السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

16 ​يوماً للمرأة أولّها الأحوال الشخصية

أوغاريت يونان
أوغاريت يونان
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-

أوغاريت يونان*

 

بصمة المرأة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

 

في إطار حملة الستة عشر يوماً العالمية لمناهضة العنف ضد النساء والفتيات، يسرّني أن أبدأ كلمتي بموقف تاريخي للعدالة والإنسانية، طبعت بصمته نساء، لسن من دول غربية كما يمكن أن يفترض البعض، بل من مجتمعات "عالم ثالث أو تقليدية". نساء قمن بشجاعة بتعديلات في مسوّدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لدى ولادته منذ 27 سنة، الذي يحتفل العالم به في الـ 10 من كانون الأول، فيتقاطع مع ختام حملة الـ 16 يوماً. أتذكر معكم ومعكن امرأتين فقط في هذا المقال المقتضب، وكم كان مدهشاً ما قامتا به.

 

حين عرضت مسوّدة الإعلان على بعثات الدول في الأمم المتحدة عام 1940، وعلى اللجان وبينها لجنة المرأة، وذلك لإبداء الرأي والاقتراحات، وكانت لجنة صياغة الإعلان كما هو معلوم برئاسة امرأة هي إليونور روزفلت زوجة الرئيس الأميركي، وكان مقررها شارل مالك اللبناني، اعترضت ممثلة الهند هنسا ميهتا بشدّة على أول مادّة سيطل بها هذا الإعلان على الأمم، إذ كانت تنص: "يولد الرجال all men أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق...".

 

عبارتها البديلة التي تم اعتمادها لم تكن مجرد تصحيح كلمة بل بناء مفهوم وموقف وحياة تخصّنا كلّنا كبشر على اختلافنا، فباتت المادّة الأولى تنصّ على: "يولد جميع الناس (أو البشر) أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق..."، ولم تشأ السيدة ميهتا أن تستبدلها بعبارة "يولد الرجال والنساء"، لكونها تنظر إلى المساواة بين الإنسان والإنسان ولجميع الناس، وهي تلميذة غاندي المؤمنة بثقافة اللاعنف.

المرأة الثانية، وهي ممثلة باكستان، السيدة بيغوم إكرام الله الرائدة في مجتمعها وزمنها، انتفضت للأحوال الشخصية للمرأة في المادة 16 من الإعلان، بإرادة قوية لرفع سنّ الزواج، وجعل الحقوق متساوية خلال الزواج وما بعده كمعيار عالمي فوق التقاليد والأنظمة الضيّقة. طرحت البديل، وتم اعتماده، لتصبح المادة وفق ما بتنا نعرف على النحو الآتي: "للرجل والمرأة، متى أدركا سنَّ البلوغ (في الإعلان( full age  حقُّ التزوُّج وتأسيس أسرة، دون أيّ قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين. وهما متساويان في الحقوق لدى التزوُّج وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله. ولا يُعقَد الزواج إلّا برضى الطرفين المزمع زواجهما رضاءً كاملاً لا إكراه فيه".

 

يحق لهما، العزيزة ميهتا والعزيزة إكرام الله، أن نتذكرهما اليوم، وأن نهنئ أنفسنا بحضور نساء منذ ذاك الزمن بهذا الصفاء وعدم المساومة في الكلمة كما هي وفي الحق كما هو. والجدير ذكره، أنّ أنجيلا جرداق من ضهور الشوير، وكانت عضوة في البعثة الديبلوماسية اللبنانية وفي لجنة المرأة في الأمم المتحدة، شاركت وأيّدت هذه التعديلات في اجتماعات مباشرة مع هنسا وبيغوم ونساء جريئات من بلدان أخرى.

 

نحن نحتفل إذاً بإنجاز، وبما قدمته النساء هدية حق للأمم كافة. فمتى سنحتفل في لبنان، المتقدم في صِلاته بحقوق الإنسان العالمية منذ صياغتها الأولى، بالمساواة والحرية العميقتين بين النساء والرجال، كما المساواة بين النساء اللبنانيات اللواتي فرزتهن الأنظمة الطوائفية مجتمعات وأجزاءً؟ تقدمنا في لبنان في حقوق المرأة لكن ببطء. لدينا الفكر والريادة والنضال والنماذج الحرّة لأفراد أحرار نساءً ورجالاً، ولبعض الهيئات والحملات المدنية، فما العمل إذاً؟ وما لنا متأخرون في العدالة الحقوقية والأخلاقية وفي والأحوال الشخصية بالذات؟

 

نلفّ وندور والمطلوب واحد

 

إذا كان هناك من هزيمة للمرأة في لبنان فهي على يد الأحوال الشخصية، معطوفة على التربية السلطوية والتقليدية المقيدة لها منذ بداية الطريق. يمكنها أن تنتَخب وتُنتخب، أن تعمل، أن تحصّل العلم والشهادات، أن تؤسس الجمعيات، أن تكون وزيرة ونائباً وقاضية ومديرة ورمز ثورة إلخ... وفي الوقت عينه، يمكن إخضاعها ويكون منزلها بيتاً للطاعة وممارسة سلطة عليا عليها، وسحب حقوقها وكرامتها وحريتها بموجب قوانين الأحوال الشخصية للطوائف. في لحظة واحدة تصبح وكأنها في أدنى صورة لها في الحياة.

 

القانون المدني للأحوال الشخصية هو المطلب الأساس لها، للعدالة واللاعنف واللاتمييز بينها وبين الرجل، كما بينها وبين المرأة في هذا المجتمع المُجزَّأ. وهو المطلب الأساس للعائلة وللأطفال. وهو في صميمه، مطلب أساس للرجل، لإنقاذه من العنف والذكورية والسلطوية التي سجنته التقاليد والقوانين والمصالح بين قضبانها، حتى ضد نفسه وبوجه من يحب وفي قلب عائلته وأحياناً باسم الدين! باتت الحاجة أكثر من ملحّة لإعلان "حالة طوارئ للعائلة في لبنان"، في سائر المناطق والانتماءات، إزاء ما تعانيه يومياً من عنف وانتهاكات و"حرقة قلب" وتفكك، بسبب أنظمة الطوائف للأحوال الشخصية، وآليات وممارسات في المحاكم على اختلافها ولو تفاوت الوضع في ما بينها.

 

ممنوع العنف في العائلة، وممنوع السماح به أو غض النظر عنه، ولا سيما أنه، في مؤسسة الزواج كما هي عليه، يقع أكثر ما يكون على المرأة وعلى الطفل.

 

إنها القضية الأولى للمرأة في لبنان، ومعها سيكون الخرق الجذري الأول لبنية النظام الطائفي ككل. وقد تم إعلان انتهاء هذا النظام وفشله وخطورة الاستمرار به مع الذكرى المئوية الأولى له. فإما أن تنتصر المواطَنة، وإما أن تنتصر الطائفية. وحين يكون القانون ظالماً أو مغيباً، يغدو العصيان واجباً كحق من حقوق الإنسان.

 

لا ننسى، القانون الأعلى هو الضمير. وكم هو رائع أن يكون العبور إلى اللاطائفية من بوابة إنصاف المرأة ومدنية الأحوال الشخصية!

 

والرائع في الأمر أننا اليوم في أجواء انتفاضة، ولم نعد في مرحلة أولى في هذه القضية. كما لم نعد بحاجة إلى صياغة مشروع قانون، فالمشروع منجز ومدرَج في المجلس النيابي، ويبقى أن نبني استراتيجية مواجهة مبدعة لإحقاقه.

ويسعدني أني أسهمت في بلوغنا هذا الإنجاز، وبلورت مشروع قانون شامل (244 مادة)  لكل اللبنانيات واللبنانيين، هو خلاصة وطنية لحملة مدنية عارمة، أثمرت بشكل غير مسبوق إدراج اقتراح القانون على جدول أعمال اللجان النيابية المشتركة. وللمصادفة، كنا صباحاً في جريدة "النهار" يوم الـ 17 من تشرين الأول 2019، نطلق الحملة من جديد لإقرار القانون، وظهراً في المجلس النيابي لإعادة إحيائه وترتيب الآلية. وكما تعلمون، انطلقت شرارة الانتفاضة عصر ذاك اليوم، وبدل أن تكون "المانشيت" للأحوال الشخصية وبزخم جديد احتلت الانتفاضة العناوين. وهذا خير، ويكون خيراً أكثر إذا تكاتفنا بروحية ثورة مشتركة لوضع خاتمة سعيدة وجبّارة للأحوال الشخصية في لبنان. وبرأيي، الفرصة مواتية تماماً لإقرار القانون المدني عكس ما يعتقده آخرون. فالموضوع بيدنا، مهما علا شأن الرافضين، ومهما تكن الأولويات المفروضة على البلد، ومهما تكن همومنا الأخرى المحقة، التي سيستمر النضال من أجلها بالتكامل، فما من حق يعرقل آخر.

 

العنف

 

تقول فيلسوفة اللاعنف سيمون فايل: "العنف هو ما يجعل كلّ مَن يخضع له، شيئاً". يضربه، يذلّه، يدميه، يقذفه، يحقره، يغلفه ويلفلفه، يطمسه، يشوهه، يجمله اصطناعياً، يسمح لنفسه بمدّ يده وأدواته على كامل كيانه، يتلاعب به نفساً وجسداً، يستخدمه، يغسل عقله، يسلبه اللذة... إنسان يصبح غرضاً بتصرف شخص آخر لإنزال رغباته وإرادته وأحكامه عليه". وتضيف فايل: "حين يمارس العنف حتى النهاية، يجعل الإنسان شيئاً بالمعنى الأكثر حرفية، يجعله جثة". وبما أنّ هناك أنواع عنف غير القتل المباشر، أكثر تنوعاً بكثير من حيث الأساليب وإذهالاً من حيث النتائج، فهي إذاً "العنف الذي يقتل، لكنه لا يقتل كلياً بعد". وهل هذا غير ما تعيشه فتيات ونساء هنا وهناك، كل يوم، لا مجرد صدفة! فإلى متى نرتضي أن نحول المرأة إلى شيء، بتعنيفها بالمعنى الفظّ - القتل، أو بالمعاني الأكثر تنوعاً وفنوناً التي تقتل الروح والعقل والكرامة والحقوق قبل أن تقتل بالكامل؟ ولأنّ العنف يدمّر إنسانية الذي يمارسه وإنسانية الذي يقع عليه على حد سواء، فنحن أمام نساء ورجال يدورون في حلقة عنف تصيب الاثنين معاً، وإن كانت النتيجة أقسى على المظلوم منها على الظالم، وبدون مقارنة بين الاثنين بطبيعة الحال.

 

ولأنّ قوة الذات هي مفتاح القوة في أيّ أمر آخر، والقوة غير العنف بالتأكيد، بالي مشغول على نساء منهنّ بالذات. الألم يجرّني إلى البعيد كلما لمحت إحداهنّ تمارس الطاعة والتبعية وتغييب الذات أو تقليد الرجل في مساوئه العنفية والمتسلطة، متوهمة أنها تمارس خياراتها الحرّة، أو تراها تمارس لعبة التوهم هذه لستر الإهانة، فأرى أسوأ أنواع العنف أمامي، وعنفه المضاعف أنه يتم بفضل تعاون المظلوم مع من يظلمه أو سكوته عنه.

 

منذ أكثر من 470 سنة، كتب لنا المفكر إتيان دو لا بُويسي نصاً دخل التاريخ، وبات في أساس الفلسفة السياسية للسلطة والطاعة، تحت عنوان "الطاعة الإرادية" أي خضوع الإنسان من ذاته للسلطة المتحكمة به؛ قال: "اعمل على أن لا تطيع وتخضع، فتبدأ بأن تكون إنساناً وحراً".

 

وأنت أيتها المرأة العزيزة المتألمة، التي عملوا على تحوير الأنا الأصيلة الحقيقية بداخلك، باشري بنفسك بخرق هذا الغبار الكثيف من عادات الطاعة والتبعية وحراسة التقاليد المقيدة والسالبة للسعادة أو من تقليد الرجل في عنفه وسلطويته، كي تعودي إنسانة وحرّة قبل أيّ حق آخر من حقوقك الكثيرة المهدورة. لن يقوم أحد بذلك إلّا أنت. فالظلم مسؤولية مزدوجة، مسؤولية الظالم الذي يرتكبه، ومسؤولية المظلوم الذي يقبل به.

 

وبهذه المناسبة السنوية، أتمنى لك قوة الذات أولاً، وسنصل إلى يوم لا نصنّف فيه البشر رجلاً وامرأة بل إنساناً وإنسانة، بحبّ وعدالة.

 

*من روّاد العمل المدني؛ مؤسسة جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم