الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

على هامش الأديان... والتسامح

المصدر: "النهار"
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-
محمد عبدالله فضل الله
أكاديمي وحوزوي
 
نشرت جريدة  النهار مقالة تحت عنوان "على هامش فكر المرحوم الدكتور بولس الخوري" لسيادة المطران كيريللس سليم بسترس تاريخ الجمعة ٢٦ تشرين الثاني، وتعقيبًا نقول:
 
لا مجال لاحتكار الحقيقة لأنها عصيّة حتى على الفهم الديني الضيّق؛ فلغتها متدفّقة جارية مجرى الزمن، تحاول تجذير حضورها بمقدار حضور وعي طالبيها، وبمقدار تغلّبها على زمن البشر الممتلىء بالأنانيّات والأهواء.
 
الأديان في جوهرها لا تتقبّل الخضوع لأشكال فقهيّة وعقيديّة فارغة من حبّ الحقيقة والبحث وصولاً إلى محاولة تشرّب لغة الله واكتناه معانيها التي تتساوق لحظويًا مع مدى تيّقظ الفرد وسعيه للتفاعل مع زمان الله الخالد. 
 
ترى آليّات التلبيس لا تزال مزدهرة في كلّ الحقب التاريخية إلى يومنا هذا، أي إلباس الحق بالباطل ورمي الآخر بالتهم؛ فالمقاوم الشريف إرهابي، ومن ليس على ملّتي فهو كافر، والباحث عن حقيقة مشتبِه متزعزع الإيمان إلى غير ذلك من المصطلحات المتلبسة بواقعنا.
 
في جميع الأديان قبسٌ من نور الحقيقة ما دام الإنسان يفعّل آليات حواسه ووعيه بما يجعل من هذا القبس مشتعلًا على الدوام.
 
يتابع سيادته في مقالته: ".. يجوز للمسيحيّ أن يصيرَ مسلمًا وللمسلم أن يصيرَ مسيحيًّا، في حين أنّ سائر الدول العربيّة لا تزال تسمح بالانتقال من المسيحيّة إلى الإسلام، وتُحرِّم الانتقال من الإسلام إلى المسيحيّة.
 
ولا يزال قائمًا في فكر معظم المسلمين الحديث الشريف القائل: "مَن ارتدّ منكم عن دينه فاقتلوه". ، ....لا يمكنني أن أحتمل أنّ الدول العربيّة لا تزال تحافظ على هذا المبدأ القاتل المتحيِّز الذي يسمح للمسيحيّين بالانتقال إلى الإسلام ويحرِّم على المسلمين الانتقال إلى المسيحيّة، ومع ذلك يفتخرون بأنّ الإسلام هو دين "التسامح".
 
فهل القضية ميكانيكيّة حسابية بأن ينتقل هذا الكمّ البشريّ إلى هذه الديانة أو تلك؟ فيما المطلوب تجذير لغة الحوار من قبل الجميع مسلمين ومسيحيين وحتى مع اليهود والملاحدة فهذا منطق القرآن والإنجيل.
 
فقهيًّا قتل المرتد المليّ منه والفطري لا بدّ أن يكون من قبل سلطة إمام مبسوط اليد في ظلّ دولة إسلامية، ولا يُقام عليه الحدّ إلا بعد أن تُقام عليه الحجّة والبرهان، ويكون ذلك بمناقشة العلماء له، بما يكون قد علِقَ في ذهنه من الشّبهات، فإن بقي على عناده، أُقيم عليه الحدّ عندئذٍ، ورأينا كيف قامت بعض الحركات بقتل الآلاف من المخالفين في العقيدة والمذهب من التكفير السلجوقيّ إلى ابن تيمية إلى ابن عبد الوهاب وصولاً إلى المغرب العربي مع ابن تومرت وقتله الآلاف من مخالفيه إلى ما قامت به مؤخّرًا الجماعات التكفيرية، ناهيك عن الكتب في تكفير بعضنا البعض. أمّا مسيحيًّا فلا ننسى محاكم التفتيش والفرمانات البابوبة بقتل الآلاف وحرقهم في القرون الوسطى لمجرّد نعتهم بالمهرطقة ومخالفتهم تعاليم الكنيسة، فهل نقول بأنّ المسيحية بالمطلق دينٌ غير متسامح كما الإسلام بالمطلق غير متسامح؟!
 
هذه التصرّفات المتوحّشة ذات المنطلقات السياسية تشابكت مع حسّ مصلحيّ بالغ الأنانية في أوج لحظات هوجاء بالمعارك السياسية والعقيدية، التي انسحبت على مجمل الحياة، ولم تتورّع عن استباحة الدماء والأعراض والأموال والحرمات. فهل كلّ ذلك يمثل جوهر المسيحية والإسلام؟
 
نعود إلى موضوع الردّة التي ذكرت في القرآن الكريم مع عدم الإشارة إلى حكم قتل المرتد، بل التنبيه على عقوبة المرتد في الآخرة جراء تركه للهداية:{مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}(المائدة:54).
 
أما الآية:{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}(البقرة:256) فقد فُسّرت بعدم الإكراه على أصل الدخول في دينٍ من الأديان. فالقرآن يعطي الحرية للناس في الاعتقاد، فإن المرتدّ لو ارتدّ، ولم يُظهر ارتداده فحسابه على الله تعالى وليس على يد عموم الناس؛ مع ذلك قد تساعدنا الآية على التوسعة في الفهم والاجتهاد أكثر للمسائل. 
يوجد روايات عن قتل المرتدّ، ولعلَّ أكثرها شهرةً، حديث وارد عن النبيّ: "من بدّل دينه فاقتلوه".
 
لكن هذا الحديث من جملة الأحاديث المنسوبة إلى الرَّسول (ص)، ويقول الحديث إنَّ عليّاً أحرق قوماً، فبلغ ذلك ابن عبّاس، فقال: "لو كنت مكانه لما أحرقتهم، لأنَّ النبيّ(ص) يقول: لا يعذّب بالنّار إلا ربّ النّار، ولكنتُ قتلتهم ـ بدل الإحراق ـ لأنّ النبيّ (ص) يقول: "من بدّل دينه فاقتلوه".
 
والحديث غير تامّ، لأنَّ سند الحديث محلّ إشكال، كما أنّ مضمون الحديث لا يُمكن القبول به، فلم يثبت أنَّ الإمام أحرق أحداً من النّاس. أجل، هناك روايات أخرى عند السنَّة والشّيعة في قتل المرتدّ، بأجمعها، لا تخلو من إشكالات، إمّا في السَّند وإمّا في الدَّلالة.
 
لنا أن نتساءل عن طبيعة هذه الحدود، وتحديداً حدّ الردّة، أهي عقوبات تدبيريَّة أم حكم تشريعيّ مستمرّ؟ 
 
لا مهربَ من إعادة النظر، وفتح باب الاجتهاد في نصوص العقوبات والحقوق، ومنها حكم المرتد-كما فعل السيد المرجع السيد عبد الكريم الأردبيلي "رض"- والرجم والقصاص بشكل هادىء وعميق بين العلماء بما ينسجم مع روحيّة الدين، التي جاءت للإنسان ولصالحه لا عليه؛ فكيف تدعوه إلى الارتقاء إلى لغة المطلق، ثمّ تتسلّط عليه بشكل أو بآخر، فذلك مما يتنافى مع غائية الدين.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم