السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

​ تركيا وقطار المصالحة العربية

المصدر: "النهار"
د. خالد محمد باطرفي
القادة الخليجيون في القمة الاخيرة.
القادة الخليجيون في القمة الاخيرة.
A+ A-
يبدو أن العام الجديد، 2021، سيغادر بنا، أهل المنطقة، محطة عام الكوارث على خير. فمع مطلعه انطلق قطار المصالحات، في اليمن، بين الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي، وفي الخليج، مع الشقيقة قطر في "قمة العُلا"، وفي "اوبك +" مع هدية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للمنتجين بتخفيض طوعي لانتاج السعودية مليون برميل. ولعل تصنيف اميركا ميليشيا الحوثي الايرانية منظمة ارهابية وايقاع عقوبات على ثلاثة من قياداتها والمزيد من العقوبات على ايران مع كشف دعمها وعلاقتها السرية بـ"القاعدة"، يساهم في دفع "أم الإرهاب" وبنيها للالتحاق بالقطار. 
 
واليوم تأتي التكهنات الإعلامية حول زيارة رئيس الوزراء اللبناني المكلف سعد الحريري إسطنبول، بعد قضائه اجازة رأس السنة في الامارات، للاجتماع مطولاً مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مقر إقامة الأخير، حيث نوقش، بحسب البيان الرسمي "سبل التعاون في القضايا الإقليمية"، إضافة الى العلاقات الثنائية بين تركيا ولبنان. واذا استبعدنا التركيز على الملف الثاني، نظراً الى أن الرئيس المكلف لم ينتهِ بعد من تشكيل وزارته، وتركيا ليست لاعباً أساسياً في لبنان، فهذا يترك أمامنا التكهن بمبادرة لتقريب وجهات النظر مع عواصم عربية، وربما مع فرنسا التي يحمل جنسيتها، وتربطها بأسرة الحريري علاقات خاصة. اضافة الى مناقشة أمور تتعلق بمصالح تجارية خاصة بالحريري، وان لم يشر اليها البيان الرسمي. 
 
الحراك السعودي
يؤيد هذا التفاؤل، أن ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، يقود منذ أشهر حراكاً نشطاً ودؤوباً لحلحلة الملفات العالقة، وإزالة العقبات التي تقف في طريق التنمية وتحقيق أهداف رؤية السعودية 2030 لمنطقة شرق أوسطية جديدة عنوانها الرخاء والأمان والتعاون. كما يؤمل بالتصريحات المتفائلة والتصالحية التي أطلقها وزير الدولة للشؤون الخارجية الاماراتي، الدكتور أنور قرقاش، عن العلاقات الاستراتجية والمصالح المشتركة مع تركيا. وهنا لا بد من أن نشير الى الاتصال الهاتفي المطول الذي أجراه الرئيس اردوغان بالعاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، عشية قمة العشرين. كما قد تفيد ملاحظة خفوت التصعيد السياسي والإعلامي والمبادرات الشعبية لمقاطعة تركيا. وبالنسبة الى المصالحة مع فرنسا، نشير الى انخفاض اللهجة التركية العدائية تجاهها، واللغة التصالحية مع الاتحاد الاوروبي والأنباء عن تفاهمات مع باريس ربما تسفر عن زيارات رسمية. 
 
كما لاحظنا اعتدال الخطاب التركي تجاه البلدان العربية، والترحيب الرسمي بالمصالحة مع قطر، في الوقت الذي يقود فيه أردوغان هدنة مع اوروبا والحلف الأطلسي من بوادرها عودة المباحثات مع اليونان. كما توقف الالحاح على واشنطن بشأن تسليم الداعية التركي المعارض غولن وخفوت الاحتجاج على العقوبات الأميركية والأوروبية ضد الصناعات الدفاعية التركية على خلفية تفعيل أنظمة اس 400 الروسية. وفي المقابل، تراجع الدعم السياسي والدبلوماسي لإيران وتأييد مظلوميتها وعدم استحقاقها للعقوبات الاميركية، وكأنما هي محاولة للنأي بالنفس عن عدائيتها تجاه جيرانها العرب والولايات المتحدة. وفي سوريا والعراق غلبت نغمة التعاون على الصدام، فتم الاعلان عن مشروع قطار سريع يربط إسطنبول ببغداد عبر سوريا، والتنسيق مع روسيا ونظام الأسد في القضايا المتعلقة بالإرهاب والأكراد والتواجد التركي شمال سوريا.
 
مؤشرات إيجابية 
أرجو أن لا أكون مبالغاً في التفاؤل، فمع أن المؤشرات إيجابية، إلا أن مشكلة الزعامات الشعبوية ذات التوجهات التاريخية والأيديولوجية والقومية تكمن في تقلبها ومفاجآتها وصعوبة قراءة تفكيرها ومزاجها. ورغم أن الأخبار المنشورة حول المصالحات لا ترقى الى تصريحات رسمية، إلا أن التحليل السياسي للمشهد التركي يشير بوضوح الى رغبة في تجاوز الأزمات السياسية الخارجية التي تكالبت مع تداعيات جائحة كورونا واستحقاقات المقاطعة العربية والعقوبات الدولية، وانهيار الليرة نتيجة للسياسات المالية الخاطئة والوضع الاقتصادي العام. ومع قدوم رئيس اميركي جديد بأجندة مناوئة لسياسات أردوغان ونية مبيتة لمعاقبة حكومته، يسهل تصور الدوافع البراغماتية المحركة للتوجه نحو المهادنة مع الغرب واللحاق بقطار المصالحة الذي انطلق مؤخراً من بيت العرب، الرياض. 
 
تركيا بلد عظيم بتاريخه وانجازاته وموارده الطبيعية وكنوزه التراثية وقوته البشرية المتعلمة والاحترافية، استطاع خلال عقدين من الزمان أن يصحح مسار سبعين عاماً من التباطؤ التنموي والانقلابات العسكرية، ويخرج وريثة الامبراطورية العثمانية من نادي الدول النامية الى التحالف العشريني لأكبر اقتصاديات العالم. وما يجمعه مع جيرانه العرب أكبر مما يفرقه. فلو تجاوزنا الخلافات السياسية والحملات الإعلامية خلال السنوات الأخيرة، سنستذكر سياسة تصفير المشاكل ومجالس التنسيق الاستراتجية والاتفاقات الكبيرة مع السعودية والامارات في مجال التعاون العلمي والتعليمي والزراعي والتجاري والاستثماري والصناعات العسكرية والمدنية. أدرك بعضها النور وتراجع الاهتمام ببعضها الآخر نتيجة لتصاعد الخطاب العدائي مع الجامعة العربية والخليج ومصر، والتصالحي مع خصوم العرب، إيران وإسرائيل، والتدخل السلبي في الخلاف الخليجي والليبي ودعم جماعات مصنفة إرهابية عند كثير من هذه البلدان. 
 
رئيس القرارات الصعبة
ويبقى السؤال، هل اتسعت الرقعة على الراقع؟ باعتقادي لا. فقد أثبت الرئيس أردوغان أنه قادر على اتخاذ القرارات الصعبة والعودة باستدارة كاملة عند الضرورة، كما فعل باعتذاره لموسكو بعد إسقاط المقاتلة الروسية عام 2015 وتقديم التعويضات المطلوبة، وبإطلاق سراح القس الأميركي بعد أن هدد ترامب بتدمير الاقتصاد التركي، وبالتراجع عن احتلال المناطق الكردية شرق الفرات، لتفادي التصادم مع قوات التحالف الدولي وروسيا، ومؤخراً بإقالة صهره بيرات البيرق وزير الخزانة و المالية ومعه حليفه رئيس البنك المركزي، والقبول "رسمياً" بالاتفاق الليبي. وفي هذا السياق نضيف التراجع عن التعهد باحتلال سرت، واحتواء غضب طهران من قراءته قصيدة وطنية تاريخية عن حدود أذربيجان التي تشمل مناطق شمال إيران، وإيقاف الدعم العسكري لأذربيجان استرضاء لموسكو، وأخيراً تخفيف الخطاب العدائي ضد إسرائيل وموجة التطبيع وتبادل السفراء معها. والتصالح مع دول الخليج ومصر، بخاصة بعد تصالحها مع الحليف القطري، أسهل بكثير من حل الخلافات الاقتصادية والسياسية مع اليونان وفرنسا والولايات المتحدة. فليس بيننا وبين تركيا مشاكل حدودية او صراع على مصالح نفوذ وتنقيب ومواجهات عسكرية. 
 
ولا شك عندي في أن قرار العودة عن معاداة السعودية والإمارات ومصر سيعني استغضاب حلفائه من "الإخوان المسلمين"، وبعضهم له تعاطف قوي في حزب "العدالة والتنمية"، ولكنه على الأقل سيكسبه دعم التيار الوطني داخل الحزب، والذي يتوق الى العودة الى مبدأ "تركيا أولاً" والنأي بالنفس عن الخلافات الدولية وتصفير المشاكل مع الحلفاء. كما سينعكس إيجاباً على الحركة الاقتصادية بعودة المستثمر والسائح الخليجي وإسهام مصر والخليج في الوساطة مع أوروبا والولايات المتحدة. وسيعود الانسحاب من بؤر الصراع العربية بوفر كبير في مصاريف المغامرات العسكرية، واستحقاقاتها السياسية مع العرب واوروبا. 
 
مساحة للتفاؤل
إذاً هل نتفاءل بانطلاقة جديدة لقطار المصالحة في مطلع العام الجديد، هذه المرة من محطة أنقره، تفاؤلي مع قراءتي للمشهد على الجانبين يقودني للإجابة بنعم متحفظة وحذرة. فمقابل السياسات الشعبوية والتوافقات غير المجدية مع ايران وجماعات الاسلام السياسي، هناك الكثير من المكاسب التي ستحققها جميع الأطراف، وأهمها توحيد الصف في مواجهة التغول الايراني، والخطاب السياسي أمام الموقف الأميركي الجديد من الاتفاق النووي، وتنسيق الجهود للتغلب على التداعيات الصحية والاقتصادية لكورونا. وهناك الحكمة والنية والعزيمة لدى القيادات الكبيرة في المنطقة لتنقية أجوائها والتفرغ لمواجهة التحديات ومسيرة البناء والتنمية. ثم هناك الحراك الذي يقوده الأمير محمد بن سلمان بتفويض من الدول العربية الكبرى، ودعم المجتمع الدولي، لإصلاح ذات البين وتصحيح مسار التعاون الاقليمي ومواجهة الأخطار المحدقة.
 
ندعو بالتوفيق لأي جهود أو وساطات أو تفاهمات بين أنقره وجيرانها، ونحث الرئيس أردوغان على أن لا يفوت هذه الفرصة الذهبية والاستثنائية لركوب قطار المصالحة الذي انطلق من "العُلا" (بوساطة او من دون)، فشعوب المنطقة تستحق عاماً أكثر إشراقاً، ومستقبلاً أكثر أماناً ورخاء وتنمية. 
مقال نشر في النهار العربي
 
@kbatarfi
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم