا كهرباء تتعطل بانقطاعها كافة الخدمات المرتبطة بها، والأخطر منها تعذر التبريد لحفظ اللقاح. وفي إشارته إلى المسؤولية عن هذا الواقع، تجاهل غجر دور جماعة الإصلاح التي جاءت به لتضمن استمرار النهج السيّئ في إدارة القطاع، ليحمّلها للنواب في حال عدم التوقيع على توفير الأموال اللازمة لشراء المحروقات.
 
لا شك أن المجلس النيابي سوف يكون في وضع لا يحسد عليه أمام اقتراح القانون لإعطاء كهرباء لبنان سلفة خزينة لعام 2021 لتسديد عجز المحروقات، بقيمة 1500 مليار ليرة أو "ما يعادل مليار دولار أميركي"، فالمشكلة صعبة، والإحراج شديد، والتوفيق بين الحاجة والإمكانيات المشروعة لن يكون سهلاً، وكذلك فكفكة صياغة اقتراح القانون الملغومة بإتقان عبّر عنه النائب الإصلاحي فريد بستاني الموقّع على اقتراح القانون. وقد سمعته يشيد بأداء الوزيرة بستاني ومقدرة سلفها سيزار أبي خليل باعتباره موسوعة لغوية Dictionnaire” "، متجاهلاً العلاقة بين المأساة التي نعيشها وأداء "هذين الوزيرين ودورهما "المتميّز" في تدمير المؤسسة والقطاع وإفلاس الخزينة وانهيار مالية الدولة!
 
أين الألغام في الصياغة؟
 
فيما كان النقاش حامياً مع مصرف لبنان حول طلب 312 مليون دولار لصالح متعهدي كهرباء لبنان، وبينهم متعهد تشغيل وصيانة المعامل وتوأمه متعهد البواخر، ومقدمي الخدمات، وقد سمعنا الأول يعلن عن توقفه عن العمل ما لم يتم تمديد عقده، والثاني يهدد بفك البواخر عن الشبكة لعدم حصوله على مستحقاته البالغة 180 مليون دولار، أعلن مصرف لبنان عن نفاد احتياطيه من الدولارات من غير أموال المودعين المعرّضة اليوم لنهب وهدر ما تبقى منها في سبيل محروقات كهرباء لبنان المفلسة بفضل النهج المفروض عليها من وزراء الوصاية، فضلاً عن سوء إدارتها والفساد المعشش فيها برعاية قدامى الـ "عرابين" المحيطين بالمدير العام يقدمون له فتاوى واجتهادات لتبرير قرارات مخالفة لأنظمة المؤسسة وتسهيل ارتكاب المخالفات، فقد تقدّم أربعة نواب إصلاحيين باقتراح قانون معجل مكرر لإعطاء كهرباء لبنان سلفة خزينة لعام 2021 لتسديد عجز المحروقات، ومن بين هؤلاء محترف اعتاد اللعب على حبال الألفاظ تعرّفنا معه على "أجيال متحورة" من سلف الخزينة المخالفة لقانون المحاسبة العمومية، ليس فقط لناحية تخصيصها لمؤسسة عاجزة حتماً عن تسديدها، وإعطائها لأجل غير مسمى وعن طريق فتح اعتماد في الموازنة العامة، وبقيَم "متحركة" ترتبط بنوايا طالبيها، فتتغير مع تغيّر أسعار النفط عالمياً لضمان إنتاج الطاقة بقدرة معينة من الميغاواط، أو بتأمين عدد معين من ساعات التغذية، بحيث تبدو النية بعدم استرداد هذه السلف واضحة، لتتحول في واقع الأمر إلى إنفاق نهائي يضاف إلى أعباء الموازنة العامة، وتشوب معالجتها ضروب من الغش والخداع.
 
المفاجئ ليس فقط في صيغة القانون المقترح، وإنما في أسبابه الموجبة لنكاد تقول إن الجماعة تعيش فعلاً خارج الكوكب؛ والغريب هو في تحديد قيمة السلفة بـ 1500 مليار ليرة أو "ما يعادل مليار دولار أميركي"، لتصل قيمتها الفعلية إلى أرقام فلكية لو احتسبت على أساس سعر صرف السوق لترتفع إلى عشرة آلاف مليار تعادل نصف موازنة الدولة تقريباً، والأغرب هو في أن تسديد قيمة هذه السلفة تتولاه المؤسسة بموجب "أوراق ومستندات وإيصالات وفق قانونها وأنظمتها المرعية الإجراء". و"الأجرأ" هو في إنكار النائب سيزار أبي خليل "اغتصابه"، مع من سبقه وتلاه، استقلالية المؤسسة وقواعد استثمارها المنصوص عليها في قانون إنشائها وإلزامها بخياراتهم للبواخر ومقدمي الخدمات والاعتماد على متعهدين واستشاريين ومستشارين بموجب عقود بالتراضي وبالدولار للقيام بأعمال ومهام تقع في صلب مهامها، ولم تقتصر نتائجها على الإخلال بتوازنها المالي وإنما أدت إلى إفلاس الخزينة وانهيار مالية الدولة، بقدرة "الوزير" على تحويل مجلس الوزراء إلى "هيئة ناظمة للفساد" لتغطية فشل هذه الخيارات وارتفاع تكلفتها ومخالفات المتعهدين، فيستصدر قرارات بالموافقة دون نقاش وتعاد صياغتها و"تصحيحها" في الظل بـ"شطارة" الأمانة العامة لمجلس الوزراء، كلما احتاج الوزير للانقلاب على ما تم التفاهم عليه في مجلس الوزراء، وتسجيل أهدافه في مرمى السلطة التشريعية بتغطية من جوقة الإصلاح وتحالفاتها المبنية على المحاصصة والفساد.
 
هل سيكون مجلس النواب مع العتمة، وماذا أمامه أن يقرّر؟
 
بالتأكيد نحن اليوم أمام كارثة ولن يكون موقف مجلس النواب مع العتمة؛ غير أن السؤال يجب أن يوجَّه إلى من أوصل البلد إلى الانهيار والعجز وتسبب بها، ولطالما استبعد الوزير الحالي الوصول إليها عندما كان من مصلحته استعراض قدراته على توفير مروحة حلول تبين أنها وهمية، وعندما وصل إلى الحقيقة استخدمها مثل أسلافه للابتزاز والضغط والتهويل. وقبل الإجابة لا بد من الإشارة إلى أن إعطاء سلفات الخزينة لتسديد عجز المحروقات، كان يكرر مخالفة الشروط المحددة في المواد 203 و204 من قانون المحاسبة العمومية، التي تعرّف السلفة على أنها إمدادات تعطى من موجودات الخزينة لتغذية صناديق الجهات المستلفة وتستوجب تأكد وزير المالية من قدرة المؤسسة المستلفة على السداد والتزام هذه المؤسسة بلحظ الاعتمادات اللازمة لسداد السلفة في موازنة السنة أو السنوات التالية إذا كانت لأكثر من سنة. وطبعاً كل هذه الشروط غير متوافرة لا سيما وأن الخزينة مفلسة وليس فيها موجودات والمؤسسة لن تتمكن من رد قيمة المبالغ المستلفة بأنها تبيع الكهرباء بخسارة، وبالتالي لن تلحظ الاعتمادات ووزير المالية متأكد من ذلك، لأنها في حقيقتها مساعدات تعطى للمؤسسة لدفع ثمن المحروقات وهي إنفاق نهائي بالنسبة للخزينة ويجب أن يسجل على حساب موازنة الدولة أي في قطع الحساب السنة المعنية، والغاية من الطريقة المعتمدة هي التحايل لعدم إظهار عجز الموازنة على حقيقته.
 
نعم، الأرجح أن يكون مجلس النواب أمام استحالة تلبية طلب أصحاب اقتراح القانون ومن خلفهم، بالصيغة الملغومة الوارد عليها اقتراح القانون المطروح، ويخشى أن تتعذر المعالجة إلا بتجاوزات ومخالفات وانتهاكات إضافية والمسّ بما تبقى لدى المركزي من احتياطي هو للمودعين، اللهمّ إلا إذا كان لدى حاكم المصرف المركزي أرنب يخرجه عند استدعائه لإبداء رأيه أمام مجلس الشعب لتجنّب المسّ بما تبقى من أموال المودعين لديه .
إن موقف المجلس النيابي من الحل يجب أن يبدأ بتطبيق القوانين وإعادة كهرباء لبنان إلى الانتظام المالي، بحيث يتم فتح الاعتماد اللازم في موازنة الدولة لعام 2021، لتغطية ثمن المحروقات لزوم كهرباء لبنان بالقيمة التي يقررها، على ألا تتجاوز الـ 300 مليار ليرة، دون أية مسؤولية عما يمكن أن تساويه بالعملة الأجنبية، وذلك استناداً إلى المادة 12 من قانون المحاسبة العمومية التي تجيز، في حالات استثنائية، "فتح اعتماد في موازنة ما قبل تصديقها شرط أن يدون فيها"، على أن يؤخذ بعين الاعتبار انقضاء فصل من العام 2021 وإمكانية إنجاز البروتوكول المرتقب مع الحكومة العراقية قريباً وتأمين المحروقات لفصل آخر، على أن تسعى المؤسسة لاستخدام المحروقات التي يوفرها المبلغ على أطول مدة ممكنة، بحيث يتم تأمين الإنتاج بالنسبة والتوزيع بين المصادر الأكثر فعالية والأقل تكلفة، وتوضع شروط مشددة تضمن:
 
- عدم التصرف بأي قرش من الاعتماد المفتوح خارج ثمن المحروقات المترتب عن إجراء مناقصة وفق دفتر شروط توافق عليه إدارة المناقصات، ومنع التعاقد لشراء المحروقات لزوم مؤسسة كهرباء لبنان مع الشركات التي سبق وأثيرت حولها شبهات فساد أمام القضاء.
- استكمال عملية ضم المنشآت إلى المديرية العامة للنفط تطبيقاً للمرسوم الاشتراعي رقم 79/1977.
- الالتزام بتعيين رئيس جديد لمجلس إدارة كهرباء لبنان والهيئة الناظمة دون انتظار تعديل القانون 462/2000.
- استكمال إجراءات ضمّ "القاديشا" إلى مؤسسة كهرباء لبنان.
 
- يضع الوزير الضوابط اللازمة لضمان سلامة إجراءات دورة عملية الشراء، بدءاً من فتح الاعتماد لدى مصرف لبنان بتوقيعه، على أن تلغى أية تعليمات كانت تعفي هذا الأخير من التحقق من قانونية المستندات، على أن تتم تصفية المبالغ المتوجبة ثمناً للمحروقات وفقاً للأصول المقررة في قانون المحاسبة العمومية ليجري تدقيقها والتثبت من انطباق المعاملة والمستندات على الأنظمة والقوانين المالية، في مديرية الصرفيات في وزارة المالية، ووضع ما يكفي من ضوابط لضمان عدم تكرار حصول الغش في استلام المحروقات بالكمية والنوعية المتعاقد عليها.
 
- يجري استلام الشحنات بالكميات وبالنوعية المطلوبة من قبل مؤسسة كهرباء لبنان وعلى كامل مسؤوليتها بعلم وزير الطاقة ومتابعته، فتؤخذ بعين الاعتبار شهادة النوعية من المنشأ وتطابقها مع نتائج مختبرَي المنشآت وشركة استشارية موثوقة تتابع المؤسسة عملية الفحص فيها.
- أن يحظّر على مؤسسة كهرباء لبنان إجراء أي عملية بيع أو إعارة للمحروقات.
- أن تباشر مؤسسة كهرباء لبنان فوراً بإعداد وتقديم حساباتها النظامية إلى ديوان المحاسبة، على أن يتم إبلاغ المجلس النيابي بالمنجز منها تباعاً، خلال مهلة أقصاها ثلاثة أشهر من تاريخ نشر القانون.
- اتخاذ القرارات اللازمة لرفع تعرفة مبيع الطاقة لدى المؤسسة على أن يراعى في ذلك مستوى شرائح استهلاك المشتركين.
- التعجيل بتحصيل المتأخر من فواتير لصالح المؤسسة.
- وضع جداول بمستحقات المؤسسة لدى الإدارات العامة مما يمكن تنزيله من المتوجب بذمة المؤسسة لصالح خزينة الدولة، على أن تقترن هذه الجداول بموافقة وتصديق الإدارات المعنية على المبالغ الخاصة بها ويتم إرسالها إلى ديوان المحاسبة لتدقيقها واقتراح المناسب لمعالجتها.
 
أما على المستوى السياسي، وحيث إن مشاركة البعض في تأمين الميثاقية لانعقاد جلسة مجلس النواب، فإنه يقتضي وضع جماعة الإصلاح والطاقة مع الحكومة وحاكم مصرف لبنان، أمام مسؤولياتهم لعدم الالتزام بتطبيق أحكام القوانين السابقة التي أقرت بموجبها سلفات خزينة للمحروقات وأدت إلى إبقاء المؤسسة في حالة فوضى مالية وعجز وإفلاس يغطيه وزير الطاقة مقابل استباحة استقلالية المؤسسة وفرض خياراته على إدارتها. وكذلك يقتضي إقرار قانون يجيز للبلديات الكبرى واتحادات البلديات وغيرها إنتاج الكهرباء على غرار ما أجيز لشركة كهرباء زحلة وحدها من بين أصحاب المولدات خلافاً لمبدأي العدالة والمساواة المنصوص عليهما في الدستور.
 
*مدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة والمياه