الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

جعلوا عَيش اللبنانيّ من قلّة الموت

المصدر: "النهار"
منى فياض
بيروت بعد انفجار الرابع من آب (تصوير حسام شبارو)
بيروت بعد انفجار الرابع من آب (تصوير حسام شبارو)
A+ A-
عندما تسير ليلاً في عتمة الشوارع الكثيفة التي تفتقد الكهرباء، تصبح كمن يمشي على البَيض. إذا كنت محظوظاً يأتيك الضوء أحياناً من شرفة، أو من نور سيّارة مسرعة. وإلّا فعليك أن تحاذر في كلّ خطوة، وأحياناً ستلجأ إلى ضوء فلاش هاتفك المحمول كي ترى أين تضع قدميك.
 
في النهار تزدحم بعض الشوارع بالمشاة والدرّاجين حول سيّارات تتزاحم في طوابير تطول كيلومترات أحياناً، تزعق أبواقها كأصوات بعض السائقين وعراكهم، خصوصاً عندما تعترض الطابور سيّارة تحاول شقّ طريقها عنوة كي تدخل الطابور الذي يسدّ الطريق أمام السير.
 
وسوف تتعرّج خطواتك بين الناس المزدحمين أيضاً في فوضى ضاجّة. ومنهم من يحمل غالون بنزين تشتمّ رائحته عن بعد، وقد يفرغه في خزّان سياراته أو يبيعه لأحدهم. المحظوظ يقول: عبّأت خزّان سيارتي.
 
أمّا الأوتوسترادات التي تفرغ من السير في معظمها، فستغلق أمامك فجأة، لتنبئك بوجود محطّة بنزين. تصطفّ أمامها السيّارات على عرض الأوتوستراد، منتظرة دورها أمام محطّة قد تكون لا تزال مقفلة. هناك من ينام في سيارته، وأحدهم توفّي فيها. لا بدّ أنّ أحدهم سينتج فيلماً عن "الحياة" في طوابيرنا المتناسلة. إنّها حياة كاملة. أخبرني شاب أنّه ذهب مع أولاد خالته سويّاً في ثلاث سياّرات كي يتسلّوا لتحمل فترة الانتظار. معظم الشوارع الأخرى ستبدو خالية تماماً من الحركة على وجه التقريب.
 
الصديقة والأستاذة الناشطة وصفت انشغالاتها اليوميّة: "تفاصيل صغيرة عم تقتلنا يوميّاً".
 
- "الغَسْلَة عم تستغرق أكثر من ٢٤ ساعة". "والله أنا موظّفة وما قادرة إشترك بـ١٠ أمبير. بشغّل الغسالة وسخّان المي على كهربا الشركة، إذا جاءت".
 
- "الكوي يتراكم، خاصة أنّه فصل الصيف".
 
- "ما عم نقدر نستعمل الميغابايتس إلّا للضرورة".
 
- "بالكاد عم نلحق نشرّج التلفون واللابتوب واللومپادور".
 
- "لمّا ما يكون في كهربا شركة ولا اشتراك، عم يهلكنا الضجر. حتى مطالعة كتاب ما عم نقدر".
 
- "محبوسون ببيوتنا بسبب أزمة المحروقات. يعني علاقاتنا الاجتماعية عم تتدهور".
 
- "أنتظر أن تبدأ المدرسة تا أطلع من جوّ الروتين. بس شو هيّ مقوّمات بدء العام الدراسي، بالنسبة للأساتذة وللطلاب، وعلى كلّ المستويات؟"
 
- "الغلاء فاحش. صرنا عم نعصر حتّى النفقات الضروريّة".
 
- "سترس وتعصيب ٢٤ على ٢٤. عم نفشّ خلقنا ببعضنا".
 
ويسألونني:
 
- "كيف حالك؟"
 
- "والله تمام. عايشة من قلّة الموت! حضرتنا من الرأي العام!"
 
سمعت سيّدة تخبر صديقتها كمن انتصر في معركة: "شرّجت تلفوني!!"
 
اعتذرت ناشطة أخرى، في فشّة خلق يائسة عن المشاركة في التظاهرات، قائلة إنّه ليس لديها لا بنزين ولا تستطيع الحصول حتّى على خبز لإطعام أولادها. فكيف ستتمكّن من المشاركة في المظاهرة؟ فهل هي متخاذلة إن لم تستطع المشاركة في التظاهرات؟
 
في هذا الوقت علّق أحدهم مزايداً، على إحدى الإذاعات، أنّ الثوار هم سبب ما نعانيه وما يحصل على الأرض من مشاكل ونزاعات. أين هم الآن؟ لماذا لا نسمع أصواتهم؟ إذا كانوا ضدّ ما يجري فلماذا لا يتظاهرون؟ إنّهم السبب في ذلك. فالثوار ليس لديهم إلّا أمر واحد يقومون به: التصويب على الرئيس!!
 
هذا منطق حاشية الرئيس. الثوّار مصدر الأزمات. لا نسمع في البرامج الحوارية إلّا الشتائم التي توجّه إلى الشعب القابل بكلّ هذا الذلّ. السؤال من هو هذا "الشعب" الذي يشتمه المتكلّم ويحمّله مسؤولية الخنوع؟ أليس حضرته من الشعب؟
 
وهناك شاب في مقتبل العمر في مكتب السفريات، والحلّ عنده باختصار: يا الله ياخدنا، يا ياخدهم يا ياخد الكلّ. تركونا بلا مستقبل.. وعن أصدقائه الشيعة يخبرني: أنّ وضعهم أسوأ من وضعنا. هم مغلوبون على أمرهم، متضرّرون ويسكتون خوفاً وكي لا يُخوَّنوا.
 
هذه عيّنة عن يوميّات اللبنانيّ وحياته التي تضيق يوماً بعد يوم.
 
من المُلاحظ أنّ مواضيع مقالاتنا، أصبحت تدور حول نفسها، نعالج المواضيع نفسها تكراراً. لأنّ ما نعيشه نوع من تكرار للمشاكل نفسها التي تزداد تدهوراً أمام جدار سلطة متحجّرة تتقصد إذلال الشعب وإلهاءه بمعيشته اليومية. ما يجري يخرج عن نطاق كلّ منطق. تتحوّل حياتنا إلى أحداث تتراكم فوق بعضها.
 
كلّ يوم تبرز مشكلة جديدة تُغرق البلد فينهمك المسؤولون في ما يوهموننا أنّها محاولات لمعالجتها!! وفجأة تبرز مشكلة أخرى فننسى معهم سابقتها ويصبح همنا مواجة الجديدة.
 
وهكذا دواليك بحيث نشعر أنّ الأحداث التي سبقت حصلت في زمن آخر سحيق. إنها دوّامة من المشاكل الدائرية المتناسلة التي تُغرق اللبناني فتخنقه.
 
تكفي قراءة عناوين الصحف ليوم واحد:
 
"العتمة الشاملة تهدّد بيوت اللبنانيين، نظام الرعاية الصحية في لبنان يتفكّك، أزمة المحروقات: الطوابير باقية، المطاحن إلى الإقفال، عمليات خطف عند حدود وادي خالد، غادة عون "إلعبي غيرها" ... "يللي حمى الإرهابيين عم يحمي المهربين"، "عون (رئيس الجمهورية!) اكشف المتهمين بالاحتكار والتخزين! من يلعب بنار الفتنة؟"، براكس (محطة بنزين): "انفراج في الأسبوعين المقبلين وتجّار "الغالونات"وراء أزمة الطوابير، مخاوف متصاعدة من "خربطة" أمنيّة جديّة، ارتفاع حالات التسمم الغذائيّ والأجهزة الأمنية تتحرّك، هل ستكفي كميّة المحروقات الإيرانية لبنان؟
 
غادة عون (قاضية) تشنّ غارة قاضية على القضاء، تقرير أمني روسي "خطير" لبنان على فوهة الانفجار الكبير، الجيش ينتشر لفرض الأمن بعد اشتباكات بين قريتين، هيبة الدولة على محكّ زعران عنقون، تصفية حسابات بين التيّار و"الثنائي في مغدوشة"، التأليف معطوب وتفويض اليونيفيل دعم الجيش، برّي يغمز من قناة التعطيل العوني و"يلكز" القانون الانتخابي، المواطن بين "إبرة" زيادة الرواتب و"مسلّة" ارتفاع الأسعار، القوى الأمنية "جوعانين يا بلدنا"، إرادة التعطيل تهدم فرص التشكيل، العقَد تتفاقم والعهد لم يشبع من "الوقت الضائع"، البلد على كفّ عفريت والمعنيون يعيشون على كوكب آخر، كارثة الطاقة ستسقط البلد... العام الدراسيّ في خطر."
 
ليس الجوع فقط ولا نقص الدواء ولا انقطاع الكهرباء وفقدان مازوت المولّدات وبنزين السيارات وغلاء الرغيف، الذي اسمه "العيش" عند المصريين، ولا فقدان الماء. لكنّها الطوابير التي تهلك اللبناني فتشغله وتدجّنه. طوابير في محطات البنزين، طوابير المصارف دوريّاً لأنّ قبض المستحقات بالقطّارة. طوابير الأفران... سوف يصبح لكلّ حاجة طابور.
 
تدهور حال اللبنانيين بشكل دراماتيكي. أمس سمعت أحد المتذاكين من ممثلي التجار يقول أنّ اللبناني يعيش الآن بحسب قدراته الحقيقية! "لأنّه كان يعيش من قبل فوق مستواه بسبب سياسة تثبيت سعر صرف الدولار على 1500 ليرة"!
 
مستوى اللبناني الطبيعي بالنسبة إليه: أن لا يسافر (حسناً!)، لكن أن لا يرتاد لا مطعماً ولا مقهى ولا يتذوّق اللحوم ولا الألبان والأجبان ولا يرسل أولاده إلى الجامعة ويصبح متوسط راتبه 37 دولاراً شهريّاً؟ وأن يعيش بلا ماء ولا كهرباء ولا دواء ولا رغيف؟ مستواه الحقيقي أن يفتقر الغنيّ لأن المصارف سرقت أمواله في سابقة لم يعرفها التاريخ؟ وأن تتبخّر ودائع الموظف ومدّخرات المتقاعد؟ الطبيعي إذا أن تختفي الطبقة الوسطى حرفياً فيعيش أكثر من 70 في المئة من المواطنين في الفقر المدقع؟ ما هذه الهرطقة؟
 
أمام كلّ ذلك تصبح أعصاب اللبنانيين في منتهى الهشاشة، دائماً على حافّة الانفجار، فتكثر الصدامات والعراكات والشجارات في عنف مجتمعيّ يتصاعد. بعضها بدأ يأخذ بعدًا طائفياً على غرار ما حدث في قرية مغدوشة المسيحية التي هاجمها شبان من قرية عنقون المجاورة رافعين هتافات "شيعة، شيعة، شيعة"، ليعتدوا على بعض المنازل ويجبروا أصحاب محطّات البنزين على تعبئة سيّاراتهم بالقوّة خارج دوام المحطّة. لا ندري بعد ما وظيفة وأبعاد تحريك هذه البيئة كما حصل إبّان الثورة من شباب خندق الغميق.
 
فهذه البيئة تلتزم تعليمات قيادتها عموماً. إفتعل المشكل وانتهى بتبويس اللحى بين رجال الدين، ليترك شروخاً ويشجع المسيحيّ على الهجرة.
 
في الوقت الذي لم يعرف لبنان هجرة بهذه الكثافة سوى مرتين، بحسب المشرف على مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية، ناصر ياسين، سوى هجرة المجاعة الكبرى إبّان الحرب العالمية الأولى وهجرة السبعينيّات أثناء الحرب الأهلية. وهذه الهجرة الجماعيّة الثالثة ستترك آثارها لعشرات السنين المقبلة وتعيق استعادة لبنان وضعه الطبيعي، حتّى ولو تشكّلت حكومة فوراً لتوقّف التدهور المستفحل.
 
أليست خطّة جهنميّة تُفرض بالقوة عبر خطابات مفوّهة وتوزيع اللاءات؟ فهل سينجح الحزب، بتواطؤ حلفائه ومعارضيهم، لتمكين إيران من الاحتفاظ بنفوذها في لبنان؟
 
ألا يبدأ تلمّس الحلّ بعصيان مدني شامل! وباستقالة النواب "السياديين"، وبقيام جبهة سياسية واسعة تعمل على تحرير لبنان بنزع الغطاء الشرعيّ عنه. ولا بدّ من الوقوف مع بيان المطارنة الموارنة الذي دقّ جرس الإنذار واتّخذ موقفاً حازماً ضدّ من يقف وراء محاولة إزالة لبنان.
 
نُشر في "الحرّة" أيضاً".
 
 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم