العرب بين عامين... وقرنين

في حياة الناس، كما في حياة الدول، إن لم تتقدّم الى الأمام، تأخرت الى الوراء. ذلك أن مراوحة مكانك تعني أن غيرك يسبقك، وتتسع المسافة الفارقة حتى يجب عليك الركض لتلحق بالسبق. أما إذا طال بك المقام، فقد تألف التخلف، وتفقد كل دافع للمواكبة وفرصة للحاق.
 
قوافل العرب
هكذا هي قوافل التاريخ، لا تنتظر، ولا ترحم، ولا تستجلب المتخلفين. وللعرب على ساحة السباق قصة تُروى، عمرها آلاف السنين. تأخروا، ثم سبقوا، ثم تأخروا من جديد. سبقتهم حضارات الصين والفرس ومصر واليونان والرومان. ثم استوعبوا ما فاتهم، وطوّروا وابتكروا وخرجوا من دمشق وبغداد وغرناطة لينشروا حضارتهم في أصقاع الأرض. الى أن أصابهم ما أصاب غيرهم من الأمم، فاشتغلوا بالجدل والغزل، بالكسل والرفاه، بالدرهم والدينار، وقاتل بعضهم بعضاً على العرش والسعة، فتكالبت عليهم الأمم، وهيمن عليهم العجم، وضاع كل شيء.
 
ثم جاء زمن يقظة وانتفاضة، واستعاد بعضنا حريته وكنزه، فباعها واشترى كرسيّه. وتمكن بعضنا من ضبط الإيقاع، وبدأ من حيث انتهى الآخرون. يتعلم منهم. يطوّر ويضيف، يعدّل ويوازن، يواكب ويوفق بما يتلاءم مع احتياجاته وبيئته، ويتناسب مع ثقافته وتركيبته. يحترم البيئة الحاضنة فلا يحتال عليها، أو يتجاوزها، أو يستبدلها ببيئة مستوردة.
 
أعوام وقرون
وما ينطبق على حالنا في العامين الماضيين لا يختلف عما تعلمناه من تجارب القرون الماضية. طموحنا تأرجح بين من طلب النجوم فنال السحاب، وبين من حاول المحافظة على موقعه من الإعراب، والدفاع عن منجز الأمس، فخسر اليوم وأضاع الغد.
 
وللعدل، لم يكن العربي وحده المسؤول عن حاله. فقد كنا وما زلنا، كالأيتام على مائدة اللئام، "تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها". وكانت البيئة الحاضنة للإبداع والتمرّد على الظروف التي وجدنا أنفسنا فيها، أندر من الواحات في الصحراء القاحلة.
 
رحلت القبعة وحلّت العمامة
وللعدل أيضاً، فقد أسهم كثير منا في ما انتهينا إليه. خان بعضنا بعضاً، فباع من باع، وشرى من شرى مع العدو الأعجمي، والخائن العربي. تواكلنا، وتكاسلنا، وخضعنا لحكم الزمن، وسراق الزمن. فهذه شعوب كانت مشرقة على الكون بإبداعها وقدراتها. وتلك أوطان كانت منارات للعلم والنور، تجري فيها الأنهار وتنبت من أرضها الخيرات وتهفو إليها الأفئدة.
 
ثم ها هي اليوم تشكو الجوع والفقر والمرض، وهي أرض السواد والذهب، وبلاد المن والسلوى، ومنبع العلوم والمعارف الانسانية التي بنى عليها الغرب نهضته منذ القرون الوسطى. رحل الرجل الأبيض، وحلت العمائم السود، وبين الزمنين نزل علينا "حكم العسكر“!

استعمار الغريب وحكم القريب
"رب يوم بكيت منه حتى إذا صرت الى غيره بكيت عليه"، ولعلّ هذا ما انتهينا إليه. فقرن مضى كان العرب يشكون فيه من تسلط الطربوش والقبعة. وخرجت من بين الجموع الساهية فئات من المثقفين والحالمين والمسلحين تطلب السلطة وطرد المتسلط. وبعد عقود من البارود والدم، بدا أنها نالت ما أرادت.
 
انسحبت جيوش العجم وسادت جيوش العرب. لكنّها لم تكن أرحم. زالت حكومة الغريب وتشكلت حكومة القريب، لكنها لم تكن أكفأ. وبقيت الحاجة الى الشرق والغرب ما دامت الحاجة الى الخبز والزيت، الثوب والقميص، المطبعة والقلم، السيارة والدبابة. وشغلنا الحكام الجدد بقضية بعد أخرى، وحرب بعد حرب. وبرروا عجزهم بالفلول، وفشلهم بالمؤامرة، وقمعهم بالطابور الخامس.
 
منجز الثورات
وقمة الإنجاز على الأرض أن غيّروا أسماء الجامعات والمشافي والأحياء والشوارع، ووضعوا اسماءهم وثوراتهم. بدلوا المناهج العلمية بالمناهج الحماسية. وطبعاً، استبدلوا الأعلام والشعارات والنشيد الوطني.
 
وسواء كانت الثورة قومية أو فردية، شعبية أو عسكرية، فقد أشعلت وشغلت، أهدرت وشتّتت. ثم انتهت بعد مخاض طويل الى حكم الفرد والطائفة والطبقة. قلّب صفحات التاريخ، وألبومات الماضي، وقارنها بصور الحاضر وأحواله. تأمل ما كنا عليه في حواضر الشرق، بغداد ودمشق وبيروت وعدن والقاهرة والخرطوم، من تنمية، وتقدّم، ورخاء. ثم عد براحلة الزمن الى واقعها واسأل، لماذا وكيف… والى متى؟
 
حكم العسكر
مهمة الجند حماية الحياة المدنية، لا إدارتها. وتدريب الجندي لا يتجاوز القدرة على تنفيذ الأمر، واستخدام أداته. وعندما يخطئ السياسي يتدخل العسكري أو الملا أو الطائفي بعذر التصحيح، وعندما تثري فئات، تقفز أخرى بدعوى عدالة توزيع الثروة.
 
ولكن إذا طاب للمستجد المقام على رأس الهرم عزت عليه العودة الى الثكنة أو القرية أو المعبد. وإذا اعتاد القصور استحالت عودته الى الثغور والفقر وقلة الحيلة. وهنا تختل الموازين. فمن يؤهّله إعداده وتخصصه للحكم أصبح محكوماً، ومن فاته قطار التعليم والتدريب قفز الى كابينة القيادة. ومن كان علمه في الماضوية صار مسؤولاً عن صياغة الحاضر والمستقبل، ومن تخصّص في أمر السماء بات مسؤولاً عن شؤون الأرض. اختلط الحابل بالنابل، والصالح بالطالح، والنافع بالضار، فكانت النتيجة هذه المأساة.
 
نجاح رغم كل شيء
عام ماضٍ على أمة الضاد تراجعت فيها منجزات وتقدمت أخرى. تأخرت دول وتفوقت أخرى. ورغم كل شيء، فرحنا بكأس العالم في قطر، وفوز المنتخبات العربية، السعودية والتونسية والمغربية، على منتخبات عريقة لدول كبرى. أسعدنا نجاح التنظيم لمناسبات وفعاليات عالمية في الدوحة والرياض ودبي وشرم الشيخ. واحتفلنا بتفوّق أبنائنا في مسابقات علمية وابتكارية دولية، وجوائزهم في جامعات ومعاهد كبرى.
 
كذلك افتخرنا بمواقف مشرفة لقادة عرب في المحافل والمواقف السياسية والنفطية. شعرنا بأننا اليوم نشارك على طاولة مجلس إدارة العالم، ونحافظ على حياديتنا وسيادتنا، وندافع عن مصالحنا ومكانتنا، ولا نقبل بإملاءات الغرب والشرق. رأينا ذلك في موقفنا من الصراع الروسي – الأوكراني، والقطبية الأميركية الصينية، وتقلبات سوق الطاقة. ورأيناه في جولات قادتنا حول العالم، واستقبالهم لقادته، وتكريسهم للمنفعة المشتركة، والأمن المشترك.
 
العالم هذا المساء
وهكذا بدا العالم العربي في مساء ليلة الواحد والثلاثين من آخر شهور عام 2022، مشرقاً بالدمع حيناً وبالفرح حيناً. باليأس والأمل. بالفقر والرخاء. بالخوف والأمان. ولسنا وحدنا، فالعالم كله يعيش حالة من التقلب الشديد. أعاصير الطبيعة والصراع تعصف بالاقتصاد والسلم والأمن، وجودة الحياة. ربما كان نصيبنا أكبر، لأننا لم نعدّ للأمر عدته.
 
لكننا نملك أعظم الكنوز: الموارد البشرية، والطبيعية، والاستراتيجية الجغرافية. نرتبط ثقافياً ودينياً بقرابة نصف مليار عربي، وملياري مسلم، وجلّنا من الشباب المنفتح على العالم، والمتوثب للمشاركة في رسم مستقبله. وبعضنا درس وتفوّق في أفضل جامعات ومعاهد الشرق والغرب، وبعضنا عمل وتاجر وسابق وسبق في اقوى اقتصادات ومؤسسات العالم.
 
مطالب الجيل الجديد
نحتاج في عامنا الجديد وأعوامنا المقبلة، إلى أن نعطي لجيل الألفية فرصة التأهل والعطاء والقيادة، وأن نمنحه الثقة ليحتل مكانه الطبيعي في المقدمة، وأن تستريح الأجيال التي سبقت، وتتوارى تلك التي حكمت بالبارود والرايات والعمائم، وتتقاعد التي جربت وفشلت في تحقيق الوعود. وأن يبقى كل صاحب تخصّص في تخصّصه، فيعود العسكر الى الثكنات، والأكاديميون الى الجامعات، والأطباء الى العيادات، وأهل الفتوى الى دور العبادة.
 
ونحتاج قبل هذا وذاك الى الوعي المجتمعي، فلا ننحاز الى الحزب والطائفة والزعيم لمجرد الانتماء. ونختار قياداتنا بناءً على الكفاءة والخبرة والمشروع. ونرفض الفاسد والعميل والفاشل، مهما كانت لنا به صلة، أو لصوته لحن، أو لشعاره رنين. ولتحقيق ذلك كله، لا بد من صحوة شعبية مستقلة، كما يحدث اليوم في إيران. لا ترتبط بغير الوطن، ولا يسيّرها غير المواطن، ولا تهدف إلا للإصلاح والمصلحة الوطنية.
 
*أستاذ في جامعة الفيصل
 
@kbatarfi