السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

السباق الرئاسي: "نحن كلنا ضباط"

منى فياض
صندوق الاقتراع في مجلس النواب (نبيل اسماعيل).
صندوق الاقتراع في مجلس النواب (نبيل اسماعيل).
A+ A-
ينسب اللبنانيون أنفسهم إلى الديموقراطيات العريقة، حيث تحترم الآليات الدستورية والقوانين، فتنقل السلطة حكماً إلى المعارضة. لكن ديموقراطية لبنان "غير شكل"، فكلما اقترب موعد الاستحقاق الرئاسي بدأ تناسل الاجتهادات القانونية والدستورية، المخالفة لكليهما، وتكديس الآراء والمواقف والمشاورات لتوقع ما الذي سيحصل في الموعد العتيد! وكأننا أمام ظاهرة كونية غريبة لا نعرف كيف نتعامل معها.

يحوّل اللبنانيون كل استحقاق إلى ولادة مستعصية. آخر بدعة، رفض تسليم حكومة تصريف الأعمال صلاحيات رئيس الجمهورية بالوكالة في حال حصول "فراغ" رئاسي!! لماذا الفراغ؟ لا ندري.

توضع الشروط والشروط المضادة لمنع انتقال السلطة بحسب ما جاء في الكتاب حسب مقولة فؤاد شهاب. ذلك أن انتخاب رئيس للجمهورية ضمن المهلة الدستورية، أصبح من الممنوعات التي فرضها حزب الله. فصرنا نعيش وسيف التلويح بـ"الفراغ" مصلتاً فوق رؤوسنا كفزاعة، بعد أن نجح حزب الله في جعل الفراغ إحدى  قواعد البلاد المرعية لتسييب لبنان وتركه محكوماً من خارج الدستور والقوانين.

بلد سائب على باب الله، يتحكم به ملالي إيران. فسفيرهم مارس لعبة إذكاء الغرائز المذهبية من على باب دار إفتاء الجمهورية اللبنانية. واللبنانيون "من غير دف بيرقصوا"، فسرعان ما دخلت المنظومة الحاكمة اللعبة التي اعتادتها: تفتعل الإشكالات الطائفية والمذهبية لتمرير صفقاتها، فيتموضع الأطراف المتنازعون في خنادق متقابلة. وتحت راية الصلاحيات الرئاسية الموزعة طائفياً، تشتعل حرب الغرائز المذهبية ويتمترس كل طرف خلف شارعه وطائفته ومرجعيته الدينية ليدافع عن زعيمه الطائفي.

هذا التمترس بين الطوائف وممثليها ليس جديداً، إذ ينقل سامر زريق عن مذكرات صائب سلام، المنشورة في أساس - ميديا، شكواه من أن الرؤساء الموارنة لطالما استخفوا برئاسة الحكومة وتلاعبوا بالمسترئسين من بين الوجهاء السنّة؛ وأنهم حاولوا باكراً إقامة تحالف شيعي – ماروني بوجه السنّة، فمارسوا الضغوط على النواب الشيعة. كما ضغط حافظ الأسد لإقامة حلف علوي - شيعي، لكن كامل الأسعد رفضه.

وهذا ما حدا بسلام الاستنتاج: "حسب تجاربي، ثبت ما كان يقوله لي والدي من أنّ المسيحيّين ليسوا أهلاً للحكم. المارونيّ إنْ لم يكنْ بحاجة إليك شمخ إلى السماء، وإذا احتاج إليك فهو يصغر ويتضاءل إلى أصغر من صغير. وهذا ينطبق على الجميع على ما يبدو، اللبناني عندما يأتي تأليف الحكومة ينسى الظروف التي نحن فيها، بل ينسى أمّه وأباه، وصاحبته وبنيه، بل والوطن الذي يضمّه، ولا يعود واعياً لغير حصوله على المركز الوزاري".

وعلى هذا المنوال يتصرف المرشحون لمنصب ما، على مبدأ: "أنا أو لا أحد". وهذا ما ينتج التشرذم الذي لطالما اشتكى منه السنّة؛ فبحسب تقرير القنصل البريطاني لحكومته عام 1943: "علّة المسلمين السُنّة في لبنان ليست في منْ أو في ما هو ضدّهم، بل هي في تشرذمهم وعدم التضامن في ما بينهم ".

وعلى هذا المنوال أيضاً يتصرف أخصامهم المسيحيون، الموارنة منهم خصوصاً، فكل واحد منهم مرشح حكما للرئاسة ومستعد لتقديم جميع التنازلات للوصول الى قصر بعبدا. في وقت يحتاج فيه لبنان، ليس إلى تضامن أبناء كل طائفة على حدة، بل إلى تضامنهم كمواطنين، وبذل أقصى الجهود للتنسيق وتقديم التنازلات، من أجل الوقوف في وجه الانهيار الذي يفرضه حزب الله على لبنان بتواطؤ مجتمع السياسيين المستفيدين.

إن مستقبل لبنان شأن اللبنانيين جميعاً، وليس شأناً خاصاً مارونياً ليرتهن لحفنة من المسترئسين المتنافسين في ما بينهم غير العابئين سوى بالوصول إلى المركز الأول.

سبق للانتروبولوجي فؤاد اسحق الخوري في كتابه "الذهنية العربية، العنف سيد الأحكام"، أن نقل مقولة سامي الصلح: "نحن كلنا ضباط".

ففي زمن انهيار المؤسسات الناظمة للدولة ينتفي عنها ترتيبها الهرمي وتستعيد سمات الذهنية العربية التقليدية هيمنتها. يتحول عندها الطامحون إلى المناصب إلى وحدات منفصلة متساوية ومستقلة بعضها عن البعض، كحبات المسبحة، لا يهمها إلا الوصول إلى السلطة والسلطان بواسطة الهيمنة والقوة، بحيث يسيطر الفرد، المير أو الإمام، على الجماعة والجمهور.

والإصرار على "الأول" يستتبع التعامل مع الآخرين على أساس أن الجميع متساوون. فإذا شاء كل منا أن يكون الأول فالصراع إذاً محصور بين متساوين- تماماً كأحجار لعبة "طاولة الزهر" التي تجسّد الذهنية العربية - حيث يكتسب الحجر - أي الفرد، أهميته ودوره تبعاً لمركزه وموقعه من الآخرين.

بهذا المعنى يصبح التركيز على الإجماع (في الطائفة) وفي العمل الجماعي (في مجموعة أو حزب أو حركة)، تكتيكاً للوصول الى المركز الأول. فالهدف الدائم بلوغ المركز الأول بين المتساوين. فكما أسعى أنا إلى المركز الأول أنت أيضاً تسعى إلى المركز عينه، الأمر الذي يولّد الشك في النفوس والتشكيك بنوايا من هم حولنا حتى ولو كانوا من الأقرباء المقربين. المسترئس معهم وضدهم في الوقت نفسه، وهذا مصدر القلق.

هذا المسعى المتناقض، أي أن يكون الأول بين متساوين، يفرض على المرء أن يكون ليّن العريكة، يتأرجح بين هذا الموقع المهيمن وذاك الموقع الأليف. ومن هنا يتصفون بما نسميه: انتهازية سياسية. فالمهم أن يكون الانسان فاعلاً من خلال مجموعة متلاصقة، متكاتفة، يهيمن عليها، يعتني بأمرها، يسيّسها، يتزعمها. ومن خلال هذا التزعّم يحدد موقعه من الآخرين.

أما بلوك الثنائي الشيعي المتلاحم، فتحكمه آلية ذهنية خرى. فمحتكرو التمثيل الشيعي للطائفة ككل، يجعلون من كل من يختلف معهم وينتقدهم "عميلاً" ومن "شيعة السفارة"، حتى ولو كان من أتباعهم في الأمس القريب.

لفهم آلية نشاطهم يجب معرفة كيفية تكوّن بناء العصبيات والجماعات المرصوصة. هذه المجموعات لا يمكن أن تبنى إلا عن طريق الأقطاب والأئمة، وأصحاب الشأن والحل والربط. إن تكوّن الجماعات، كالعشائر والقبائل والروابط العائلية والأحزاب والأمبراطوريات، مرتبط ببروز القادة الأكفّاء. فكم من أمبراطورية أو دولة قامت وانتهت بقيام القائد البطل وزواله.

فالمجتمع البشري هنا مؤلف من إخوة (التشديد على المساواة) يدورون في فلك إمام قائد. "الإمام"، هو الشخص الذي يؤمّ الناس وينتظمون في فلكه بروابط ثنائية تتكرر هي نفسها لتكوّن مجتمعاً مرصوص البنيان أساسه الفرد. الفرد كحلقة في سلسلة تكوّن الجماعة التي سرعان ما ينفرط عقد اجتماعها حينما يولي القائد ظهره، وسرعان ما يتجمع حين يعود.

وبالرغم من تعدد هذه النواحي المسلكية وتنوّعها، فهي تقوم على قاعدة ثنائية واحدة – قاعدة تنظيمية تجمع بين المحور وهو القطب المهيمن، والأفراد التابعين له الذين يدورون في فلكه، تماماً كالدولاب من دون إطار.



يصبح السعي إلى الهيمنة حينئذٍ مفهوماً ومسلكاً أساسياً في تعاملهم مع العالم – إنه امتداد حتمي للسلطة الإلهية. انه كالله القادر والناصر والفاتح والمجيد، هو الرحمن الرحيم. فالضعيف لا يمنّ على الناس بالرحمة.

القوة هنا تكمن في الأصوليات – الأهل والجماعة والنخبة أهل الحل والربط، ولا تكمن في عامة الشعب. الشعب أحجار "داما" تحركها النخبة السياسية. الشعب عجل مذبوح يؤكل لحمه ويُشرب دمه ويصفّق لهم.

فإذا كانت الهيمنة أسلوباً في التعامل بين البشر، يصبح العنف والتهديد به سيد الموقف. اللجوء إلى العنف أو التهديد لحل المشاكل البسيطة والمعقدة أمر محتوم يبرز في الكثير من التفاعلات اليومية. التهديد برفع الأصبع والضرب والقتل والاغتيال والاحتلال والتهجير والتدمير وقطع الأعناق يصدر بشكل تلقائي عفوي لاشعوري.

أما في ما يتعلق بشكوى جماعة السنّة من تشرذمهم ونقصان حيويتهم، ربطاً بما ورد على لسان صائب سلام ويردده بعض الكتّاب السنة، حين رفض بحزم تقوقع السُنّة عبر إقامة "جبهة سنّيّة" خالصة. الملفت رفضها ليس لأنها تتنافى مع المواطنية والانتماء الحصري للدولة، أو لأنها تؤجج الطائفية، بل لأنّه يرى في ذلك "تنفيذاً لمآرب الذين يريدون أنْ يصنّفوا السُنّة في لبنان طائفة كإحدى الطوائف الستّ عشرة التي يتألّف منها لبنان".

عندما يرفض السنّة كونهم طائفة كسائر الطوائف اللبنانية ومتساوية معهم، لأن انتماءهم الى الأمة جمعاء! ألا يحق لنا طرح بعض الأسئلة عليهم:
ـ هل منع انتماء المسيحيين إلى الفاتيكان بأن يكونوا طائفة ضمن الست عشرة طائفة؟

ـ ثم لماذا إذن الاعتراض على إعلان شيعة حزب الله تبعيتهم وولاءهم للتشيع العابر للحدود الوطنية؟

إذن، أليس الأجدر بهم إعادة النظر باعتبارهم لنفسهم وبسلوكهم وخطابهم هم أيضاً؟ فيستعيدون تموضعهم طائفة كسائر الطوائف اللبنانية؟ ويفرضون سلوكاً وطنياً لبنانياً جامعاً؟!
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم