السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

أين العرب من العروبة؟

المصدر: "النهار - الدكتورة وديعة الأميوني"
الدول العربية.
الدول العربية.
A+ A-

أستاذة جامعيّة

تطرح  العروبة مبادئها من خلال تأكيد وحدة أصل المواطن العربي بعيداً عن عناصر التمييز بين المجموعات الإثنية والقبلية والعشائرية. وتهدف إلى إسقاط كل مفهوم يرزخ تحت تأثير الذهنيات الطائفية والمذهبية والدينية والعنصرية وغيرها، مرتكزة على أساس الانتماء إلى أمّة واحدة، وإلى مضمون حضاري ـ تاريخي وثقافي واحد يتجذّر في أصول  تعود إلى ما قبل ما سمّي  بـ"العصر الجاهلي".

لا تستلزم اللغة العربية بالضرورة تبنّي المفهوم العروبي (أن يتكلم الفرد اللغة العربية أو أن يكون عربياً لا يعني بالضرورة أن يكون عروبياً)، فالعروبي هو من تتوافر لديه شروط لغة الثقافة العربية ومضمونها الحضاري والتاريخي وتسليمه بالانتماء إلى أمّة عربية واحدة متضامنة وذات أهداف موحّدة، وليس إلى قومية عربية ذات خصائص تفرّقها عن قوميّات أخرى. هنا تجدر المفارقة بين مفهومَيْ العروبة والقوميّة العربية وأهدافها السياسية التي تقيّدها. بحيث لا يتناقض الانتماء "العروبي" أبداً مع خصوصية كل مجتمع عربي. بل تعترف به كجزء من الإطار الكلي الذي ينتمي إليه كعلاقة الجزء مع الكل؛ مثلما تتكامل  الأشكال المتنوعة في اللوحة لتعطي الصورة الكلية. هي جزء في كيانها لكنها تابعة ومتكاملة في مجموعها الكلي. لذلك، فإن اندماج خصوصيات البلدان العربية تؤلّف الأمة العربيّة التي تغلّف الإطار العام لمضمون الانتماء العروبي الشامل، بعيداً عن أي  تمايز عنصري أو إثني أو دينيّ.

وعليه، تَبين الفروق واضحة بين العروبة والمفهوم القومي حيث تتأرجح وتيرة الشعور بالانتماء العربي ووسائل التعبير عنه. فالقومية تفرض نفسها سياسيّة وحزبيّة وتوسّعية، بينما تقدّم العروبة نفسها شموليّة وبعيدة عن أيّة مصالح، بل إنّها تضمّ المفهوم القومي في طيّاتها وإطارها الثقافي والحضاري.

تبقى الدعوة إلى العروبة "فكرويّة" بحتة، وتفرض التسليم بالانتماء إلى الأمّة دون الاختلاف والتباين السياسي في وحدة  المصير للمجتمعات العربية، حيث لا تكون وحدة الأشكال والمعايير بين البلدان هنا مقياساً لوجود العروبة التي تقتضي حتماً التعبير السياسي عن وجودها بشكل وحدويّ. فهي إضافة حضارية لتشتمل على كل من يندمج في الثقافة العربية ومقاييسها التاريخية، وهي هويّة انتماء ثقافي خارج دائرة العناصر التقليدية السائدة في المجتمعات العربية مثل القبلية ـ العشائرية والعنصرية والعرقية والعائلية والطائفية والمذهبية والأصولية وغيرها، التي بانت واضحة بأشكالها خلال التظاهرات والثورات الأخيرة  في بعض البلدان العربية.

لم تتجسّد العروبة سياسياً في إطار موحّد على أساس مرجعتيها كانتماء. أما الوصول إلى مشروع عربي واحد أو اتحادي (ولا نتحدث هنا عن اتحاد شرق أوسطي تحاول أن تترأّسه تركيا)، فيستوجب أساليب قائمة على أسس الانفتاح والرفض التام لتبيان الألوان الدينية خصوصاً، وإقامة حوار في إطار التعايش مع الآخر المختلف وتحقيق "الديموقراطية" النابعة من الداخل، بعيداً عن الديموقراطية المقنّعة والمنبثقة من إيديولوجيات سلطويّة وديكتاتوريّة متستّرة وراء المتغيّر الطائفي.

من هنا، نجد حاجةً وضرورةً في التوصّل إلى تعبير دستوري موحّد حول السياسة العربية، ثمّ الدعوة السلمية في سبيل تحقيق الأهداف ورفض السيطرة والهيمنة السائدة داخلياً أو المفروضة من الخارج، وتعزيز نظاميّة الحكم الديموقراطي لأجل مباشرة عملية الاعتراف بالآخر رغم اختلافه أو تنوّعه. فهل يحق لنا أن نحلم مثلاً ببلدان عربية ديموقراطية ذات أهداف ومصالح وطنية واحدة ومشتركة؟ ألا يمكن أن تتكامل الوطنيات العربية لتحقيق تلك الدول المتماسكة؟ ألا يمكن أن تفرض تلك الدول تحدياً سياسياً يلغي كل الصراعات القائمة؟ ألا يمكن بالتالي تشكيل قوّةً معادية للتدخّل الخارجي في السياسات العربية وتقرير مصير شعوبها؟

كان بالإمكان أن نحلم بتحقيق ذلك لو لم نشهد خيانات العرب الكبيرة وتشرذم مواقفهم وبطشهم (إلا في ما يطال التحالف مع الخارج)، الذي أدى في الزمن الأخير إلى التخلي عن تراثنا العربي والتحالف مع ثقافات مغايرة تسقط ماضيها و"أساطيرها" في حاضرها المتعثّر، وبالتالي إلى إحداث ثورات "فوضويّة" تغيب عنها الأهداف الموضوعية في تغيير الخريطة السياسية و"الجيوسياسة العربية".

ان مشكلة التكامل والتحالف بين بلدان المجتمع العربي تكمن أساساً في عدم الترابط بين النظام والمنهج العروبي الصحيح (الذي يوازي معطيات المفهوم الديموقراطي العربي)، هذا التفكك الذي ساهم بصورة مباشرة في اعتراف وتبنّي بعض المجتمعات العربية لأهداف وشرعية السيطرة الغربية منذ عقود التي تتستر وراء الدعوة إلى تحقيق العدالة والحرية التي تفتقر إليها مجمل البلاد العربية، في ظلّ استباحة الحقوق الانسانية للفرد والجماعات، الأمر الذي أسس لأرضيّة صراعات وتجاذبات تميل في دفّتها نحو التحرّر حيناً، والحركات الأصولية حيناً آخر، وهي التي ظهرت كردّ فعل على مظاهر التفكك السياسي وغياب الوعي العروبي الذي سمح بتدخل المجتمعات الخارجية وتقديم نفسها وصيّاً وحكماً ومرشداً للحكام العرب، وهي التي تختلف تمام الاختلاف عن مفاهيم ثقافة شعوبنا الاجتماعية والسياسية العربية؛ هذه المسألة التي سوف تقلب المقاييس رأساً على عقب، حيث نجد في الاختلاف الثقافي ـ العقائدي استعماراً قصير المدى، بل مُخططاً فاشلاً للسيطرة الخارجية على المنطقة العربية لجهة الاختلاف والرفض العربي ـ الشعبي المتأصّل في الجذور الثقافية التاريخية والسياسية (الايستو- بوليتيك) من ناحية، والبُعد في الجغرافيا لبعض البلدان الغربية من ناحية أخرى، تماشياً مع أصول النظرية الجيوسياسية في هذا المجال.

تبقى المشكلة أساساً في البنى السياسية التي تشكّل الهيكلية الأساسية المتزعزعة عند العرب، والتي سمحت ومهّدت لكلّ خروقات وثورات عشوائية وميليشيوية وتدخّلات خارجية. وقد يكون الإجماع الشعبي المتمحور حول مفهوم العروبة والدعوة السلمية إلى الوحدة، هو إحدى الطرق المؤدية إلى بناء دولة الوحدة العربية وتقليص الشرخ والانقسامات السائدة كثيراً في صفوف القادة العرب والشعوب العربية. ثم التوجه إلى تحقيق أشكال "السيطرة الأفقية" في الحكم والممارسات، بعيداً عن أيّة مفارقات "عمودية" توسّع الهوّة بين الحاكم والمحكوم. ونعزو فشل العرب في الوصول إلى مشروع كيان عربي اتحادي (واحد)، إلى فرضيات تَبعد عن أسس الانفتاح والديموقراطية في الحكم والوعي الثقافي والسياسي، ثم عدم تقبّل الآخر، وبالتالي طبع السياسة بطابع الدين والطائفة، والى فعل إسقاط الحاضر في الماضي وإعادة إنتاج التاريخ في الحاضر لدفعه نحو المستقبل، وفي ذلك خلاف للنظام الطبيعي القائم على التطوّر والتغيير الحتميّ وفق النظريات السوسيولوجية أو السوسيوبوليتيكية.

أخيراً، نقول إن مفهوم العروبة أو الانتماء العربي لا يمكن أن يتماهى في ذهنيّة الأفراد ما لم تتحقق مفاهيم المواطنية الصحيحة والمنهج الديموقراطي في التعاطي والحكم والنظام، لكي نَبعد عن عجزنا الدائم في النهوض والتقدّم والتوحّد والتفاعل والاندماج. بل تتوافق العروبة مع شروط التشبّث بالهوية الوطنية كخطوة أوّلية وأساسية.

تتوازى العروبة والهوية الوطنية لجهة تذويب الانقسامات القائمة على أساس طائفي وديني وإثني وقبلي وعشائري وعائلي وغيره، فتصبح الوحدة الوطنية داخل كل وطن عربي أساساً للدعوة إلى الوحدة العربية العامة، وحيث يكون الولاء للوطن الواحد والأمّة الواحدة، أرفع درجة من الانتماء إلى المفاهيم التقليدية والمذهبية المعرقلة لكلّ مفهوم نخبوي وتطويري.

 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم