الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

مستقبل الطاقة في لبنان من العتمة إلى النور: المعركة سياسية أكثر منها تقنية

المصدر: "النهار"
تعبيرية (حسام شبارو).
تعبيرية (حسام شبارو).
A+ A-
لوري هايتيان*

أكتب هذه السطور ولبنان غارق في العتمة الكاملة، والشعب يتعارك مع موزعي المازوت، والناس تضرب بعضها للحصول على المحروقات، وبعض أهالي المناطق تدخل وتحتل محطات الكهرباء في المناطق. وزير الطاقة يطالب بسلفة لشراء الفيول لصالح شركة كهرباء لبنان التي لم تعد تؤمن إلا بعض "الدقائق" من الكهرباء، والأحزاب السياسية تتعارك في الإعلام ويلوم بعضها البعض الآخر، وتفتح ملفات الماضي البعيد والقريب. ووصلت الأمور إلى تحذير مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت من خطر وفاة حوالي 55 مريضاً ومريضة إذا لم تتأمن المحروقات للمولدات، وبسحر ساحر تأمنت حاجات المستشفى وأُنقذ المرضى.
 
منذ انتهاء الحرب الأهلية، فشلت الحكومات المتتالية في وضع خطة عصرية مستدامة لقطاع الطاقة في البلاد. واعتمدت على تكريس الأمر الواقع الموروث منذ أيام الحرب، ونسجت علاقات ومصالح مع المستفيدين من "قطاع" المولدات. كل يوم نشهد ضبطاً للمازوت والمشتقات. وكل يوم نسمع عن ارتباطات رجال الاحتكارات مع رجال السياسة. وهكذا أصبح اللبنانيون والمقيمون معتادين فكرة 24 على 24 ساعة كهرباء مقسومة بين "الدولة" و"الاشتراك". ومع السنين، راحت تتهاوى المؤسسات ومضى المسؤولون في التحاصص حتى ضعفت الدولة ووصلت إلى الفشل التام بتأمين أبسط حاجات المواطنين.
 
لا يخفى على أحد أن الكهرباء هي من أساسيات النمو الاقتصادي، ومصدر حيوي لأي بلد. ومن المضحك المبكي أن أكتب هذه الجملة في 2021، ولكن لا شك أن اللبنانيين اليوم يختبرون هذا الأمر. انقطاع كلي للكهرباء يعني توقف الاقتصاد وتعرض الناس للموت. وبالتالي فإن عجز المسؤولين منذ 1990 عن القيام بالإصلاحات المطلوبة، وتنفيذ الخطط الموضوعة، يؤدّيان اليوم إلى مجزرة جماعية.
 
أصبح الجميع على دراية بالمشاكل التي يعاني منها قطاع الكهرباء في لبنان. محطات كهرباء قديمة، لا تكفي لتغذية حاجات المواطنين والمقيمين، شبكة تعاني من المشاكل وبحاجة إلى تأهيل. تعريفة مدعومة، والأهم من ذلك شركة كهرباء خاسرة، جبايتها ضعيفة وحوكمتها معدومة، ونية غير متوفرة عند المسؤولين للقيام بالإصلاحات المطلوبة.
 
قطاع النفط والغاز كما قطاع الكهرباء، عانيا، إلى حد ما، من المشاكل السياسية ومن الفشل في إدارة البلاد، حتى لو كانت حوكمته متطورة وشفافيته أكبر. وضعت في 2007 ورقة السياسات المتعلقة بالقطاع، وفي 2010 تم التصديق على قانون الموارد البترولية في المياه اللبنانية، وفي 2012 أنشئت هيئة إدارة قطاع البترول، وفي 2018 وقّع عقدان مع ائتلاف شركات توتال، ايني، ونوفاتيك على بلوكين: 4 شمال بيروت و9 في الجنوب اللبناني. وفي ما بين شباط ونيسان 2020، حُفر أول بئر استكشافي في المياه اللبنانية في البلوك 4، وكانت النتيجة أن شركة توتال لم تعثر على مكمن غاز. كان من المتوقع أن يُحفر بئر استكشافي في البلوك 9 قبل أيار2021، لكن الحكومة اللبنانية مددت المهل إلى آب 2022. وفي انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، تفجرت القاعدة اللوجيستية لشركة توتال وكان مركزها مرفأ بيروت. كما تأجلت جولة التراخيص الثانية إلى أجل غير مسمى.
 
أما قطاع الطاقات المتجددة، فهي أيضًا تعاني بسبب السياسة وضعف الحوكمة وعدم الرؤية الواضحة. منذ 2011 وتضع وزارة الطاقة خططاً وطنية للطاقات المتجددة، وكانت النتيجة أن جولة التراخيص الاولى للطاقة الشمسية لم تأتِ بخواتيم. في 2019 وبعد جولة تراخيص انطلقت حوالي 2013، توصلت وزارة الطاقة إلى توقيع اتفاقات شراء الطاقة من الهواء (بطاقة 226 ميغاواط)، وللأسف توقفت المشاريع بسبب الانهيار المالي والمصرفي في البلاد. كما أن واحدة من أكبر المشاكل هي إدارة هذا القطاع وحوكمته، حيث ما زالت وزارة الطاقة تتحكم بمنح الرخص في غياب الهيئة الناظمة التي لم تنشأ منذ 2002 مع التصديق على قانون الكهرباء حينها.
 
طبعًا المشاكل تمتد من عدم الرغبة السياسية في الإصلاح، لأن ذلك يعرّض مصالح المجموعات المستفيدة من الأمر الواقع للخطر، إضافة إلى غياب وضوح ورؤية للقطاع. واليوم المشكلة الكبيرة هي الانهيار المالي والاقتصادي الذي يجعل من الصعب تمويل أي مشروع ينهض بالقطاع بأجنحته الثلاثة. ولكن الحلول موجودة، وفي الجزء الثاني سنطرح إشكالية الأزمة السياسية والحوكمة. وفي الجزء الثالث سنعرض الحلول على المدى القصير والمتوسط، آخذين بالاعتبار الصعوبات التي نعانيها اليوم.
 
 
السياسة والحوكمة
 
اليوم من الصعب تصوّر أن الذين أخذوا البلاد إلى الانهيار بإمكانهم إخراجها من الأزمة. المؤسسات والإدارة في شلل، المصرف المركزي والمصارف متهمة من الناس، القطاع الخاص يحتضر، والطبقة السياسية فاقدة الثقة من الداخل ومن الخارج. وبالتالي أي تنفيذ للإصلاحات المتعلقة بقطاع الطاقة تحديدًا، وبالنظام السياسي والاقتصادي عامةً، يتطلب تغييراً في الطبقة السياسية وفي نهج الحكم.
 
الكهرباء والنفط والغاز والطاقات المتجددة بحاجة إلى الاستثمارات الخارجية – للأسف الاستثمارات الداخلية شبه مستحيلة بسبب أزمة المصارف – وهذه الاستثمارات الخارجية بحاجة إلى الضمانات وإلى الثقة وإلى حوكمة تعتمد على الشفافية والتنافسية. وبالتالي أي حكومة لا توحي بالثقة، ولا تكون جدية في البدء بالإصلاحات البنيوية، لن تتمكن من إنجاز أي شيء. أما إذا كانت حكومة إصلاحات فعلية وتمكنت من إنجاز خطة والاتفاق مع صندوق النقد الدولي، فقط حينها يمكن تدفق الأموال والاستثمارات خصوصًا في قطاع الطاقة، لأن الاتفاق مع الصندوق يعطي بعض الضمانات للمستثمرين لوضع أموالهم في مشاريع في لبنان.
 
وتبقى الحوكمة المبنية على الشفافية والتنافسية هي عنصر أساسي لزيادة الثقة في الإدارة اللبنانية. ولذا على السلطة الإسراع في تنفيذ قانون الشراء العام العصري الذي صدق عليه في البرلمان اللبناني في حزيران 2021، وأن يسحب التيار الوطني الحر الطعن فيه، وأن تضع السلطات المعنية المراسيم التنفيذية لنقل لبنان من مرحلة الغموض والفساد والمحاصصة إلى الشفافية والتنافسية عبر هذا القانون. بالإضافة إلى هذا القانون، هناك خطوات إصلاحية ضرورية يجب أن تقودها وزارة الطاقة أهمها:
 
1) وضع رؤية واضحة لقطاع الطاقة المبنية على الأمن الطاقي التي تهدف إلى تأمين كهرباء 24 على 24 بأبخس الأسعار، وبلورة قطاع عصري يحاكي تطورات العالمية في هذا القطاع. وهذه الرؤية الاستراتجية يجب ان تأخذ بالاعتبار الطاقة المتجددة والنفط والغاز. وبالتالي يجب إقرار قانون عصري للكهرباء يأخذ بالاعتبار التطورات في مجال الطاقات المتجددة، بدل أن نعود إلى قانون 462/2002، وبدل إقرار قانون خاص للطاقات المتجددة. البعض في لبنان يحاول الوصول إلى من يخدمه بمده بالمازوت لتوليد الكهرباء على المولدات، ولكن البعض الآخر ذهب أبعد (وطبعًا حسب القدرة الشرائية) إلى وضع منصات الطاقة الشمسية في المنازل أو في المصانع لمواجهة الأزمة. واللافت تزايد إعلانات شركات الطاقات الشمسية، وأيضًا تزايد أعداد الناس المهتمة بالموضوع. وهذا الأمر سوف يفرض أمراً واقعاً على الأرض، ما سيدفع السلطات إلى إقرار قانون عصري للكهرباء والطاقات المتجددة لمواكبة هذه التطورات الميدانية.
 
2) هذه الاستراتجية والرؤية بحاجة لمن ينفذها، وبالتالي يجب تعيين الهيئة الناظمة للكهرباء والطاقات المتجددة، لتقوم بتنفيذ خطط الكهرباء المبنية على الاستراتيجية الموضوعة من الوزارة والموافق عليها من الحكومة. دورالهيئة تنفيذي ورقابي، وبالتالي يجب أن يكون الأعضاء أصحاب خبرة عالمية، ولا ينتمون إلى الأحزاب. من أهم الأدوار، منح التراخيص ومراقبة عمل الشركات ومساعدة الوزارة على تطوير خططها. والأهم العمل على مأسسة الهيئة لتعمل بفعالية وشفافية.
 
3) بالإضافة إلى هيئة الكهرباء، يجب الإبقاء على هيئة إدارة قطاع البترول، ولكن قبل ذلك يجب تقييم عملها منذ انشائها في كانون الأول 2012، وبعد ذلك إدخال التحسينات على دورها، وذلك حسب التقييم، والأهم أيضاً منحها استقلالية أكبر في عملها لتقوم بدورها على أكمل وجه وبشفافية وفعالية بعيدة عن أي تجاذبات سياسية.
 
4) بالاضافة إلى الهيئات الناظمة التي ستلعب دورًا أساسيًا في تطوير قطاع الطاقة في البلاد، يجب إعادة النظر في حوكمة ودور المنشآت النفطية بصورة عاجلة. هذه من إحدى مؤسسات الدولة التي تدور بفلكها الخاص والتي اتهمت إدارتها بالفساد والمحاصصة. ولذا يجب إعادة النظر بحوكمة ودور هذه المؤسسة وإعادة تكوينها لتلبي حاجات لبنان، ولتلعب الدور في تنفيذ الرؤية والاستراتجية التي ستضعها الوزارة.
 
وتجدر الإشارة والتأكيد أن التعيينات في هذه الهيئات يجب أن تكون بعيدة عن المحاصصة الطائفية والسياسية، وأن تعتمد على الكفاءة والقدرة. ويجب أن تكون أعمال هذه الهيئات شفافة ومبنية على ثقافة نشر المعلومات والتواصل مع المواطنين.
 
ما سبق وعرضناه في الجزء الثاني، هو أسس قطاع فعّال وشفّاف، وهي ضرورية كبنى تحتية إدارية لتتمكن من تنفيذ مشاريع الطاقة الناجحة التي ستؤمن الأمن الطاقي، والتي ستساعد على بناء اقتصاد منتج، سيساعد في النهوض من الانهيار، ويمكن أن ينافس في الخارج، ويمكن أن يضع لبنان على الخريطة الإقليمية من ضمن المشاريع الإقليمية مع الدول العربية. في الجزء الثالث والأخير سنعرض الحلول والمشاريع في الكهرباء والنفط والغاز والطاقات المتجددة على المدى القصير والمتوسط..
 
 
الكهرباء والطاقات المتجددة والنفط والغاز
 
علينا ان نستفيد من انهيار الوضع في البلاد لنبني على أسس متينة ومستدامة، ونرفض الترقيع وتجميل المأساة. اليوم للأسف لا حلول سريعة لقطاع الطاقة في لبنان، ولكن هناك كما سنعرض حلول على المدى القصير والمتوسط.
 
على المدى القصيرلن نرى تحسناً في الوضع، لكن هذه خطوات تمهد للإصلاح وتغيّر منهجية العمل:
1) اليوم أحد الحلول خارج السلطة المركزية، هو ما نراه من حماسة عند المواطنين في استعمال الطاقة الشمسية لإنتاج الطاقة، بعيدًا من كهرباء لبنان والمولدات. وهذه الظاهرة ستتكاثر. لذا نطلب من المنتشرين اللبنانيين المساعدة بإمداد العائلات أو البلديات أو القرى التي يأتون منها، إما بالمال لشراء الألواح الشمسية أو إرسال الألواح والبطاريات إلى لبنان لزيادة نشر هذه الطاقة النظيفة.
2) الفيول العراقي أصبح أمراً واقعاً اليوم، والاتفاق ينص على إمداد العراق لبنان بالفيول لمدة سنة، ويقوم لبنان بمناقصات لاستدراج عروض من شركات قادرة على تبديل الفيول العراقي غير المطابق لمحطات الكهرباء بالفيول الأنسب. ولكن السؤال: إلى متى ستقبل الحكومة العراقية بتلقي الخدمات والسلع بدل الدولارات؟ ماذا سيحصل بعد سنة في غياب حكومة إصلاحية إنقاذية ذات نهج مدني رافض للمحاصصات؟ لا أعتقد أن الحكومة العراقية ستكون مهتمة بمساعدة لبنان إذا استمر السياسيون بنهج التدمير الذاتي. لذا على لبنان البحث عن اتفاقيات مستدامة أكثر.
3) على البرلمان الإسراع بإقرار قانون الطاقات العصري، والذي يدمج الكهرباء والطاقات المتجددة بدل إقرار قانون جديد للطاقة المتجددة، وبدل الدخول بمتاهات قانون الكهرباء القديم الذي لم ينفذ قط منذ 20 سنة.
4) على الحكومة اللبنانية أن تعين الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء والطاقات المتجددة.
5) إعادة إطلاق جولة التراخيص الثانية لقطاع النفط والغاز.
6) العمل بسرعة لحلحلة كل العقد السياسية ليتمكن لبنان من استجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن والعمل على تطوير الشبكة الكهربائية.
7) إطلاق المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، والمباشرة مع سوريا وقبرص لترسيم الحدود البحرية ليتمكن لبنان من الاستفادة القصوى من موارده الطبيعية المحتملة في المياه الإقليمية. عدم وجود اتفاقات حدود بحرية بين لبنان والمحيط يعني ان لبنان لن يتمكن من الاستفادة القصوى من منطقته الاقتصادية EEZ ومن أصل 10 بلوكات بحرية فقط 3 بلوكات هي بلا نزاع مع الآخرين، وبالتالي كل بلوك خارج هذه البلوكات الثلاثة قد لا يأتي بمستثمرين، لكن العمل يتعطل ويتأخر كما نرى في البلوك 9 على الحدود مع إسرائيل.
 
على المدى المتوسط، يجب على الحكومة خطة إنقاذية واتفقت مع صندوق النقد الدولي يجب أن يتم:
1) إطلاق المناقصات لمحطات الكهرباء وللطاقات المتجددة، وإعادة النظر في مناقصة المحطات العائمة للتغويز (FSRU) واعتماد محطة واحدة في البداوي كما كانت الخطة الأساسية.
2) العمل مع البنك الدولي على بناء البنى التحتية لمد الأنابيب على الساحل اللبناني (عبر البحر) لتشبيك كل المحطات القديمة والجديدة ليصلها الغاز.
اليوم يصعب التفكيروالكتابة عن مستقبل البلد والطاقة في البلد بإيجابية. وكلما وضعنا حلولاً، نصطدم بالطبقة السياسة التي أهدرت كل الفرص للإصلاح والبناء، وتمادت بالفساد. وهذا يجعلنا نعود إلى الفكرة المركزية، وهي أن المشكلة ليست في الحلول التقنية، وليست في عدم وجود طاقات لبنانية، بل على العكس كل الحلول معروفة وكل الخطط لتطوير قطاع الطاقة من كهرباء وطاقات متجددة ونفط وغاز مكتوبة، والطاقات الشبابية موجودة، ولكن بوجود هؤلاء الفاسدين في السلطة لا يمكننا الأمل بالتطور، بل نعود إلى الوراء... إلى العتمة. لذا يجب أن نتذكر أن الهدف الأساسي هو هدف سياسي يتمثل في هزيمة الطبقة السياسية الفاسدة. وحينها نكون انطلقنا من العتمة إلى النور، إلى نور الحياة الديمقراطية المدنية حيث تتجدد كل يوم طاقاتنا في لبنان وفي العالم.

*متخصصة في شؤون النفط والغازفي الشرق الأوسط وشمال افريقيا واستاذة جامعية
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم