الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

جيم جونز والقضية اللبنانية

تعبيرية (نبيل إسماعيل).
تعبيرية (نبيل إسماعيل).
A+ A-
إيلي حداد

قد لا يعرف العديد من الناس في لبنان قصة جيم جونز.

جيم جونز كان الأب الروحي لجماعة دينية تعرف بـ"شعب المعبد" Peoples Temple، وتضم نحو ألف شخص من كاليفورنيا، معظمهم من الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية. ومع أن جونز كان أبيض البشرة، إلا أنه استقطب تلك المجموعة من الناس حوله في سبعينيات القرن الماضي، بعدما كان قد أسسها في إنديانا في العام 1955.
 
لاحقاً، بعد اطلاعه على أحد التقارير الصحافية التي أدرجت لائحة بأكثر الأماكن أماناً في حال حصول حرب نووية، انتقل مع مجموعته الأولى الى بلدة يوريكا في كاليفورنيا. كانت نظرة جونز الدينية مرتبطة الى حدّ بعيد بهذه المخاوف من "نهاية العالم"، وكالراعي الصالح حاول تجسيد هذه النظرية كالإنسان المختار لإنقاذ مجموعته من هذه النهاية التراجيدية. مع تنامي الاهتمام الاعلامي بنشاطاته المشبوهة، سيطرت على ذهنه مخاوف "بارانوية" من الملاحقة والاضطهاد فانتقل مع مجموعته وأنشأ مستوطنة زراعية في نواحي غوايانا في أميركا اللاتينية.
 

في العام 1978 قام أحد النواب في مجلس الشيوخ الأميركي بزيارة تفقدية للمستوطنة الجديدة للوقوف على أحوال العائلات التي انتقلت الى هناك، فما كان من جونز إلا أن أعطى التعليمات باغتياله مع الوفد المرافق. بعد الحادثة، أعطى جونز الأمر الى أتباعه بتناول مشروب سام، ما أدى الى مقتلهم جميعاً، من ثم أقدم بنفسه على الانتحار. أدت هذه الحادثة الى صدمة عامة في المجتمع الأميركي الذي لم يستطع فهم دوافع هذا الإنسان الذي تحوّل فجأة الى قاتل جماعي.

حاول العديد من الباحثين تحليل شخصية جيم جونز ودوافعه، بعدما كان من المبشرين الملهمين الذين نادوا بالعدالة والمساواة العرقية والاجتماعية، وردّ بعضهم هذا التصرف المجنون الى الجوانب القاتمة من شخصيته، فهو كان مهووساً بالسلطة وبالرغبة الجامحة للسيطرة على مجموعته، منتظراً منهم الولاء المطلق، فكان غالباً ما يبدي انفعاله وغضبه الجامح على كل من يُظهر أية بوادر خيانة تجاهه وتجاه رسالته.

ليس من علاقة مباشرة بين جيم جونز والسياسة في لبنان. إنما مظاهر الحملات الانتخابية التي بدأت، حيث يظهر بعض "زعماء" الوطن أمام حشود من الأزلام، يهتفون لهم بحياتهم فيما تحوّلت حياتهم الى معاناة يومية وجودية، وتحوّل الوطن الى أشبه بمزرعة، وفيما يتنصّل أولئك الزعماء من أية مسؤولية لهم في الكارثة التي حلّت اقتصادياً وسياسياً، حتى درجة التنصّل من أية مسؤولية لهم أو لأزلامهم في جريمة العصر في 4 آب، كل ذلك، أعاد الى ذهني قضية جيم جونز.
 

فهل يا ترى نحن أمام واقع لم يعد فيه من وجود للمواطن بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإنما لطوائف متشعبة ضمن كل طائفة، يقود كل مجموعة منها جيم جونز مستعد للتضحية بها، وهي مستعدة للموت من أجله ولفدائه؟ هل وصلت "التعبئة الايديولوجية" الى درجة ينسى فيها الناس ما حلّ بهم وبمدينتهم في 4 آب فيتغاضون عن الجريمة ويشاركون في تجهيل الفاعل وحتى في الدفاع عن بعض المتهمين بالجريمة؟ هل وصلت درجة الغشاوة السياسية إلى نسيان الوعود الانتخابية السابقة، من عام 2009 حتى اليوم بإعادة هيكلة الاقتصاد وتطوير النقل العام وحلّ مشكلة الكهرباء المزمنة والمياه وغيرها من مستلزمات الحياة؟ هل يتغاضى الشعب عن مشاريع السدود الفاشلة والتوظيفات العشوائية وغيرها من التنفيعات التي أفرغت المالية العامة وحوّلت الدولة الى مؤسسة مفلسة تستجدي المساعدات لأبسط الأمور؟

لا يمكن أن نفهم هذه "الغشاوة السياسية" إلا من خلال مطالعة وتحليل ظواهر "أبوكاليبتية" مثل قضية جيم جونز حيث يتحوّل الزعيم الملهم الى أيقونة مقدسة لا يسمح بتوجيه أية مساءلة له، ويكون بيده وحده قرار الحياة أو الموت، الذي في أغلب الأحيان يقود الى الخراب والموت، كما يحصل أيضاً اليوم في حقول أوكرانيا الخصبة المضرجة بدماء الأبرياء.
 

جيم جونز لم يكن بحجم مهووس آخر مثل زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، وإن كان هنالك تشابه بالأسماء. إلا أن المقارنة مع زعماء الطوائف في لبنان ممكنة، لأنه، على المستوى نفسه، استطاع حشد مجموعة من الناس حوله في ما يشبه حزباً صغيراً أو "cult" بالمعنى الديني، وهو مثل زعماء الطوائف مستعد للذهاب الى النهاية والتضحية بهم في سبيل الحفاظ على "هالته" ومشروعيته ورسالته. إلا أن الفرق الوحيد بين جونز وزعماء الطوائف، هو أنه كان أيضاً مستعداً للموت، فيما هم قد أمنوا ملاذهم في الخارج، شرقاً أو غرباً، في حال سقوط الهيكل، ليلجأوا مع أسرهم الى أماكن أكثر أماناً ويستمرون بالتمتع بالحياة في قصورهم ويخوتهم، بينما يتركون شعبهم في ساحة الموت. هذا ما علّمتنا إياه التجارب السابقة، والتاريخ، كما نعرف، يعيد نفسه وإن بأشكال وممثلين جدد.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم