تأملات عن بُعد حول التيار العلماني الطالبي في الجامعات الخاصة

أنا بعيد اليوم بعض الشيء عن جو الجامعات، واستقي معلوماتي عنها من بعض الاصدقاء، اساتذة وطلابا، وكذلك من الصحف. وبالرغم من إنتمائي الى الانتفاضة التي شكل الشباب والطلاب نواتها الصلبة، الا اني، وحرصا مني على الموضوعية العلمية، افضّل ان اعتبر ما اكتبه في هذا النص "تأملات عن بعد"، لعدم قدرتي على المعاينة المباشرة لحقيقة ما يجري في الجامعات.

لا تطال "التأملات" مباشرة، ظاهرة انتصار او تقدم التيار الطالبي العلماني، في الانتخابات الطالبية في اربع جامعات خاصة: الجامعة الاميركية، الجامعة الاميركية اللبنانية، الجامعة اليسوعية وجامعة الحريري. ربما أتطرق الى هذه المسألة عندما تتوفر لي معطيات إحصائية وسوسيوغرافية حول الظاهرة، تسمح بمقاربتها سوسيولوجيا ومقارنتها مع نتائج الانتخابات السابقة.

ما يعنيني أكثر هنا هو الاتجاه "العلماني" لهذا التيار وما يمكن ان تدل عليه التسمية بالنسبة للطلاب وللواقع السياسي العام في لبنان. مع التأكيد انه لا يمكننا بعد، تعميم هذا الاتجاه على كل الجامعات اللبنانية، خاصة على الجامعة اللبنانية التي تضم نصف طلاب لبنان القادم معظمهم من فئات شعبية. وقد شهدت الجامعة اللبنانية في السنوات الاخيرة هيمنة احزاب مذهبية في الكثير من فروعها.

ينتظم التيار الطالبي العلماني في نوادٍ جامعية، في إطار شبكة "مدى". وإذا كانت النوادي في المجتمع لا تقتصر على جمهور شبابي، فإنها تشير الى نوع من الانشطة التي تدمج بين الحركة الجسدية والفكرية، الرياضية والثقافية والفنية بشكل خاص.

للنوادي تاريخ في لبنان، في القرى والمدن، وهي جمعيات تجمع بشكل عام المواطنين على اسس غير حزبية او سياسية. لكنها في فترة الحرب راحت تلعب دورا إضافيا ولو تحت مسميات مختلفة. فقد كانت ملجأً للخارجين عن الميليشيات ومكانا للتفلت من حملات التأطير التي كانت تقوم بها في مناطقها "الصافية" او المصفّاة سياسيا. عندما انعدمت السياسة برزت النوادي كإطار بديل للاستمرار في تبادل الافكار والآراء بعيدا من الرقابة الميليشيوية.

تشبه وظائف النوادي الجامعية العلمانية، بعضا من وظائف هذه النوادي اللاحزبية ابان الحرب، حيث انها من جهة، ملتقى لطلاب لا ينتمون الى الاحزاب المهيمنة على الحياة اللبنانية وفي الجامعة، ومن جهة ثانية مختبر لإنتاج اتجاهات فكرية وسياسية مستقلة عن هذه الاحزاب.

وإذا كانت هذه النوادي قد ارتضت تسمية نفسها بالعلمانية، كهوية سياسية لها مختلفة جذريا عن هوية الاحزاب السياسية الاخرى ذات الاتجاهات المذهبية او الطائفية، فإن من اللافت انها وفي حملاتها الانتخابية، اختارت عنوانا بدا اقرب الى "الحيادية" السياسية. فجاءت حملة النادي العلماني في الجامعة الاميركية تحت عنوان "الخيار الجامعي"، فيما نُظمت حملة النادي العلماني في الجامعة اليسوعية تحت عنوان "طالب".

لا اعتقد ان ما توخاه الطلاب من وراء رفع مثل هذه العناوين "الحيادية"، هو فقط استقطاب الطلاب غير الحزبيين المعنيين فقط بحياتهم الجامعية. بل ان المقصود هو سياسي: القول للاحزاب السياسية وللطلاب ان "مصلحة الطلاب والجامعة"، هي التي يجب ان تملي على الطلاب توجهاتهم وليس المصلحة الحزبية في الجامعة. انه موقف ضد الإملاءات الحزبية الفوقية المعتادة التي لا علاقة لها بمصالح الطلاب.

أكثر من ذلك، إن الانطلاق من "الموقع الطالبي" او من "الخيار الجامعي" لتحديد الموقف السياسي، هو الذي يرفد التوجه العلماني بأحد مصادره، الا وهو العلم وقيمه، والرجوع اليه وليس الى المعتقدات الدينية مثلا، لمعرفة العالم وإدارة شؤونه.

اقول ذلك بعد ان بدا واضحا ان النوادي العلمانية كانت حريصة على الوضوح لناحية هويتها العلمانية وما يترتب عليها من مواقف غير مهادنة في الكثير من القضايا التي ينقسم حولها الطلاب. وهي لم تحاول ابتكار مفاهيم "توفيقية"، توخيا لإرضاء هذا الفريق السياسي وذاك، او عدم إزعاجه.

فعلمانية الطلاب هي ثقافية-اجتماعية- سياسية، وبدون مواربة. وقد عبّر عن ذلك بوضوح ممثل النادي العلماني في اليسوعية عندما قال في مؤتمره الصحافي بعد الانتخابات: "نريد دولة علمانية ديموقراطية تعاملنا كمواطنين وليس رعايا طوائف. دولة العدالة الاجتماعية التي تؤمن للجميع السكن والتعليم والصحة، تنهي كل الممارسات العنصرية ضد اللاجئين والعمال المهاجرين، لا مركزية تؤمن الانماء وفرص عمل وحياة كريمة لاهل الشمال والجنوب والبقاع، تنهي النظام الابوي وتعطي النساء كل حقوقهن، تساوي الكل بقوانين مدنية للاحوال الشخصية، تحاسب المجرم والفساد وليس عصابة تحمي بعضها لتنهب على اشلاء شعبها. دولة تحمينا كلنا، وتدافع عنا كلنا، بلا ميليشيات ولا عصابات".

علمانية الطلاب، في السياسة، لا تفصل نفسها عن شرط الحرية والديموقراطية، كما في بعض الانظمة العربية، مثل سوريا. وهي لا تستقل عن جذرها الثقافي الحقوقي، المبني على الاعتراف بحقوق الانسان، ولا سيما حقوق الفئات المهمشة، من مثل النساء واللاجئين والعمال المهاجرين. ولا تتنكر لأرضيتها المجتعية المتمثلة بالقوانين المدنية للاحوال الشخصية المستندة الى حقوق الانسان والتي تساوي بين المواطنين.

لعلمانية الطلاب ابعاد اجتماعية أيضا، غير منفصلة عن المشكلات الاجتماعية الحادة التي يعيشها اللبنانيون، من غلاء وفقر وبطالة. فالدولة العلمانية يجب ان تكون "دولة العدالة الاجتماعية"، تؤمن الاحتياجات الاساسية للمواطنين. مع العلم ان هذا البعد الاجتماعي لم تكتسبه العلمانية الغربية في بداية نشأتها على يد البورجوازية، لكنها في الواقع اللبناني تبدو ملازمة للعلمانية، التي وهي تتحرر من الطائفية، انما تتحرر أيضا من ابرز عوامل الازمة الاقتصادية والاجتماعية. وربما ادرك الطلاب ان علمانية بدون عدالة اجتماعية ومع استمرار الفقر والبطالة وانهيار الطبقة الوسطى، تفقد ديموقراطيتها وتتحول بسرعة، وبحسب التجارب العالمية، الى دولة مركزية مستبدة وربما دينية. هذه المسائل ستكون مطروحة بإلحاح على الطلاب لدى تخرجهم ودخولهم في ميدان العمل، لذلك تكتسب بالنسبة إليهم اهمية قصوى.

اللامركزية تلبي أيضا بالنسبة إلى الطلاب حاجة اجتماعية، اذ تلعب دورا إنمائيا في المناطق الطرفية، كما قال ممثلهم في مؤتمره الصحافي. لا أدري اذا كان الطلاب مدركين للدور الآخر لللامركزية، المتعلق مباشرة بالعلمانية. فهي من جهة تساهم في التخفيف من الاحتقانات والمواجهات المذهبية والطائفية. ومن جهة ثانية تفتح الباب لصراع لامركزي مع النظام الطائفي.

فإذا كان الطرح العلماني على المستوى المركزي يلقى ممانعة مذهبية وطائفية، بالتكافل والتضامن بين احزاب السلطة والمرجعيات الدينية، التي تتحجج بعضها ببعض، فإني افترض ان قيام محاولات لامركزية تطرح العلمانية في وجه القوى الحزبية والدينية في بعض المناطق ذات الصفة المذهبية او الطائفية، قد يساعد على فكفكة التحالف المركزي للقوى الممانعة، ويضع بعضها في مواجهة مباشرة مع بيئاتها، ويحرمها التحجج بموقف القوى الممانعة الاخرى. وقد أعطت الانتفاضة الارض التنظيمية لهذه المحاولات اللامركزية، من خلال تنظيمها اللامركزي العفوي في الساحات والمناطق.

علمانية الطلاب كما يريدونها، تحمل ايضا ابعادا سيادية، لا يستوي مفهوم الدولة العلمانية من دونها. فهم يطالبون بـ"دولة تحمينا كلنا" وليس بعضنا، "بلا ميليشيات ولا عصابات"، هذه "الميليشيات التي تفرض نفسها داخل الحدود وخارجها"، كما صرح احدهم لصحيفة محلية.

يبقى ان الموقف من سيادة الدولة على اراضيها ليس واضحا بما يتعلق بسلاح "حزب الله". وليس واضحا أيضا اذا كان الطلاب يعتبرون "حزب الله" إحدى هذه الميليشيات التي انتقدوها.

ليس مطلوبا من حركة طالبية ان تطرح برنامجا سياسيا كما تفعل الاحزاب وان تكون لها مواقف واضحة وقاطعة بالنسبة إلى كل القضايا الخارجة عن اهتمامات الطلاب المباشرة. ولم أكن لأسأل عن الوضوح بالنسبة إلى سيادة الدولة، لو لم يطرح الطلاب العلمانية كأفق لحركتهم.

فالعلمانية لا تُطرح في وضعنا الحالي كحل لتجاوز نظامنا الطائفي. فهو لم يعد طائفيا بل بات مذهبيا، في إطار نظام مذهبي اوسع، يضم سوريا والعراق الى جانب لبنان، وتتحكم به ايران وحلفاؤها بقوة السلاح. من بين هؤلاء الحلفاء "حزب الله"، صاحب النفوذ السياسي الاكبر في لبنان. في هذا السياق لا يصلح اي كلام عن العلمانية كنظام لتجاوز المذهبية والطائفية، دون التطرق الى سلاح "حزب الله".

ابعد من ذلك، لا تقتصر مشكلة العلمانية مع "حزب الله" كونه يمتلك سلاحا يحد من الديموقراطية في البلاد، التي هي شرط العلمانية. مشكلتها الاساسية مع "حزب الله" هي في انه حزب ديني. وهذا ما يطال اساس تكوينه وليس سلاحه فحسب. فهل تفترض العلمانية، التي تطالب بفصل الدين عن الدولة، حل "حزب الله"، وكيف يكون ذلك طالما هو يتحكم بمسار ومصير النظام الذي يريد الطلاب تغييره؟

لا اهدف بالطبع من خلال طرح هذا السؤال الى لجم الاندفاعة الشجاعة والجميلة للطلاب، التي ادخلت بعض البهجة والامل الى قلوبنا البائسة. لكني تعلمت منذ ان كنت طالبا، ان السؤال هو طريق التقدم، حتى لو كان الجواب مؤجلا وينتظر طرح اسئلة اخرى، تتبلور مع تطور الحرك الطالبي نفسه.