السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

عن "العهد القوي" ومفهوم القوّة في السياسة

المصدر: "النهار"
غضب الشارع، مَن يُهدّئ روعه؟ (تعبيرية- أ ف ب).
غضب الشارع، مَن يُهدّئ روعه؟ (تعبيرية- أ ف ب).
A+ A-
 
إيلي حداد
 
 لقد روّج مستشارو الرئيس ميشال عون في بداية عهده في العام 2016 لمفهوم "العهد القوي" الذي يحمل في طيّاته إعتبارات عدة أهمها إعادة إشراك المسيحيين في الدولة بشكل فاعل، بعد "الغبن" الذي لحق بهم جرّاء إتفاق الطائف وترسيخ نهج جديد في السياسة، أي "الحريرية السياسية". وقد رافقت هذا الشعار إنتخابات نيابية برزت منها كتلتان أساسيتان في المناطق المسيحية، أخذت كل واحدة منها ايضاً صفة "القوّة" شعاراً، الى درجة يضيع المشاهد بينهما. وإذا كان هذا التنافس بين المجموعتين تاريخياً وصل الى حدّ "حرب إلغاء" أدى الى تهجير جزء لا يستهان به من مكوّناتهم السكانية، وأخذ شكلاً أكثر ديموقراطية في الانتخابات النيابية الماضية، فإن هذا لا يخفي بالرغم من اختلاف توجهاتهما واستراتجياتهما السياسية، مدى الحاجة النفسية لدى الجماعة التي تمثلانها الى إعادة تكوين الذات من خلال إعادة إحياء مفهوم "القوة".
 
فمفهوم القوة يظهر في العمل السياسي في مختلف المجتمعات بعد فترة من الركود وحتى بعد فترة من الهزيمة التي تحل بشعب كامل أو بجزء منه، فتعود هذه الشعارات لتعطي جرعة من الأمل ودافعا له للنهوض من كبوته. هذا ما حصل في التاريخ الحديث في ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، مما أعطى شخصاً هامشياً لكن ذا بلاغة في الخطابة، يدعى أدولف هتلر، القدرة العجيبة على التأثير في شعب بأكمله وجرّه الى أكثر الجرائم شناعة والحروب عبثية. في أحد خطبه أعلن هتلر أن براعة الزعيم الوطني تكمن في تصويب اهتمام الشعب والتركيز على عدو واحد، وان الطريق الوحيد لتحقيق الانتصار على "العقلانية" هو من خلال "القوة" والترهيب. وفي تصريح آخر ذي دلالة معبّرة يقول الزعيم: "العمل الوحشي جدير بالاحترام. الوحشية والقوة الجسدية. الرجل العادي في الشارع لا يحترم شيئاً سوى القوة والقسوة. النساء ايضاً لا يحترمن سوى القوة. الناس بحاجة الى الخوف المهيمن، إنهم بحاجة أن يخافوا من شيء ما. إنهم بحاجة الى من يرهبهم ويضعهم في وضعية الطاعة والاذعان".
 
كُتب الكثير حول مصادر هذا الفكر النازي، وعن تمحور إيديولوجيته حول مفهوم "القوة" الذي ردّه البعض الى الفيلسوف العبثي فريدريك نيتشه. نيتشه، من خلال كتاباته العديدة، شنّ حرباً بلا هوادة ضد التيولوجيا المسيحية التي تتمحور في نظره حول فكرة التسامح والاذعان وصولاً الى الضعف وفقدان عنصر القوة. في مجموعة من كتاباته عن هذا الموضوع التي نشرت تحت عنوان "إرادة القوة" أوضح نيتشه أسباب ازدرائه للعقيدة المسيحية: "ما الذي نواجهه في المسيحية؟ إنها تهدف الى تدمير القوي، الى كسر روحه، الى استغلال أوقات ضعفه وهوانه، الى تحويل الثقة بالذات الى شك ووخز في الضمير، الى أنها تعرف كيف تسمم الغرائز النبيلة وتصيبها بالمرض الى أن تتحوّل طاقتها الى تدمير ذاتي ـ أي الى أن يهلك القوي تحت وطأة الاحتقار والتدمير للذات بما يشكل أبشع طريقة للموت".
 
بعد انكسار المشروع النازي وانتهاء الحرب العالمية المدمّرة، غاب مفهوم القوة عن الخطاب السياسي في معظم الدول الأوروبية ليحّل مكانه فكر إجتماعي ـ إشتراكي يسعى الى تأمين الحقوق الأساسية للناس وفي مقدمها العيش الكريم، التعليم والطبابة، مع اهتمام مركّز بالشرائح الأضعف من الشعب، أي تلك التي كان يضعها النظام الفاشي في سلة المهملات. لكن ضمور القوة لم يدم طويلاً، فالتاريخ، كما علّمنا هيغل، هو سلسلة من الدورات، فعاد مفهوم القوة ليظهر في عدة بلدان أوروبية، من إيطاليا الى فرنسا الى ألمانيا وغيرها، بعد عقود من انتهاء الحرب.
 
في إيطاليا برزت مثلاً ظاهرة برلوسكوني في تسعينات القرن الماضي كزعيم جديد على رأس تيار يجمع الاضداد، ففيه الكاثوليكيون المحافظون كما الاشتراكيون السابقون بتشكيلة غريبة من الليبيرالية الاقتصادية الممزوجة بالشعبوية الديموقراطية ضمن "إطار إيديولوجي رافض للإيديولوجيا" كما يقول الناقد آليساندرو كامبي. وما يجمع الوافدين الى هذا التيار الذي إتخذ عنوان "Forza Italia" اي "أيطاليا القوية" ليس سوى جاذبية شعارات القوة والحرية.
 
بدوره برز نجم الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في فرنسا في العقد الأول من القرن الحالي، الذي أدين حديثاً بجرم فساد، لم يحمه منه لا تدخل بطريركي ولا بابوي. ساركوزي خاض الانتخابات الرئاسية على قاعدة عنوانها "La France Forte" أي "فرنسا القوية". أتى صعود ساركوزي على خلفية موجة من الفوضى إنتشرت في الضواحي الفقيرة، لعب فيها دور الشرطي الحازم من خلال توليه منصب وزير الداخلية في عهد الرئيس شيراك ونجاحه في قمع التحركات التي تحوّلت الى أعمال شغب واسعة.
 
بالطبع وصلت ذروة استحضار القوة كأساس في الترويج السياسي خلال حملة دونالد ترامب الانتخابية الأولى، التي اعتمد فيها نهج تحقير الاخصام السياسيين بدءاً بمنافسيه الجمهوريين وصولاً الى منافسته الديموقراطية، ومن ثم استعمال الشعار الشهير، "لنجعل أميركا عظيمة مجدداً" الذي يختزل في طياته انتفاضة على مسار ديموقراطي طويل ابتدأ مع مشاريع روزفلت الاجتماعية ضمن "العقد الجديد" مروراً بإعطاء الحقوق للجماعات العرقية المهمّشة تاريخياً وصولاً الى اعتماد قوانين تحفيز وتأمين حد أدنى من مشاركة الاقليات في كل الوظائف العامة والخاصة. استغل ترامب، كما يستغل السياسيون في لبنان، هواجس ومخاوف الأكثرية من العامة وخاصة الطبقة الوسطى تجاه ما يرونه من تقلص لدورهم السياسي ومكتسباتهم الاقتصادية، كما لما يراه البعض منهم كخسارة لامتيازات تاريخية، فلعب على هذه المخاوف التي ربطها بحالة الوهن والخنوع والضعف التي أصابت المجتمع جراء عهود متتالية من الحكم الديموقراطي، ليشنّ الهجوم المعاكس رافعاً شعار استعادة المجد والقوة وربما ـ من خلالها ـ "استرجاع الحقوق" للطبقة الوسطى ذات الأغلبية البيضاء.
 
من هذا المنطلق التاريخي، ومن أجل تخطي هذه الأزمة الوجودية، يمكننا فهم أسباب ظهور مفهوم "العهد القوي" عند شريحة واسعة من اللبنانيين وجدت نفسها منزوعة الامتيازات في وطن تعتبر نفسها سبب وجوده. إلا أن هذا الشعار المأزوم ـ كما سبق أن حصل في ألمانيا النازية وإيطاليا البرلوسكونية وفرنسا الساركوزية، وصولاً الى أميركا الترامبية ـ يحمل دائماً في طياته مفاعيل سقوطه وتفككه كونه يبنى على أسس يتخللها الضعف البنيوي والقلق الوجودي والخوف من الآخر. لكن هذا لا يمنع من انتشار شعارات كهذه، تمجد القوة وتجعلها ركيزة في العمل السياسي. أما الذين قد يستغربون أن لا تكون "القوة" هي إحدى الركائز الأساسية للعمل السياسي، فيمكن التذكير بأن العمل السياسي في الديموقراطيات الراقية تمحور دائماً حول الأهداف النبيلة مثل العدالة الاجتماعية وتحقيق الأمن الإجتماعي، بحيث تكون القوة هي الضامن لتحقيق هذه الأهداف وليست الهدف بحدّ ذاته، وبالتأكيد ليست مثالاً أعلى يحتفى به. القوة تجذب دائماً الجماهير التي تعاني حالة الاحباط، أو التي عانت تاريخياً من الغبن والحرمان، وهذا لا ينطبق فقط على المسيحيين في لبنان بل يمتد الى فئات أخرى في المجتمع اللبناني. فالقوة، كما في أفلام سيلفستر ستالون، تعطي الأمل للمظلومين بإعادة تصحيح أخطاء تاريخية أو ظلم سابق. هي الوجبة السريعة للنهوض من الكبوة وتحميل "الآخر" مسؤولية الفشل الذاتي أو الاحباط الناتج من تغيّر في المعطيات الاقتصادية العالمية.
 
لعل نيتشه كان على حق عندما قال: "هل تريد أن تعيش حياة سهلة؟ إذاً إبقَ دائماً ضمن القطيع الى أن تذوب فيه وتفقد نفسك". لكن الفيلسوف لم يربط يوماً بين مفهوم القوة وحاجة القطيع الى زعيم يحمل رايتها. فالقوة تحوّلت، مع العديد من الساعين الى السلطة، الى أداة لترويض الشعب وتحويله الى... قطيع.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم