الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

التعليم الرسمي ليس للتضمين ولا للبيع والخصخصة

المصدر: "النهار"
"تتحدّى الثانويات والمدارس الرسمية، الإهمال الرسمي المتراكم منذ عهد الانتداب" (تصوير حسام شبارو).
"تتحدّى الثانويات والمدارس الرسمية، الإهمال الرسمي المتراكم منذ عهد الانتداب" (تصوير حسام شبارو).
A+ A-
الهام فرج
 
يُطالعنا البعض بتحليلات وبآراء يوحي أقلّها بأنّ التعليم الرسمي في الحضيض. وهي تهدف، أقلّه، إلى تثبيط العزائم، وتنمُّ عن تحقير للتعليم الرسمي وللطالب اللبناني، فتبعثُ في ذاته ذلك الشعور بالانكسار والهزيمة، فيما نبذل أقصى ما نستطيع مع زملائنا وزميلاتنا لدعم ذلك الطالب نفسياً ومعنوياً وأكاديمياً، كي يصمد في ظلِّ ما فرضته جائحة كورونا في جميع دول العالم من ظروفٍ استثنائية، لم تكن جميع الدول محضَّرة لها ومن ضمنها لبنان.
 
لا تضعوا التعليم الخاصّ في وجه التعليم الرسمي، ولا سيما أنّ لنا فيه الكثير من الزملاء والزميلات الأكفاء. ولكن لا تنسوا أنه يرتكز ويعتمد في التدريس، وخاصّة صفوف الشهادات، على أساتذة التعليم الرسمي وخبرتهم وكفاءتهم العالية. وقد خضعوا للكثير من الدورات التدريبية الأكاديمية والتربوية والتقنية ودورات إعداد في كلية التربية. ولأنهم تدرَّبوا واكتسبوا خبرة التعليم في المدارس والثانويات الرسمية، التي تميَّزت على مساحة الوطن على الرغم من كلّ المشاكل التي تعترض التعليم الرسمي، والتي نواجهها باللحم الحيّ، والتي نعرفها جميعاً.
 
تتحدّى الثانويات والمدارس الرسمية هذا الإهمال الرسمي المتراكم منذ عهد الانتداب حتى اليوم، والعدائية الغوغاء وهذه الحرب الضروس والعنصرية العقيم، والفوقية في التعامل مع المدرسة الرسمية ومع مجتمعها، وتفضيل التعليم الخاصّ عليها دعماً وإعلاماً وسياسة.
 
هذه المدرسة التي تضمُّ طلّاباً من جميع الفئات الاجتماعية، وهي إن سُمِّيت مدرسة الفقراء، وهذا فخرٌ لها ولنا، أخذت على عاتقها أن تقدّم لهم تعلّماً نوعياً حُرِموا منه وعن قصد، إذ عملنا على تطويع المناهج وأقلمتها وعصرنتها قدر المستطاع بعزيمتنا وتصميمنا وإرادتنا وفكرنا التربوي إداريين ومعلّمين وأساتذة. وتفوّقت مدارسنا على أهمّ المدارس الخاصّة في لبنان بطريقة أذهلتهم، وهم ينظرون بازدراء واستعلاء إلى طلّابنا، وكأنهم يأتون من كوكبٍ آخر. علماً أنّ بعض تلك المدارس تنتقي في صفوف الشهادات طلّابها وتلفظ خارج أبوابها الضعفاء منهم. وهم الذين درسوا فيها منذ نعومة أظفارهم، فيأتون إلينا مكسورين ومحبطين، لنتلقّفهم بمحبّة ونوفّر لهم كل الدعم.
 
وتُشير النشرات الإحصائية الرسمية إلى نزوح طوعي للطلّاب إلى المدرسة الرسمية قبل الأزمة الاقتصادية الحالية، ولكنه ازداد بعدها. ولطالما سجّلنا طلّاباً حُرموا الإفادات عقاباً لانتقالهم الطوعيّ هذا، أو لعجز أهلهم عن دفع المستحقات المالية المترتِّبة عليهم.
 
صحيح أنّ الكثير من طلّابنا هم من الفقراء مادّياً ولكنهم من الأغنياء إنسانياً. ونحن نحيطهم بالثقة والمحبّة والعزيمة، ولا ننتقيهم كما يدّعي البعض، بل يأتون إلينا من كلّ الفئات الاجتماعية، ومن مستويات علمية متفاوتة فنقدّم لهم كلّ الدعم ونعمل على سدّ الثغرات ونصنع منهم أفضل الممكن، ونوفّر ما يُيسّر لهم سُبُلَ النجاح.
 
لقد تحوّل مجتمعنا اللبناني، بفضل مدارس الطوائف والمذاهب تلك، إلى مجموعة جزرٍ طائفية متباينة. ووحدها المدرسة الرسمية تعبر تلك الجزر وتتخطّاها، وحدَها المدرسة الرسمية تعبر بك إلى الوطن.
 
لبنان بلد محدود الموارد الاقتصادية، ولكنه يتميّز بموارده البشرية وطاقاته الكبيرة والخلّاقة. ولا يستمدّ النظام التعليمي في أيّ بلد قوّته من الكلفة العالية التي تضطرُّ الأسرة لأن توفِّرها غالباً، بل من قدرته على تحسين حياة الناس وتوفير فرص عيشٍ أفضل. وهذا يتطلَّب نظاماً سياسياً يتبنّى رؤية مستقبلية، هدفها العمل على توفير الأمان الاجتماعي للسكّان، وتحسين جودة العيش من خلال ثنائية (التنمية والتربية).
 
تُظهر لنا الدراسات والأبحاث التربوية وتجارب الدول أهمية استثمار الدولة في التعليم، حيث تُوفّر تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية والمساواة، والدمج المُجتمعي بين كافّة الشرائح الاجتماعية من خلال المدرسة الرسمية.
 
بينما يتمادى المسؤولون في لبنان في إفقار الناس وسلبهم أرزاقهم، يعجز الكثير من الطلّاب عن تسديد أقساطهم الجامعية في لبنان والخارج، فيما لم يتمّ العمل على تحسين القدرة الاستيعابية للجامعة الوطنية، بحيث سيصبح التعليم الجامعي حكراً على فئة معيّنة. ويبدو أنّ الطموح الاستثماري لدى البعض إلى تضمين التعليم الرسمي، هدفه أيضاً حرمان أبناء تلك الفئة المغلوب على أمرها معيشياً من فرصة التعلّم، ليصبح التعليم المدرسي كما الجامعي حكراً على فئة الميسورين والأغنياء في هذا البلد، ما يُنتج ارتفاعاً كبيراً في أعداد المتسرّبين والمهاجرين والمشرّدين في وطنهم.
 
إذاً يبدو أنّ البعض يريد العودة بنا إلى زمن الفقر والجهل وتعميق الفجوة الاقتصادية والاجتماعية، ليُرضي استعلاءه الطبقي وأنانيّته وطموحاته الاستثمارية.
حان الوقت لوضع حدٍّ لكلّ هذا التجنّي على التعليم الرسميّ ومحاولات إلغائه وإعدامه. إنّ التطوير الحقيقي والتحوّل النوعي يجب أن ينبثق من صميم النظام التعليمي، بدلاً من أن يُترك لقوى السوق ومستثمريه. وهذا يحتاج إلى قرار سياسي وطني قويّ وجريء لا نزال بعيدين عنه حتى اليوم.
التعليم الرسمي في لبنان ليس للتضمين ولا للبيع ولا للخصخصة!...
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم