الأردن، وماذا بعد؟

الأخبار الأخيرة الواردة من عمان عن محاولة مجموعة محيطة بالأمير حمزة الأخ غير الشقيق للملك عبدالله، "زعزعة أمن المملكة" عبر عدد من الاتصالات، حملت من القلق أكثر بكثير مما حملت من إجابات. إذ لا تزال تثار الكثير من الأسئلة بخصوص الاعتقالات وحقيقة ما يمكن ان تعنيه كلمة "زعزعة الاستقرار" ومبررات هذا الانعطاف الدرامي في الحياة السياسية الداخلية وفي حياة العائلة المالكة ذاتها.
 
لطالما كان الرهان قائماً في الادبيات السياسية الغربية على قدرة هذا البلد بموارده المحدودة وبنتيه المركبة على البقاء في شرق اوسطي يقع بأسره كله على خط الزلازل الدولية.
لكن عبر عقود طويلة تمكنت المملكة من الإبقاء على بنيتها وشرعية الحكم فيها في مناخات عاصفة مرت بها المنطقة. لم يكن أولى هذه العواصف أيلول 1970 ولا آخرها تداعيات الانهيار الاستراتيجي العربي في العراق وسوريا. وفي حين تنقّلت النار في أرجاء العالم العربي إبان الموجة الأولى للربيع العربي، كان الامل دوماً ان تتمكن الأردن من ان تحتفظ بتوازنها.
والآن إذ تدخل المنطقة في سديم جديد عاصف، تنمو فيها مخاطر قديمة وتصعد فيها مخاطر متجددة، فإن السؤال كان دوماً، كيف يمكن وقاية هذه الصخرة من التداعي، في ظل تهديدات غاية في التعقيد لم يكن من الممكن تصورها من قبل.
 
الأمير حمزة بن حسين (أ ف ب).
 
فعلى حدودها الشرقية والشمالية تتحرك الميليشيات الموالية لإيران بكثافة وبكل حرية. في المقابل، وإضافة إلى العبء الاقتصادي الناجم عن تداعيات الحرب الاهلية السورية، فإن هذه الحرب انعكست بشكل مباشر على الصعيد السياسي والأمني لتصبح قضية إدارة الوضع الأمني في غاية الدقة والتعقيد. من جهة أخرى، فإن التطورات الاخيرة في عملية السلام بين بعض دول الخليج واسرائيل قد وضعت الأردن في مواجهة أسئلة استراتيجية وجودية.
 
خلال اجتماعات الملك عبدالله (أ ف ب).
 
لقد اتبع الملك حسين نهجاً حريصاً في إدارة البلاد، ففي حين كانت الدولة في طور التأسيس لعبت القوى العشائرية شرقي الأردن دوراً محورياً في تعزيز بنية الدولة ومؤسساتها وأجهزتها بما في ذلك الجيش وبناء منظومة الولاء الداخلي. لكن حال اليوم يختلف بشدة عن حال الامس.
النمو المجتمعي والحضري سرعان ما ألحق تبديلا في بنية المجتمع والاقتصاد. اذ تراجع الدور الاقتصادي للبنى القبلية والعشائرية ونمت طبقة متوسطة مدينية نشطة وطموحة وتسارعت الهجرة للمدن والبلدات لتصبح العلاقات المدنية والطبقة المتوسطة هي النمط المهين للعلاقات السياسية والاقتصادية وصارت التجمعات المدنية والثقافة المدينية جوهر الحراك المجتمعي.
لكن الاردن لم يتمكن من البقاء على قيد الحياة اقتصادياً دون مساعدات كبيرة من الخليج والغرب، وهو بلد صغير ومحروم من الموارد الطبيعية. ولم تجد الحكومات المتعاقبة أبداً، صيغة لتصبح اقتصاداً تنافسياً، مما جعل الأردنيين يعانون من مستويات عالية مزمنة من الفقر والبطالة.
وبحسب بعض التقديرات، يشكل السكان من غير المواطنين في الأردن سواء من الفلسطينيين او العراقيين او السوريين ما يقرب من نصف السكان. وعلى رغم أن هؤلاء اضافوا الكثير للاقتصاد والمجتمع، لكنهم غير مندمجين سياسياً، ولا اجتماعياً ولا يمكن الاعتماد عليهم كقاعدة سياسية.
 
الأمير حمزة بن حسين وزوجته (أ ف ب).

لقد عانى النمو الاقتصادي الأردني في العقد الماضي من البطء وتفاقم الفقر والبطالة. وإذا اعتبرنا ان ظاهرة الفساد هي ظاهرة اقليمية في الشرق الأوسط، فإن أثره يتفاقم في مناخ احتدام الازمة الاقتصادية.
 
وحين جاءت جائحة "كوفيد1 9" كان الوضع الاقتصادي الأردني يتوازن بصعوبة. ورغم ان الأردن قام بعمل لائق بالمقارنة مع العديد من الدول في محاصرة هذه الجائحة، الا ان العبء الاقتصادي للتدابير الصارمة التي فرضتها الحكومة والتأخر الكبير في عملية التلقيح زاد بشكل كبير من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية.
 
لقد سبق ان واجه الملك عبدالله أزمات مشابهة، وتمكن من تدبير أمور البلاد عبر عدد من التغييرات والتبديلات في الحكومة وفي التشريع. لكن التحديات الراهنة تبدو أكثر جدية. وبغض النظر عن ان ما ضُبط في الأردن سواء كان محاولة انقلاب او محاولة لزعزعة للنظام او مجرد اتصالات بين نخب مستاءة عملت على تجميع النقمة، فإن السؤال الآن هو: وماذا بعد؟
سيكون من الضار جداً البدء بتوزيع الاتهامات نحو الخارج شرقاً وغرباً، فذاك لن يغير من عمق التحدي. وعلى الصعيد الإقليمي تشكل إعادة صياغة موقع الأردن في الإقليم حلقة رئيسية في تحصين البلاد. وفي حين تتجه إدارة بايدن نحو وضع عربة الصراع الاسرائيلي-الفلسطيني على سكة الحلول، يمكن الأردن ان يكون منصة هذا المسار ليعزز بذلك موقفه الاستراتيجي وليصبح ضرورة لهذه الحلول. وفي حين لا يزال الأردن متمسكاً بدوره كخادم للاماكن المقدسة في فلسطين. فانه اشد ما يكون لمقاربة دولية متكاملة وجديدة لعلمية السلام الإقليمي.
لقد سارعت الدول العربية والصديقة للأردن إلى تأكيد حرصها والتأكيد على الشراكة مع الأردن في علمية السلام. وتلك فرصة هامة لمجابهة مخاطر الوضع الداخلي. فلو تركت هذه المخاطر لتتفاقم فإنها لا تبقي الكثير مما يمكن للأصدقاء فعله.
 
الأمير حمزة بن حسين وزوجته (أ ف ب).

إن القدرة على تعزيز وحدة البلاد وتقوية الوضع الداخلي هي الضمان الوحيد للخروج من الازمة الراهنة. وإذ يتحول العقد الاجتماعي في البلاد، وإذ تنمو القوى المدنية وتصعد مشاعر المواطنة والتشاركية الأردنية، فإن ذلك يضع البلاد والطبقة الحاكمة امام استحقاقات جوهرية لا يفيد فيها الجمود على الموجود ولا المنطق الأمني، في زمن أصبحت فيه الوحدة الوطنية لب الرهان.
لا شك في ان هذا ليس وقت اندلاع الخلافات داخل البيت الملكي، ولا وقت انفجار الصراعات الداخلية، ففي ظروف التحديات والتحولات الإقليمية الراهنة لن تنتهي هذه الخلافات بمجرد تعديلات هنا وهناك.
 
يجب تصليب الوضع الداخلي عبر إعادة إطلاق حزمة من الإصلاحات تحرر عجلة النمو وتطوير عملية مكافحة الفساد. فلقد تعمقت الازمات المتلاحقة من الازمة الاجتماعية إلى الاقتصادية. لكن الطامة الكبرى ستكون لو تحولت هذه الازمة الى ازمة سياسية. لقد ادارت العائلة المالكة شؤونها بالكثير من الحصافة لضمان الانتقالات السلسة عبر العديد من المطبات وستحمل المرحلة القريبة المقبلة العديد من التحديات.
 
وفي ظل صراع إقليمي دولي محتدم ومكشوف سيلقى الأردن الكثير من مثل هذه الألغام على جسور العبور الى مسار الامان والتنمية، سيتطلب ذلك الكثير من اليقظة ولا شك، لكن المطب الأكبر هو الذهاب للحل الأمني، بل لا بد من ادراك عمق التغيير المطلوب والاستجابة النشطة لمتطلبات التغيير والكثير الكثير من التروي.
 
ألا، حمى الله الأردن.