الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

صمتُك وصوتُك

A+ A-
غسان صليبي
أُشطب "الميم" واكسرْ صمتك. ضع مكان "الميم" حرف "الواو" وجاهِرْ بصوتك في الإنتخابات.
 
لفظة "الميم" تُطبِق على شفتيك وتُخرِس لسانك. لفظة "الواو" تفتح فمك واسعًا وتُطلق للسانك العنان. لقد جرت تربية صمتك بعناية فائقة: فكان عليك ان تصمت أمام الأهل في البيت، وأمام الأساتذة في المدرسة والجامعة، وأمام رجال الدين في الكنيسة والجامع، وأمام أصحاب العمل في الشركة التي تعمل فيه،  وامام زعيمك عندما يتكلم. جميعهم يعاقبونك إن لم تفعل.

تتكلّم عندما يسمحون لك، وتقفل فمك عندما يطالبونك بذلك. رئيس بلادك صرخ بمستقبليه عندما عاد من فرنسا كما صرخ في وزارة الخارجية منذ يومين: "اسكتوا تنحكي".

 لن يكون سهلاً عليك شطب "الميم"، فستجرح شفتيك وقد يؤذي الهواء البارد أوتارك الصوتيّة عندما ستضع "الواو" وتفتح فمك واسعًا.

لن تتعرّف الى صوتك بدايةً. ستختلط نبرته وذبذباته بنبرة وذبذبات الأهل والأساتذة ورجال الدين وأصحاب رأس المال والزعماء.

سيتدخّل جميع هؤلاء قبل الإنتخابات مباشرةً، وكلٌ بطريقته، مستخدمًا الوسائل نفسها التي استخدمها عندما ربّاك على الصمت: فهم يريدون لصوتك أن يصادق على صمتك. 
أنت تعرف ربما، أن القدرة على النطق متأتّية من القدرة على السمع. لذلك تلاحظ أن الأبكم هو أساسًا أصم.

أنت تستمع اليهم منذ ولادتك. ما تعودت على قوله هو ما تعودّت على سماعه، حتى ولو شغّلت عقلك بين وقت وآخر. لذلك سيتابعون الوعظ والثرثرة، حتى يبقى صوتهم في أذنيك عندما ستدلي بصوتك، وسيذكّرونك دومًا بالعقاب، فهم لا يثقون بك، حتى لو أحسنوا "تربيتك". فكيف يثقون بك وقد اختبروا أنك لا تثق بنفسك؟

سيرافقونك الى صندوق الإنتخاب. ولأن العمليّة الإنتخابيّة تعرف ذلك، ابتكرت التصويت السرّيّ خلف العازل الإنتخابي، لتسهيل الأمر عليك، فاستفِدْ من ذلك.

لن أنصحك في هذا النص بمَن تنتخب، فقد نشرتُ مقالين في "النهار" عن معايير الإنتخاب ولن أكرّر نفسي. ما يهمّني أكثر في هذا النص، قبل أيام قليلة من الإنتخابات، هو حريّة صوتك وليس لمَن تصوِّت.

صوِّت لمَن يحترم حريّة صوتك. ففي العمليّة الإنتخابيّة صوتك هو أنت. مَن يحترم حريّة صوتك يحترمك أنت، ومَن لا يحترمها يحتقرك.

مَن يحترم حريّة صوتك، أي مَن يحترمك، هو مَن لا "يبرطلك"، لا بالمال ولا بالمساعدات ولا بالمواقع. هو مَن لا يستخدم الضغوط العائليّة والطائفيّة والدينيّة، للتأثير في صوتك. مَن يحترم حرية صوتك، أي مَن يحترمك، هو مَن يستخدم معك المنطق والعقل لإقناعك. ليس مَن يستخدم التخويف من المستقبل، ولا مَن يحسّسك بالذنب بحجة انك غير وفيّ لما قدّمه إليك في الماضي، فهو من عليه ان يكون وفيًّا لصوتك وليس العكس.

في الإنتخابات يكون التصويت فرديا. الفرد، المواطن، هو مَن يصوّت وليس الجماعة، أكانت العائلة أو الطائفة أو الحي أو المدينة أو القضاء أو المحافظة. حريّة صوتك تعني أنك تصوّت كفرد، كمواطن، كإنسان مستقل عن الآخرين.

بهذا المعنى تعيد إليك الإنتخابات كيانك الفرديّ، وتعترف بك كمواطن، وتحترمك كإنسان صاحب عقل وقلب وإرادة. الإنتخابات مناسبة تحرّرك من تبعيتك للجماعة، التي بطبيعة تكوينها لا تعترف بعقلك وقلبك وإرادتك.

الإنتخابات تعترف بصوتك كمصدر وحيد للسلطة التي تحكمك. السلطة تحكمك بإسمك وليس باسم شيء آخر. أنت اخترتها، وأنت سمحت لها بحكمك، وأنت تقيلها عندما تقرّر ذلك.

ينضمّ صوتك الى صوت غيرك في صندوقة الإقتراع، ومن خلال فرز الأصوات تُسلّم السلطة، ديموقراطيًّا، لمن حاز أكثريّة الأصوات. كما تُعطى الأقليّة أو الأقليات التي حازت أقل عدد من الأصوات الحق في المعارضة. هكذا تبقى السلطة تحت الرقابة الدائمة.

انت تعرف ان الإنتخابات تنظّمها سلطة قتلت مواطنيك وسرقتك وأفقرتك وأضاعت مستقبلك، وهي تريد ان تجدّد لنفسها بواسطة قانون صاغته على قياسها وفي ظروف إنتخابيّة هي في الإجمال لصالحها. لذلك قد تستنتج ان مقاطعتك لهذه الإنتخابات هي الأفضل، لأن هذا يعني عدم إعترافك بهذه السلطة. ما تقوله صحيح وسيكون مفيدا، إذا كنت لن تعترف بالسلطة المنتخبة بعد إنتخابها، وإذا كان عدم اعترافك سيضعفها أو يسقطها. لكنك تعلم مثلي ان الظروف الحاليّة لا تسمح على الاطلاق بتوقّع ذلك، بل على العكس، ستؤدّي مقاطعتك الى تثبيت أقدام هذه السلطة.

ربما تقول أيضًا ان مشاركتك أو عدم مشاركتك سيّان، فمشاركتك لن تغيّر شيئًا في المعادلة القائمة. أوافقك ان الوضع لن ينقلب رأسًا على عقب، لكن في المقابل كل المؤشرات تدل على ان الإنتخابات ستؤدّي الى إضعاف السلطة القائمة حاليًّا وإن لم تتمكّن من إسقاطها. فلماذا لا تساهم بذلك بقدر المستطاع؟

أتوقّع ان تعترض على ما أطالبك به مبتسمًا، مؤكدا ان السلطة الحقيقيّة ليست هي ما ستفرزه الإنتخابات، فمَن يحكم لبنان حاليًّا ومَن سيحكمه بعد الإنتخابات هو "حزب الله"، التنظيم المسلّح والمدعوم من إيران، وقد أثبتت التجارب السابقة صحّة ما تقول.

لا أخالفك الرأي، بل أضيف ان هذا الحزب المسلّح لا يعترف بالإنتخابات، لا في عقيدته ولا في ممارساته. لا يعترف بوظيفة الإنتخابات كآلية اساسيّة لإنتاج السلطة. بالنسبة إلي،  مصدر السلطات ليس الشعب بل الولي الفقيه. أما الإنتخابات، فقد وصفها امينه العام بأنها "حرب تموز سياسية"، واعتبر ان المشاركة فيها هي لدعم المقاومة العسكرية. وكان محمد رعد قد راى منذ اسبوع ان لا خوف على المقاومة فقد أصبحت دينا. إذاً الانتخابات بالنسبة إلى "حزب الله" ليست عملية سياسية بل هي حرب، تستخدم السياسة لدعم المقاومة العسكرية التي تحولت الى دين. السياسة والدين هما في خدمة السلاح الذي يمارس الحرب في السلم والحرب. 

لا يعترف "حزب الله" كذلك بركنَي الإنتخابات اي بحق الانتخاب وحق الترشّح، فالإنتخاب والترشّح ليسا حقّين بل واجبان يحدّدهما التكليف الديني كما تثبته ممارسات "حزب الله" طيلة المرحلة الإنتخابيّة، فعليك ان تصوّت كما يقول لك، وتترشّح اذا سمح لك. لا يعترف أيضا بشرط الإنتخابات اي بإجرائها بحريّة بعيدًا من تأثير السلاح الذي يجب أن يكون استخدامه حكرًا على الدولة. لا يعترف أخيرا بنتائج الإنتخابات، فإذا ربح الأكثريّة يمنع الأقليّة من ممارسة معارضتها، وإذا خسر الأكثريّة يمنعها من الحكم بقوّة السلاح كما حصل في الأمس القريب. 

صحيح ان الإنتفاضة السلميّة لم تستطع تطوير نفسها وتحقيق أهدافها لأسباب عدة، أهمّها وقوف الحزب المسلّح في وجهها.

صحيح ان الحزب المسلّح يحمي السلطة الحاليّة وهو سيحمي السلطة المتجدّدة.
صحيح ان العلاقات الإقليميّة والدوليّة في واقعها الحالي لا تزال تبارك سيطرة هذا الحزب على لبنان، والإتفاقات المستقبليّة المتوقّعة، لا سيما الاتفاق النووي وترسيم الحدود، قد تزيد نفوذه. 

صحيح ان لا رغبة للقوى المعارضة لهذا الحزب في مواجهته عسكريًّا، ولا قدرة لها على ذلك.
لكن قل لي بربّك ما العمل في هذه الحالة؟

أعتقد ان أمامنا  طريقين لا ثالث لهما: إما الإستسلام للأمر الواقع أو المشاركة في الإنتخابات لإحداث تعديل ولو بسيط في موازين القوى، مع تأأكيد ضرورة متابعة النضال من داخل المجلس النيابي ومن خارجه. النضال لا يهدف فقط الى الحد من نفوذ "حزب الله" المسلّح بل الى الضغط على كامل السلطة لإدخال الإصلاحات اللازمة على المستويات الإجتماعيّة والاقتصاديّة، دون إغفال تأثير التبعية الإقليميّة والدولية على هذه المسائل أيضًا.

مشاركتك في الإنتخابات هي في حد ذاتها فعل تغيير، إذ انها تثبيت للإنتخابات كوسيلة اساسية وإن لم تكن الوحيدة، للتغيير الديموقراطي. وسيلة أساسية لكن مهددة من حزب مسلح، وبدونها لا تستطيع قوى التغيير تحقيق أهدافها. الإنتخابات شرط اساسي لإحداث اي تغيير ديموقراطي، الا إذا كان هناك من يعتقد ان التغيير سيعتمد على العنف او على التدخلات الاقليمية والدولية.

من خصائص صوتك الانتخابي أنه يشبه الصمت، فهو صوت صامت. المفارقة، ان الصوت الصامت هو الأقدر في هذه المرحلة التاريخية، على الارتفاع فوق صوت انفجار بيروت، ومواجهة نظام النيترات. 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم