الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

نقاط قانونية على حروف البيانات المصرفية

المصدر: النهار
مصرف لبنان. ( من أرشيف "النهار").
مصرف لبنان. ( من أرشيف "النهار").
A+ A-

دكتورة سابين الكك*

 

 

استعادة القطاع المصرفي اللبناني عافيتَه تقتضي أولاً، وقبل أيّ أمر آخر، إبقاء علاقة المصرف بمودعيه في إطار الاعتبار الشخصيّ الذي كان الدافع الأساسي والمباشر للتعاقد مع بنك محدّد من دون غيره من المصارف العاملة في لبنان، لما كان يوليها كلّ عميل من ثقة شخصيّة وتجارية، كانت السبب المشروع لإبرام العقد؛ مصدر حقوقه.

 

والمودعون كلّ المودعين لا يتحمّلون بمعرض علاقاتهم العقديّة الفردية، المحدودة في طبيعتها وآثارها، عبء واقع غير مبرّر وغير مألوف، لا بل مريب، أدّى إلى اندلاع أزمة مصرفية، عَزَتها المصارف لانكشافها على مخاطر توظيفاتها السياديّة مع الدولة اللبنانية، فيما لم يثبت حتى تاريخه تقييم ماليّ ذو مصداقية موصوفة يوثّق الوضعيّة المالية لكلّ مصرف على حدة، وبالتحديد نسبة سيولته وملاءته إلى مجموع التزاماته تجاه عملائه.

 

لذا، في خضّم الخطط الاعتباطيّة والاستنسابيّة، التي تقدّمها الحكومات منذ تشرين الأول 2019، وبيانات جمعية المصارف، التي تُعتبر إدانة واعترافاً بما ارتكبت أيديهم أكثر من كونها أعذاراً مُحِلّة، تبدو من الأهمية بمكان إعادة طبيعة العلاقة التعاقديّة بين المصرف والمودع إلى موقعها القانونيّ الصحيح، إذ لم تتقاعس المحاكم اللبنانية يوماً، حتى في عزّ ازدهار بنوك سويسرا الشرق، عن إلزامها بموجباتها القانونية كممتهِنة ومحترِفة تعمل تحت نظام عام اقتصادي Loi police.

 

طبيعة العلاقة القانونية بين المصرف والمودع

العقود المصرفية هي من العقود التي يحكمها الاعتبار الشخصي Intuitus personnae، حيث إن المودع يتعامل مع مصرف معيّن يختاره بمحض إرادته، واضعاً في نيته الدافعة إلى التعاقد اعتباراتٍ شخصيّةً محدّدةً، كلّ منها لا يندمج بالآخر، وتُشكّل مجتمعةً عنصرَ الثقة الذي يوليه المودع-العميل لمصرف معيّن بذاته، يأتمنه على أمواله، ويكون قادراً ماليّاً على ردّها، وملتزماً بتلبية مجموعة العمليات التي يحتاجها المودع من خلال الحساب، وفق ما تمّ الاتفاق عليه في العقد.

في هذا السياق، تتجلّى الوضعيّة المباشرة والوثيقة، التي تحكم العلاقة العقديّة من جهة أولى، تجاه المصرف كوديع مؤتمن ارتضى قبول الوديعة من هذا العميل بالذات ضمن طبيعة نشاطه التجاريّ وحدوده المنتظمة قانوناً؛ ومن جهة ثانية، العميل كمودع وضع ثقةً مشروعةً في هذا المصرف، فأوكل إليه أمر الحفاظ على أمواله والالتزام بتنفيذ العمليات المصرفية المعتادة والطبيعيّة وفق مقتضيات القانون والإنصاف والعرف.

 

وقد اعتبرت المحكمة الابتدائيّة في بيروت بغرفتها الثالثة في قرارها رقم 2916 لسنة 1992 تاريخ 3/2/1994 أحمد الصباح/بنك بيروت الرياض بأن: المصرف، بهذه الصفة، يلتزم بموجبات تلازم صفته هذه كونه المؤتمن على أموال عملائه ومودعيه وممتهناً، كما أن عليه الحفاظ على الثقة المشروعة التي يضعها المودع أو العميل فيه فيتولّى القيام بكلّ ما هو لازم للحفاظ على مصالح العميل الذي تعامل معه وعدم الاستفادة من الأوضاع أو الظروف الخارجة عن إرادة هذا العميل".

 

وحَدَّدَتْ محكمة استئناف بيروت المدنية بغرفتها الرابعة الناظرة في قرارها رقم 141 تاريخ 5/7/1994 "وظيفة المصرف وموجباته تجاه المودعين بأنه من المتعارف عليه علماً واجتهاداً أن المصرف  تاجر محترف ومتخصّص بحيث إنه يُنتظر منه أكثر ممّا يتوقع من فرد عاديّ ولو كان حريصاً، وبالتالي من مهمته توجيه أصحاب الودائع لديه وحماية مصالحهم على أموالهم وصيانتها وتحذيرهم من المخاطر التي قد تصيب حقوقهم وأموالهم، وبالتالي اتخاذ كافة التدابير الكفيلة لصون حقوقهم بحيث إن ثقة العميل بالمصرف تصل إلى درجة اليقين، وذلك انطلاقاً من مبدأ المحافظة على أموال المودعين وردها".

 

إذن، من الناحية القانونية، تتحمّل المصارف في علاقتها بالمودعين مسؤوليّة مدنيّة بالحدّ الأدنى، تكون في الأغلب عقديّة، وتنشأ من تقاعس المصرف المعنيّ عن تنفيذ موجباته المصرفية تجاه المودع المتعاقد بشخصه، وفق ما جاء في قرار القاضي المنفرد المدني في بيروت، رقم 130 تاريخ 2/4/2008، شركة ترافيكوم ش.م.م. / بنك سوسيتيه جنرال لبنان ش.م.ل. ورفاقه: "إنّ امتناع المصرف عن تسليم الزبون كشفاً لحسابه دون مبرر من شأنه أن يؤدي إلى مسؤولية المصرف، على أساس أنه قصّر في تنفيذ موجباته التي لحظها العقد المنظّم بينه وبين عميله. أما تذرّع المصرف بواجب الحذر والدراية فهو قول مردود لكون ممارسة هذا الواجب تقتضي أن تأتي ضمن حدود حسن النية وعدم التعسف في استعمال الحق، وعدم إلحاق الضرر بهم".

 

ممّا لا نقاش فيه أن الاجتهاد اللبناني يؤكد على كون الاعتبار الشخصي أحد خصائص عقد الوديعة المصرفيّة، ويُنشئ بالتوازي - بمجرّد إبرام هذا العقد - عقد وكالة ضمنيّ بين المصرف والعميل. وجاء في حيثية قرار القاضي المنفرد في بيروت الناظر في القضايا التجارية، رقم 62/94 تاريخ 14/10/1994، هيكل/بنك البحر المتوسط، المنشور في مجلة العدل سنة 1996، ص 225 وما يليها: "أنه على ضوء الوقائع الثابتة، فإن طبيعة العلاقة المتكونة بين المدّعي والبنك المدّعى عليه، تؤلف عقد وكالة يكون فيها المدّعي موكلاً، والمدعى عليه وكيلاً مأجوراً، مع ما يترتب على هذا الأخير تبعاً لذلك من موجبات، ومنها العناية بتنفيذ الوكالة عناية الأب الصالح، مع التشدّد في تفسير هذا الموجب، لأن عقد الوكالة المذكور هو مقابل أجر، وفقاً لما نصّت عليه المادتان 785 و 786 من قانون الموجبات والعقود".

 

الحفاظ على وضعيّة ماليّة سليمة في المصارف موجب إلزاميّ يتعلّق بالنظام العام

 

أحكام قانون النقد والتسليف تنزع عن المهنة المصرفيّة كلّ القواعد العامة التي تتعارض معه، وتُعتبرُ نصوصُه بمعظمها إلزاميّة لتعلّقها بالنظام العام الاقتصاديّ، "وأتى المشترع ليحدّ من هذه الحرية التي تنعم بها المصارف، إذ نصّ خاصّة على الأحكام التي تتعلّق بانتظام سير عملها والموجبات الملقاة على عاتقها بما يضمن حقوق المودعين وأموالهم". وذلك، بحسب ما ورد في استشارة هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل، رقم 150، تاريخ 6/2/1979.

في الموازاة، تبقى القواعد العامة في قانون الموجبات والعقود وأحكام قانون التجارة اللبنانيّ واجبة التطبيق في المسائل التي لم يتناولها المشرّع من خلال قانون النقد والتسليف.

 

هذا التنظيم المتكامل ليس هدفاً تشريعياً فقط ليؤمّن بيئة تنافسية للقطاع المصرفي كقطاع تجاريّ، ولكنه، في الأصل، حماية اجتماعيّة للثروات الوطنيّة، أي حقوق المودعين، من خلال إجبار البنوك على التقيّد بالتوظيفات التي تحملها، ودفعها إلى خلق توازن دائم بين مدّة تلك التوظيفات وطبيعتها نسبةً إلى آجال الودائع وفئاتها.

هنا تحديداً، يترتّب هذا الموجب على عاتق المصارف التي تعمل تحت وصاية الهيئة الناظمة، أي مصرف لبنان، الذي يقع عليه أيضاً موجب حماية حقوق المودعين استناداً إلى نصّ المادة 174 من قانون النقد والتسليف: "للمصرف المركزي خاصة بعد استطلاع رأي جمعية مصارف لبنان أن يضع التنظيمات العامة الضروريّة لتأمين حُسن علاقة المصارف بمودعيها وعملائها، كما أن له أن يحدّد ويعدّل، كلّما رأى ذلك ضرورياً، قواعد تسيير العمل التي على المصارف أن تتقيّد بها حفاظاً على حالة سيولتها وملاءتها". وتنصّ المادة 156 من قانون النقد والتسليف أيضاً أن: "على المصارف أن تراعي في استعمال الأموال التي تتلقاها من الجمهور القواعد التي تؤمن صيانة حقوقه. وعليها بصورة خاصّة أن توفق بين مدة توظيفاتها وطبيعة مواردها". ولا يجوز تحميل نتائج الخلل الحاصل للمودع، الذي يبقى بعيداً تماماً عن إدارته ورقابته الأوضاع المالية للبنك، وهو ليس له الحق أصلاً في إبداء رأيه بالقبول أو الرفض حول السياسة التوظيفية للمصرف الذي يتعامل معه.

 

وعليه، يؤكّد المشرّع من خلال قانون النقد والتسليف على ضرورة ووجوب الحفاظ على مستويات الملاءة والسيولة لدى المصارف العاملة في لبنان بشكل مستمرّ بهدف خلق التوزان الدائم مقابل المخاطر التي ترافق محفظتها التوظيفية. وتكون كلّ مؤسسة مصرفيّة ملزمة، تحت طائلة الملاحقة الإدارية والمدنية والجزائية، بأن تظهر، بشكل دائم ومستمرّ، وضعاً نقديّاً آمناً لناحية السيولة والملاءة، وأن تراعي معايير أهليّتها الماليّة لتبقى قادرة على تنفيذ موجب الرّد تجاه المودعين في آجالها.

 

لذلك، اعتبر القضاء اللبناني المصرف في علاقاته مع العملاء بمثابة الوكيل المحترف المأجور - كما أشرنا آنفاً - مع ما تترافق معه هذه الوكالة من أوضاع قانونية ناشئة عن العمليات المصرفية ذات الطبيعة المركّبة والمتتابعة التنفيذ، بحيث يقتضي دائماً على المصرف الالتزام بالاعتناء بمصالح المودع أو العميل عناية الأب الصالح، وهذا ما دفع المحاكم إلى: "اعتبار المصرف مسؤولاً عن الضرر اللاحق بعميله من جراء تدهور قيمة العملة الوطنية الناتج عن تصرّفه المخالف للأصول المصرفية في هذا المجال، علمًا بأنّه وبصفته الوكيل المعتمد، الموكلة إليه مهمة الحفاظ على مصالح موكله وحمايتها قدر الإمكان وضمن إطار السلطات الواسعة التي يتمتع بها لدرء المخاطر الاقتصادية عن عميله ولا سيما لناحية تقلبات العملة". استئناف بيروت، الغرفة الأولى، رقم 325، تاريخ 7/2/2002.

 

أما مصرف لبنان فاعتمد مفهوماً للسيولة قائماً على قياسها نسبة إلى الأموال الجاهزة. وأوضح بأنّ نسبة السيولة هي نسبة الأموال الجاهزة إلى مجمل الودائع والالتزامات الأخرى، ممّا يعني عمليّاً أن السيولة هي إمكانيّة المصرف الدائمة وقدرته على تلبية موجباته بردّ الودائع تحت الطلب مضافة إليها الودائع لأجل، بحسب تواريخ استحقاقها، حتى ولو اضطر البنك في تنفيذ موجب ردّ الودائع إلى تسييل توظيفات مصنّفة ضمن فئة الأموال الجاهزة. إذن، لقياس نسبة السيولة ينبغي احتساب:

  • قدرة المصرف على تلبية أيّ قدر من مجموع مطلوباته من الودائع تحت الطلب، والودائع الآجلة عند استحقاقها.
  • قدرة المصرف على تحويل سريع لمحفظة توظيفاته إلى أموال نقديّة لتلبية قيمة هذه المطلوبات بحسب الفترات الزمنيّة المحدّدة.

 

تبريرات جمعية المصارف افتراضيّة محضة

 

  • 1-في ما يتعلّق بالحالة الاستثنائيّة العامة في البلاد

    هذه الحالة لا تشكّل في أيّ ظرف من الظروف سبباً مبرّراً أو معفياً لتوقّف البنوك نهائياً عن تنفيذ موجباتها العقدية، مهما بلغ التنفيذ من إرهاق على عاتق المصرف المعنيّ.

     

    وقد اعتبرت محكمة استئناف بيروت، الغرفة الأولى، رقم 62 تاريخ 15/3/1988، أن المصرف مسؤول عن هلاك الوديعة، وبالتالي لا يُمكنه التنصّل من موجب الرّد الملقى على عاتقه بادّعائه وجود ظرف، لا علاقة للمودع به، يمنعه من إعادة الأموال لمودعيها، سواء كلياً أو جزئياً، موقتاً أو بصورة دائمة. وجاء في حيثيات القرار: "حيث إن المصرفي بطبيعة عمله وبحكم مهنته يقوم بقبول الودائع، الأمر الذي يدخل في أساس عملياته اليومية، وهو في هذا المجال مسؤول عن سبب كل هلاك أو تعيّب استناداً للمادة 713 م.ع.، فيما لو ثبت أنه كان في وسعه اتقاء ذلك الهلاك أو التعيّب، ولا فرق إذا كانت الودائع نقدية أم كميات من الذهب".

     

    وقد اعتبرت محكمة استئناف بيروت في قرارها رقم 578 تاريخ 4/6/6 199 "أن جمعية المصارف بطعنها الذي يتناول طبيعة الموجب الملقى على عاتق المصرف عبر الادّعاء بتوافر شروط القوة القاهرة بهدف الحؤول دون صدور اجتهاد عن المحاكم في غير مصلحتها، وهي مصلحة احتماليّة فقط، ممّا يفرض ردّ الطلب المقدّم من جمعية مصارف لبنان لهذه الناحية".

     

    وموقف القضاء اللبناني يتكامل مع المقاربة الدولية الرافضة لتقويض نتائج أيّ أزمة اقتصاديّة بنظريّة القوة القاهرة، وذلك وفقاً للشروط النموذجية لغرفة التجارة الدولية في باريس لسنة 2003. وهو ما ينسجم أيضاً مع الخصائص التي تحكم أسس ومقتضيات العالم المصرفي، وقد رَفضَ الأخذ بذريعة الأزمة الاقتصادية لإعفاء البنوك من مسؤوليتها أو السماح لها بالتنصّل من أداء موجباتها المهنية، حتى، في أحلك الظروف الأمنية خلال الحرب اللبنانية، لأن المصرفيّ عليه موجب العناية كوكيل مأجور، وكممتهن، وكقطاعٍ يعيش في عمق المخاطر لتصبح جزءاً لا يتجزأ من طبيعته، وفي هذا المعنى استئناف بيروت، الغرفة الرابعة، رقم 42، تاريخ 30/1/1992.

     

  • 2-في ما يتعلق بالتزام المصارف في توظيفاتها تعاميم الجهات الناظمة والرقابية

 

في العلاقة بين المودع والمصرف يخضع هذا الأخير إلى أوامر عميله، مالك الحساب، بشأن وديعته المصرفية بما يتوافق مع أحكام القانون وبنود العقد المبرم بينهما. أما ما يصدر من تعاميم إدارية مصرفيّة فهي لا ترتقي إلى مرتبة القانون، ولا تُشكّل مصدراً من مصادر القاعدة القانونية بحسب المادة 4 من قانون أصول المحاكمات المدنية. وتبقى تعاميم مصرف لبنان الصادرة بناء على قرارات المجلس المركزي من الأعمال الإدارية البحتة، والتي لا تتنافس مع القانون لتحلّ محلّ أحكامه، أو تلغيها، أو تعدّلها.

 

واستقرّ الاجتهاد الإداري في لبنان من خلال عدّة قرارات صادرة عن مجلس شورى الدولة، منها القرار رقم 160 تاريخ 6/12/1993، على أن المصرف المركزي لا يخرج عن كيان أجهزة الدولة الإدارية والتنظيمية، واستقلاليته بتنظيم القطاع المصرفي لا ترفعه: "إلى مصاف السلطات الدستورية الثلاث المحدّدة حصراً في الدستور اللبناني". فكان من واجب المصارف أن تطعن أمام مجلس شورى الدولة بكلّ تعميم أو قرار إداري فيه تجاوز لحدّ السلطة الممنوحة لمصرف لبنان أو للجهات الرقابية.

 

رئيسة قسم القانون الخاص في كلية الحقوق الجامعة اللبنانية*

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم