ترامب... نهاية "ألعُبان"

خليل عجمي

بعد 14 ساعة من المارتوان الكبير في مبنى الكابيتول الأميركي بغرفتيه للتصديق على انتخاب جو بايدن ونائبته كامالا هاريس، طُويت صفحة عمرها 4 سنوات من تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، سيُكتب فيها الكثير والكثير عن رئيس من الصعب نعته بصفة واحدة، عاش الكوكب على وقع مزاجيته، لينتهى في الشهرين الأخيرين بقطع الأنفاس تحسباً لقرار "جهنمي" ينصب من خلاله، أفخاخاً في طريق الرئيس الجديد، كافتعال نزاع يؤدي إلى شن حرب على إيران أو دولة أخرى، لخلط الأوراق وكسب التأييد الشعبي.

بالشكل، ستبدأ الكتابات بسيرة رئيس أقل ما قيل فيه إنه كان يكذّب "20 مرة في اليوم"، سجّلت ولايته رقماً قياسياً عالمياً في الإقالات والاستقالات، وصولاً (بالمضمون) إلى اقتحام مبنى الكونغرس، في سابقة هي الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، ليزعزع ذلك لساعات، الحصن الأول للديموقراطية الأميركية. لكن هذه الساعات من الترقب، والتي سقط خلالها 4 قتلى وعشرات الجرحى، ستكون مادة دسمة لإعادة صيانة وتحصين أحد صروح الديموقراطية في أعتى الديموقراطيات في العالم.

كان دونالد ترامب، وحتى قبيل ساعات من تصديق الكونغرس على نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، يتحدث إلى أنصاره، لاستنفارهم ومواجهة التصديق على انتخاب بايدن رئيساً، بعنجهية تكتنز الكثير من الثقة، حملت على الاعتقاد بأن الآتي أعظم، وبأنه سيكون "البطل الأوحد" في المشهد السياسي الأميركي، غير آبه بالسلم الأهلي.
لم ينس ترامب أن يصبّ جام غضبه على نائبه مايك بنس عندما فشل في الضغط عليه لتحوير مجرى جلسة الكونغرس، (بحكم دوره وفق الدستور، لترؤس جلسة تصديق على انتخاب الرئيس الجديد)، من جلسة مصادقة على نتائج الانتخابات الرئاسية، إلى جلسة لمناقشة توسيع صلاحيات الرئيس أو نسفها.

سيُسجل التاريخ أن ترامب زعزع هيبة الرئاسة الأميركية، نظراً لغزارة مواقفه وتصريحاته على وسائل التواصل الاجتماعي التي فرزت له فريق عمل لمراقبة منشوراته والتحقّق من صحة مضمونها، بغية حجبها إذا اقتضى الأمر، لما كانت تحمل من التباسات.

ربما كان ترامب يعتقد ان "العنجهية" التي كان يمارسها في تعاطيه مع القضايا والمشكلات الدولية قد تفعل فعلها في الداخل الأميركي، معوّلاً ومناصروه في الحزب الجمهوري، على تماسك قاعدته وخصوصاً القطاعات الانجيلية المتطرفة والمنظمات العنصرية وميليشياتها من البيض والتي أشارت سجلات مكتب التحقيقات الفيدرالي "أف بي آي" إلى نحو 300 مجموعة مسلحة منها في إنحاء مختلفة من الولايات المتحدة، تلقّى جزءٌ لا بأس به من عناصرها، تدريبات عسكرية داخل صفوف القوات المسلحة الأميركية.

لكن إدارة البلاد التي لم يشهد تاريخها هذا الكم من الاستقالات والإقالات، وأزمة كورونا إضافة إلى الحوادث العنصرية في الولايات المتحدة، أرخت بظلالها داخلياً، فكانت مادة دسمة لوسائل الإعلام الأميركية التي كانت ألد أعدائه، والتي لم تكن تتوقف يوماً عن تعداد "أخطائه وأكاذيبه"، فآلت الأمور إلى ما آلت اليه، وبات الرئيس الأميركي الخامس والأربعون أمام احتمالات المواجهات القضائية بدءاً من التهرب الضريبي، وصولاً إلى تداعيات التحريض على التظاهر أمام مبنى الكابيتول وسقوط ضحايا بعد اقتحامه، مروراً بملفات في دهاليز إدارة عاشت لحظات مشدودة على وقع مزاجية رجل جاء من عالم الأعمال ومنطق العرض والطلب، إلى عالم السياسة المحكوم بمعادلات دقيقة يصعب تخطيها بقرارات عشوائية في بلد يُعتبر ضابط الإيقاع الأول للسلم والأمن في هذا العالم.

حتى اللحظات الأخيرة قبيل مصادقة الكونغرس على نتائج المجمع الانتخابي، كان الشك سائداً في ما إذا كان ترامب الذي رفض الاعتراف بالهزيمة، سينقل السلطة بشكل سلس إلى خلفه بايدن، وبالتالي سيشارك في حفل توليه سدة الرئاسة، وفق المراسم المتبعة.

ولُوحظ أنه في الساعة الأخيرة التي سبقت التئام الكونغرس، والتي تخللها كلمة استتنفر فيها أنصاره للتوجه إلى مبنى الكابيتول وتعطيل اجتماعاته، بدا ترامب وحيداً في تعنته المستمر في الاعتراف بهزيمته، وبدا وكأنه يعيش اللحظات الأخيرة قبل الانسحاب من خشبة المسرح، وبالتالي الخروج من المشهد السياسي، خروجاً مدوّياً، لكنه أيقين أن الحرس الرئاسي السري، سيحمله إلى خارج البيت الأبيض بعد انقضاء منتصف يوم العشرين من كانون الثاني الجاري، موعد تسلّم بايدن مهامه الرئاسية.

وامتثل ترامب أخيراً وعاد إلى "الصف" مغرداً على حساب أحد مقربيه على "تويتر" بعد حجب حسابه مدة 12 ساعة، متعهداً بانتقال منظم للسلطة، لينتظم في صورة المشهد الأخير من حياته السياسية كرئيس سابق للولايات المتحدة.