قصة نضال لا تنتهي... عيد بأيّة حَال عدتَ يا عيدُ؟

د. منية العلمي
 
قصّة نضال، هو العنوان الثاني الذي فكّرت به لأجل هذا المقال. ذلك أنّ تاريخ الثامن من آذار/ مارس، الذي أصبح تاريخ عيد النساء في كافّة دول العام، هو في الحقيقة تاريخ للتذكير، للالتزام، وللثبات. التذكير بأنّ نضال النساء للمطالبات بحقوقهنّ في العدالة والمساواة والحرية والسلام، هو نضال له تاريخ مؤسَّس يعود إلى ما يزيد عن قرن من الزمن. وهو تاريخ يحظى بصفة الإجماع الدولي، بعد قصّة نضال عرفت محطات كما عثرات متعددة. وهو نضال عابر للعقود الزمنية، وعابر للقارّات وللحدود، وعابر للألوان وللّغات، ولكافة الفروق العرقية، الثقافية، الاقتصادية، والسياسية بين النساء. ذلك أنّ المرأة، وفي كافة أرجاء الأرض، هي سفيرة للعدالة والسلام، تهزّها المظالم، وتزعجها الفوارق، وترهقها الحاجة وعدم الاكتفاء. لذلك نجدها في صدارة القضايا العادلة، عنواناً للبذل والتضحية والعطاء. 
 
لعلّ طبيعة مطلبيّتها المؤسسة لاحتفالية عيد النساء خير شاهد على ذلك. ففي التاريخ البعيد لليونان، قادت "ليسستراتا" إضراباً عن الجنس ضدّ الرجال، من أجل الدفع بهم نحو إنهاء الحرب وإحلال السلام. وخلال الثورة الفرنسية، نظّمت نساء باريس مسيرة إلى قصر" فرساي" مطالبات بحقهنّ في الاقتراع. وكانت فكرة "يوم المرأة الدولي" وليدة وعي النساء بانعكاسات التحوّلات التي شهدها العالم في بداية القرن المنصرم نتيجة توسّع العالم الصناعي، والنموّ السكاني، وظهور الأيديولوجيات الراديكالية، وما خلّفه كلّ ذلك من اضطرابات اقتصادية واجتماعية، لامس تأثيرها كلّ دول العالم. ما دفع بعاملات النسيج سنة 1908 للخروج مرّة أخرى للتظاهر في شوارع نيويورك، مطالبات بخفض ساعات العمل، ووقف تشغيل الأطفال، ومنح النساء حق الاقتراع، وشعارهنّ "خبز وورود". 
 
وإثر ذلك سنة 1910، قررت الاشتراكية الدولية المجتمعة في مؤتمر كوبنهاغن/ الدنمارك، الذي شاركت فيه أكثر من مئة امرأة من سبع عشرة دولة، إعلان يوم المرأة لأول مرة في تاريخ النساء. ولم يقع تحديد تاريخ له، وذلك تكريماً للحركة الداعية لحقوق المرأة، ولدفع المجتمع الدولي نحو المصادقة على حقّها في الاقتراع. وتفعيلاً لذلك القرار، احتُفل بعيد المرأة لأول مرة بتاريخ 19 آذار/ مارس 1911 في كلّ من النمسا، سويسرا، الدنمارك وألمانيا. وشارك في تلك الاحتفالات أكثر من مليون امرأة، تركّزت مطالبهنّ على الحقّ في التصويت، وعدم التمييز في العمل. 
 
وبعد عقود من تلك المحطّات، التي تبعتها بلا شكّ مسيرة طويلة ومتفرّقة في العديد من دول العالم بمختلف أشكال نضال النساء، أصدرت الأمم المتحدة قراراً يدعو كافة دول العالم إلى اعتماد يوم من كلّ سنة للاحتفال بالنساء، فكان 8 آذار/ مارس باتفاق غالبية الدول. وتحوّل بعد ذلك تاريخاً للاحتفال بنضال المرأة، ومناسبة عالمية لتأكيد استمراره والثبات عليه، ومناسبة كذلك لتعزيز المكاسب وتجديد المطالبة بالحقوق والحريات.
 
ومثله ميثاق الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو سنة 1945، أول اتفاق دولي يعلن المساواة بين الجنسين كحق أساسي من حقوق الإنسان. إذ وضعت المنظمة لأجل ذلك مجموعة من الاستراتيجيات والأهداف لأجل النهوض بوضع النساء في كافة الدول. وذلك من خلال تعزيز التدابير القانونية، وحشد الرأي العام، والتدريب والأبحاث، والعمل الدولي خاصّة. ورغم مصادقة غالبية تلك الدول على المعاهدات والمواثيق في هذا الغرض، وسعيها لتكريس مضامينها في دساتيرها، لم تنجح غالبية تلك التشريعات إلى اليوم بعد في تحوّلها إلى سلوكات مجتمعية، وإلى قناعات رسمية. نلمس ذلك خاصّة في دولنا العربية الإسلامية. إذ برغم ترسانة التشريعات لفائدة النساء، الهادفة لصيانتهنّ وحفظ حقوقهنّ وكرامتهنّ وخصوصاً بعد الثورات العربية، إلّا أنّ الوضع الميداني غير الوضع الحقوقي النصّي. فحالات العنف ضد المرأة في ازدياد، مع اعتبار جائحة كورونا وتداعياتها، التي تصفها الأمم المتحدة بجائحة الظلّ الموازية لجائحة كورونا. كذلك غياب المرأة عن مواقع صناعة القرار لافت، فمع نجاحاتها العلمية والحقوقية والاقتصادية، ومع كونها خزّاناً انتخابياً فاعلاً للعديد من الأحزاب والنقابات، تكاد التعيينات السيادية للنساء تكون تشريفية وثانوية. فحكومات العالم العربي كما برلماناته، تخلو من مبدأ التناصف بين النساء والرجال.
 
هذا إلى جانب معضلة التنمية، التي غدا انخراط المرأة فيها انخراطاً ضرورياً، بالنظر إلى التحديات التي تواجه المجتمعات الإنسانية. فمجتمعات جنوب شرق آسيا مثلاً، التي انصهرت في تجربتها الإنمائية الرائدة بفضل رهانها على ثروتها البشرية، أدركت أنه لا مجال لأيّ نماء من دون التعويل على تلكم الثروة (نساءً ورجالاً). ما يؤكد استحقاقات الفعل النسوي في مجال التنمية، بما هو استحقاق وُلد من رحم التغيرات السياسية، والاقتصادية، وبخاصّة في المنطقة العربية الإسلامية، رغم الكمّ الهائل من العراقيل لذلك الفعل، وأبرزها التمييز بين الجنسين. وذلك في إطار الذهنية المجتمعية القائمة على رصيد هائل من الموانع الفطرية، والموانع الكسبية العائدة في أساسها إلى مقولات جندرية، لا تزال المجتمعات العربية والإسلامية بالخصوص ترزح تحت وزرها. 
 
إنّ احتفالية النساء هي بالأساس احتفالية لتجديد الوعي، وتجديد الالتزام بمطالب الاحتجاجات العُمّالية، التي ترجع إليها جذور هذه الاحتفالية. مع ما أضيف إليها من حقّ في الكرامة، والحرية، والمساواة، التي يؤكّدها الإعلان التاريخي، الذي اعتمدته الجمعية العامّة للأمم المتحدة في 10 كانون الأول/ ديسمبر 1948، وفيه "يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق"، وأنّ "لكلّ إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين... أو المولد، أو أيّ وضع آخر".
 
وحتى لا يكون شعار النساء في عيدهن "عيد بأيّة حال عدت يا عيد؟"، من الضروري التذكير بأهمية الاشتغال على إزاحة العراقيل المانعة من تغيير الممارسة المجتمعية في حقّ النساء. وذلك من خلال مراجعة الخطاب الإعلامي، ودعوته ليكون شريكاً فاعلاً في نضالاتهنّ. كذلك الضغط على الحكومات لمراجعة البرامج التعليمية، ووضع استراتيجية فاعلة لمناهج تثير الأسئلة وتنقد المسلّمات، وتناشد المعرفة وترتقي بالوعي. إلى جانب ضرورة إحداث نهج جديد من الفكر الإسلامي، وبخاصّة في البلدان العربية الإسلامية. فكر مؤسّس على المنحى الإنساني والقيمي، الذي أرادته الشريعة الحقّة لا تشريع البشر. ولا يمكن لذلك أن يتحقق إلّا من داخل العملية التربوية. هذا بالإضافة إلى ضرورة تكوين الناشئة على مبادئ حقوق الإنسان، فتدريس حقوق الإنسان يعني تأسيس هذه الحقوق قِيماً على مستوى الوعي والوجدان والمشاعر، وسلوكاتٍ عمليةً على مستوى الممارسة. 
 
وفي الأثناء، وبرغم الجهود المبذولة من كافة المعنيين الدَوليين، لا تزال المرأة تتعرّض لأبشع أنواع التنكيل الجسدي والنفسي كما الاقتصادي والثقافي، بملاحظة تزايد عدد جرائم الاغتصاب وجرائم الشرف، والعنف المنزلي. ومن خلال تزويج القاصرات، وغياب حق اختيار الزوج، وحق الرغبة في الانفصال، والحق في السفر. وذلك ما تكشفه الأرقام في جزء كبير من دولنا العربية الإسلامية، المصادقة على الاتفاقيات الدولية المناهضة للعنف ضد النساء. ولا يزال ملفّ الأمهات العازبات في تلك الدول، يبحث عن تشريع يحترم ذواتهنّ وذوات أطفالهنّ. 
 
فلنا أن نقول: عيد بأيّة حال عدت يا عيد؟؟ ولنا أن نقول كذلك: إنها قصّة نضال لا ولن تنتهي!
 
*أستاذة جامعية تونسية، مهتمّة بقضايا المرأة