تحقيق انفجار بيروت... من النار إلى الطارق

المحامي فهمي رشيد كرامي

عندما انفجر مرفأ مدينة بيروت وتحدت أرواح أهلها ودماؤهم مع تراب الوطن، وتحررت من عبودية الأجساد، وهامت في سمائه متغمَّدَةً بلقب الشهادة، تركت لمن بقوا من الأهل والخلان عبئاً ثقيلاً مؤلماً، قوامه إقامة العدل، والاقتصاص من المسببين قبل المرتكبين.
 
وكان هول الفاجعة ضخماً، حتى إن من سلم جسده ونجا مسكنه سارع من كل بقاع لبنان إلى لملمة الجراح، ورفع الأنقاض، وفتح الأبواب للإيواء والإطعام، غير آبهٍ بثقل أزمة اقتصادية أو خطر صحي.
 
أما أهل السلطة، فأتتهم مادة جديدة للتجاذب والتناحر ومحاولة تسخير الدم في تعزيز المواقع السياسية، وإصابة الخصوم إصاباتٍ يخالونَها بليغةً تمهد الدرب للسيطرة على الحكم والتفرد بالقرار. وأُطْلِقَت الوعود بملاحقة الفاعلين والاقتصاص منهم مهما علا شأنهم وقوي نفوذهم، وحُددّت المهل، وشُكلّت لجان للتحقيق، واستَنفرت الأجهزة الأمنية والعسكرية عتادَها وعديدها لتحقيق الوعود.
 
ولكن من حاسب حتى الآن هم أهل الدم، ومن عمل وأنقذ، هم أهل البلد، ومن سارع وانتفض، هم أناس أصبحت الثورة عنوانهم وانعدام الثقة بالسلطة مبدأهم.
 
وأُحيل الملف إلى المجلس العدلي، قبل أن يفهم أولياء الأمر ما إذا كان الانفجار إهمالًا أم قتلًا مقصودًا يستطيع هذا المجلس بما نصت عليه قوانينه أن يُقيم العدل، فميزانه أُقيم للجنايات دون الجنح.
 
ومع ذلك مضينا في تحقيق تولاه محقق عدلي، شُهِدَ له عند التعيين بالنزاهة والمصداقية، لكن مسيرته وما واجهها من تحديات وصعاب، جعلت ما يقوم به عرضة لتجاذب بين أهل السياسة وأهل القانون، وبين أهل الدم وأهل الموقوفين، وككل حدث في لبنان انقسموا بين مهلل ومعيب.
 
ودخل الإعلام بسلطته فخرق سرية التحقيق، وأثقل المحقق بنشر وقائع ملفه على الصفحات والشاشات خلافًا للنصوص، سيان في ذلك من قانون العقوبات المادة 420 والمادة 12 من المرسوم 104/1977 التي حظرت نشر أي معلومة تتعلق بتحقيق جنائي قبل أن يصبح علنيًّا، وصار المراسلون ينقلون حرفية إفادات أدلى بها المستمَعون. علماً أن بعض الإعلام الاستقصائي، سبق التحقيق في سبر أغوار الأحداث، وقدم للتحقيق مواد دسمة كانت له مساعدًا.
 
وحاول التحقيق ضرب الحدود السياسية وتحقيق الآمال بإدانة من جعلتهم الأيام كبارًا بمناصبهم، فوقع في انتقائية غير مبررة بعد أن نشر كتابه إلى المجلس النيابي، الذي شكل هفوة قانونية ما زلنا نسأل عن سببها. فإذا بهؤلاء يلتمسون القانون طريقًا لإزاحة محققٍ سلمهم بيده وقلمه أسباب الريبة المشروعة فيه، ممّا جعل محكمة التمييز تقصيه عن الملف.

ومجددًا دخل التجاذب السياسي، والتناحر الإعلامي في تقييم قرار محكمة التمييز، وعادت المزايدات تحيي الدماء وتحمل وزرها إلى محكمة عمدت إلى إقامة العدل، بحسب ما نصت عليه النصوص. ولن أغوص في بحث قانوني ولكن سأسأل كل مواطن ومواطنة:

1- إذا كنتم تقودون سيارةً واصطدمتم بسيارات أخرى تضررت، فهل تقبلون أن ينظر في دعواكم قاضٍ تبين أنه صاحب إحدى السيارات المتضررة، ولو لم يكن قد أقام دعوى عليكم؟؟
 
2- وإذا كنتم تقدمتم بدعوى إخلاء بيت وصرح القاضي بأنه لن يطبق القانون لأنه برأيه جائر، فهل ترضون به مرجعًا يفصل في دعواكم؟
 
هذا ما فعله محققنا العدلي، أقر بأنه متضرر، وبأنه لن يطبق القانون؛ فكأنه يسأل محكمة التمييز أن تعفيَه من مهمته قائلًا: أنا من سأضع القانون عوضًا عن تطبيقه.
 
لا شك أن أعضاء محكمة التمييز الذين نقلوا الدعوى أُضيفت كراماتهم إلى ضحايا انفجار المرفأ.
لكن المهم الآن أن القضية استقرت عند الطارق (الرئيس طارق بيطار)، الذي نأمل أن يكون النجم الثاقب الذي يجعل القانون كتابه، وأحكامه صراطه، ويستعين بالكتمان لكشف الحقائق، فيصون سر ملفه، ويلاحق من ينتهك قدسه، ولا يمهلُ المجرمين رويدًا. يكثر عمله ويقلل كلامه وتصريحاته، يتفهم مشاعر أولياء الدم دون أن يغرق في مأساتهم، ويعيش حرقتهم فتشعل في حيادته نارًا تحيل استقلاليته رمادًا. يلاحق الحقائق والثوابت، وينبذ الروايات والتوافه، وإن شحت في وطنه الخبرة، فتكليف واستعانة بالأجانب من أهل المعرفة والتخصص. يوقف المجرمين مهما علت مراتبهم ويحرر الأبرياء مهما هزل شأنهم.يبني برجًا عاليًا من أخلاق اشتهر بها، فيترفع عن السياسة وأربابها، وعن المداخلات وتبعاتها، وعن المناصب وزلاتها.ويرجح حقيقة ما حصل، ويكشف اسم من ارتكب وقصَّرَ وأغضى، فيسهل إقامة العدل، ويعبد الدرب لإطلاق حكم عادل محق باسم شعب لبناني حر أبي عربي، فيطفئ بعضًا من نار الفراق والفقدان.

أما الثوار وأهل الدم، فليصبروا لأن في الصبر فرج، وليتركوا للتحقيق مساحته، فلا يضيقوا الخناق فتنعدم عنه البصيرة، وليعلموا أن الملف شائك وأبعاده مترامية، وليحترموا سريته ويصونوا خصوصيته ولا يسمحوا للعابثين والمتسلقين أن يهزوا بوصلتهم عن الحق والحقيقة فيتوهوا ويتوه التحقيق معهم. علنا نحتفل في النهاية بولادة تلك الحقيقة والاقتصاص من المسببين، ونرى شعلة عدالة القضاء في لبنان قد اتقدت، فننتقل حينذاك من نار الانفجار إلى عدالة الطارق.