السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

"القبيلة"... بين المجتمع والسّياسة

د. خالد محمد باطرفي
القبائل الحوثية (تعبيرية- "أ ف ب").
القبائل الحوثية (تعبيرية- "أ ف ب").
A+ A-
يقول ألمهاتما غاندي: "لا يستطيع أن يمتطيك أحد إذا لم تنحن له". حكمة من دونها كيف كنا سنفسر سيطرة جزيرة صغيرة في شمال الكرة الأرضية على شبه القارة الهندية وقارتي أستراليا وأميركا الشمالية، لتصبح إمبراطورية عالمية لا تغيب عنها الشمس. أو سنفهم كيف كان عريف في الجيش البريطاني يحرك جيوشاً من الهنود أو الأفارقة، ومندوب سام يدير دولاً ويحكم الملايين.

الانحناء لا يعني دائماً الذلة والمهانة، وليس في كل الأحوال غصباً وإجباراً. فأشكاله الأكثر استدامة ما جاء عن قناعة ورضا. فالمطايا لم تخلق لتنحني، ولكن البشر تمكنوا من تدجينها حتى تقبلت الاعتلاء، وتوارثت ذلك جيلاً بعد جيل. كان الفضل للعرب على البشرية عظيماً عندما دجنوا الإبل، سفن الصحراء، فنشأت قوافل التجارة بين مشارق الدنيا ومغاربها، وتأسست دروب الحرير بين الصين وأوروبا، وتجارة الشتاء والصيف، بين الهند والشام، مروراً بأشد الصحارى والقفار وعورة وقسوة، وندرة مرعى وماء. ودجن الهنود الفيلة بعظمتها وقوتها، وغيرهم من الشعوب الخيول والبغال وحتى النعام.

القائد الرائد
فبالإضافة الى الإنسان، عالم الحيوان فيه دوماً قائد، رائد، وقطيع منقاد. فالطير في السماء، والكائنات في الأرض، تتبع متبوعاً. وما بين السماء والأرض، نحل ونمل يسعيان ويكدان ويموت الرعاع فيهما من أجل عظيم قبل الانقياد له. وهكذا البشر ككل المخلوقات، يجمعهم الخوف والحيرة والضعف، فيختارون أقواهم ليوفر لهم الأمن والفهم والقوة. يطيعونه إذا أمر، ويصدقونه إذا قال، ويتبعونه إذا قاد. يشقون ويقاتلون ويضحون من أجله، ويضيعون من دونه، حتى يأتي غيره.

وهكذا تأسست الأسرة، فالعشيرة، فالقبيلة، فالشعب، فالأمة، على الفكرة نفسها: الراعي والرعية. وعلى المذهب نفسه اخترع الناس فكرة الزعيم الملهم، والبطل الذي لا يُهزم، والشاعر المفوّه، والكاهن والساحر والمشعوذ. وللسبب نفسه صنعوا الأصنام بأيديهم ليعبدوها، ويستلهموا منها الغيب والحكمة ورد الأقدار وتحقيق المطالب.

القبيلة المجتمعيّة والسياسيّة
وهنا، يجب التفريق بين القبيلة، كمؤسسة اجتماعية فاعلة ومنتجة، تساهم ضمن المنظومة الوطنية في مشروع البناء والتنمية والدفاع عن المكتسبات، وترسيخ الأمن والاستقرار، كما هي حال القبائل العربية الأبية، وبين المفهوم الاصطلاحي للقبيلة الحزبية والطائفية والمذهبية، كمشروع سياسي، سلطوي، انعزالي أو عدواني.

فالمفهوم الأول هو امتداد تاريخي لحالة اجتماعية إنسانية طبيعية، أثبتت قدرتها على التطور والاندماج الوطني والتأقلم مع البيئة المتغيرة، وتستحق الاحترام والتقدير. والثانية، هي "تجمهر" بشري تحت قيادة مؤدلجة، عنصرية، مسيسة، تهدف الى الاستيلاء على السلطة، والهيمنة الداخلية أو الخارجية، كالنازية والفاشية والشيوعية والأصولية الحزبية.

واللغط الدائر حالياً حول مفهوم القبيلة ومكانتها على الخريطة الوطنية ودورها في قيادة الحاضر والمستقبل مع بقية المؤسسات القومية، يخلط بين المؤسسة الاجتماعية التي تحمل هذا الاسم وتجمع أعضاء يرتبطون نسباً وبيئة وتاريخاً، لها نظامها المتوارث لتنظيم العلاقات البينية، وتوزيع المهام واختيار القيادة، وبين الأحزاب والطوائف والقوميات ذات الأجندات السياسية التي تتضارب مع المؤسسة الوطنية، والحدود الجغرافية. وفي هذا إساءة للمفهوم النقي للقبيلة العائلية، إما عن جهل أو قصد.

القطيع
أعود الى مفهوم القطيع، فأشير الى أن تميز الإنسان عن بقية المخلوقات بالعقل، قاده الى تطوير المفهوم على المبدأ نفسه. ففيما يحكم "الألفا" أو "الفحل" الأقوى في عالم الحيوان وحده، استعان القائد البشري بالحاجب، والوزير، والكاهن، والجابي، والشاعر، والكاتب، والشرطي، وقائد الجيش. ولأن في طبع كثير من الخلق الكسل والتواكل، فقد تركوا مهمة التفكير والتفسير، التوجيه والإدارة، للمسيطر الأعظم وحاشيته. هو الوسيط بينهم وبين السماء، وهو خليفة الإله على الأرض، وهو السيد المطاع الذي تنحني له الهامات فيمتطيها.

ورغم التقدم العقلي والعلمي والاجتماعي الذي حققته البشرية منذ فرعون الذي "استخف قومه فأطاعوه"، وهامان الذي أقنعهم بألوهيته، وعزيز مصر الذي جنى ثرواتهم وأدارها، لا تزال قبائل البشر على ما كانت عليه. جرّب بعضهم الديموقراطية وحكم الجماعة، فتفرقوا وتشرذموا وهانوا على الأمم، حتى جاءهم هتلر وموسوليني وستالين، فوحّدوا صفوفهم وجمعوا كلمتهم، ورفعوا شأنهم ثم قادوهم الى الجحيم.

الفرديّة والطائفيّة
واليوم، بعد الثورة الصناعية، ومأسسة القبيلة والعائلة والجماعة، وتمكن الاستقلالية "الفردية"، والقومية الوطنية، والمجتمع الكوني، والتواصل المتباعد، ما زالت من طبائع البشر، في كثير من بقاع الأرض، صناعة الأصنام وتعبدها .. وانظر حولك! فبعدما سقطت زعامات قومية تكشفت عورات بطولتها في نهاية المطاف بالهزائم والكوارث التي استجلبتها وقادت شعوبها إليها، كجمال عبد الناصر، وصدام حسين، وياسر عرفات، وحافظ الأسد، ومعمر القذافي، وها نحن نعود الى زعامات جديدة، بقدسية قديمة. فبدلاً من طارئ القومية والبعثية والاشتراكية والتقدمية والأممية، عدنا الى ثابت القداسة الدينية، والعصمة الإلهية، والاصطفاء العرقي، والعترة النبوية.

الغريب، أن هذا الارتداد الماضوي لم ينحصر في شعوب ألفت ذلك ألف عام قبل أن تثور عليه وتتحرر منه خمسة عقود، كما في اليمن. فأبناء الهلال الخصيب، الذين سبقوا العرب في مدارج التطور العلمي والتعليمي والإنمائي مئة عام، واستنسخوا مدنية المستعمر البريطاني والفرنسي وحاكميته، حتى غدت حواضرهم منارات للحرية والديموقراطية والعلمانية، انتكسوا اليوم فسلمّوا عقولهم للمعممين، ورقابهم للملالي، ومصائرهم لضاربي الودع. ورغم الكوارث الحضارية والاقتصادية والإنسانية التي قادتهم اليها هذه الانحناءة الاستعبادية، ما زالت هناك ملايين تقدس وتتبع وتنحني لفراعنة العصر وكهنته أمثال حسن نصر الله، هادي العامري، إسماعيل هنية، راشد الغنوشي وعبد الملك الحوثي.

فراعنة العصر
وليس العجم، في محيطنا، بأحسن حال، فمغول الشرق في فارس والأناضول، تخلّوا عن مئة عام من العلمانية، وسلموا قيادتهم لزعامات مؤدلجة، متسلطة، مستأثرة. وانقادوا الى مشاريع كبرى، تستلهم التاريخ، وتعد باستعادة أمجاده. فأصحاب العمائم والطرابيش لم يمتطوا ظهور شعوبهم فحسب، بل كسروا معها ظهور العبيد العرب.

الطريق ما زال طويلاً وشائكاً، والمطايا لم تدرك بعد آخره. وما زالت السياط في أيدي فراعنة العصر، يجلدون بها بناة المقابر العظمى وعبدتها وخدامها. وما زالت أهرامات العصر والأضرحة والعتبات المقدسة تُبنى وتُزار ويُصرف عليها الدرهم والدينار، فيما تئن الشعوب من الجوع والجهل والمرض. بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء حواضر عربية عظيمة تغرق كل يوم في محارق الساسة والقادة، ولم يثر بعد أهلها على زعماء طوائفها، وكهنة سلاطينها، وحراس معابدها.

فالثورة تبدأ من العقل، والتغيير يبدأ من القلب، والقوة تنشأ من الظهر المستقيم ... والباقي تفاصيل!
 
نُشر في "النهار العربي"
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم