غسان صليبي
لا ليس حزنا ولا غضبا. يمكن للدراسات ان تسميه ما تشاء. فقد اظهر مؤشر "غالوب" ان لبنان سجل اعلى نسبة حزن وغضب لعام ٢٠١٩ وكُتٍب انه لم يسبق لمؤسسة إحصائية ان سجلت صعودا مماثلا للمشاعر السلبية عند اي شعب آخر في العالم كما لم تشهد اي دولة اخرى في العالم ارتفاعا كبيرا في التجارب السلبية في جميع المجالات مثل لبنان.
هذه إحصاءات ٢٠١٩، فماذا ستقول الإحصاءات سنة ٢٠٢٠؟ سترصد بالتأكيد ارتفاعا إضافيا في نسب الحزن والغضب. لكن لا، لم تعد نظرة حزن ولا غضب ما اراه على وجوه اللبنانيين. اعرف هذه النظرة جيدا، فلقد عايشتها واختبرتها وترافقت معها لسنوات طويلة. لا يمكن ان أخطئها.
انها نظرة اصدقائي الفلسطينيين وهم يشرحون لي كيف ان الارض ارضهم ومع ذلك مطلوب منهم اقناع العالم بحقهم في قطعة ارض صغيرة منها.
انها نظرة امرأة معنّفة وهي تتساءل امامي كيف يُطلب منها ان تبرهن انها متساوية مع رجل لا يمكن ان يولد الا من رحم إمرأة مثلها.
انها نظرة الانسان المُحِقّ والمقهور.
ليس الاحساس بالقهر حزنا مستكينا ولا غضبا متواصلا. انه حزن لا يريد ان يلبس السواد، لكنه لا يجد فرصة لخلعه. انه غضب لا يريد ان يصرخ في البرية، لكنه يعيش بين جدران ابتلعت حتى الصدى. انه حزن بدمعة ناشفة وغضب عالق في الحلق.
انه القهر.
نعم، شعبنا "مقهور" اليوم، كما نقول في لغتنا العامية. وقد بدأ يشعر بما يشعر به الفلسطينيون منذ اكثر من نصف قرن، وبما تشعر به المرأة منذ آلاف السنين.
انه القهر، عندما تضيق في وجهك جميع السبل، ولا تعود تعوّل الا على ضمير المسؤولين، فيأتي رئيس البلاد ويقول لك ان ضميره مرتاح.
انه القهر، عندما ينهار كل شيء امامك ويبقى احتمال دخول "حزب الله" في حرب مع اسرئيل واردا في كل لحظة، دفاعا عن ايران.
انه القهر، عندما يُجمِع الداخل والخارج على ان سلطتك فاسدة وفاشلة، ومع ذلك تبقى هذه السلطة في الحكم.
انه القهر، عندما تحاصرك اميركا بحجة معاقبة "حزب الله"، فيطالك العقاب ويتحصن "حزب الله" بماله وسلاحه، ويتحضر لترجمة نفوذه دستوريا.
انه القهر، عندما تحتاج الى حكومة ترتب الارض لفتات دعم يأتيك من الخارج ويبقيك على قيد الحياة، فيما اطراف السلطة يتلهون بالتناحر على اقتسام أشلاء جثة.
انه القهر، عندما تُدَمّر عاصمتُك ويُقتل أبناؤها بتواطؤ مثبت من سلطتك، ولا يجرؤ القضاء على مقاضاة احد.
انه القهر، عندما يتأكد بالوثائق، انتشار الفساد والهدر والسرقة في مؤسسات الدولة، ويصبح التدقيق الجنائي لعبة بيد الجناة.
انه القهر، عندما يجري تهريب السلع المدعومة عبر الحدود، ويضطرك العوز للمطالبة بعدم رفع الدعم.
انه القهر، عندما يحاصر الفقر نصف شعبك، ولا يجد الفقراء نقابات تدافع عنهم، فيلجأون كالأذلاء الى افراد السلطة التي افقرتهم.
انه القهر، عندما تُسرق مدخراتك نتيجة سياسات سلطتك بالتكافل والتضامن مع المصرف المركزي والمصارف، بينما تقف انت ذليلا تتسول من المصارف عملة وطنية لا قيمة لها.
انه القهر، عندما يقود شعبك انتفاضة وطنية خلاقة ويجري لجمها بالقوة وبالتهديد العلني، ولا تجرؤ معظم مجموعات الانتفاضة على تصعيد المواجهة في وجه مَن قمعها، بل تنغمس في نقاشات عقيمة حول ضعف تنظيمها وغياب برنامجها، محمِّلةً نفسها المسؤولية.
انه القهر، عندما يحلم شباب بلادك بالعيش في اي بلد غير لبنان، بعدما حملوا علم بلادهم عاليا وجابوا به الشوارع والساحات في كل المناطق اللبنانية.
انه القهر، عندما لا تعود قادرا لا على الحزن ولا على الغضب، فقد اصبحت تغضب عندما تحزن وتحزن عندما تغضب.
انه القهر، عندما تشعر بالعجز الكلي، فيما عقلك وجسدك لا يزالان سَليمَين.
***
لكن القهر هو أيضا ان تشعر بأنك محق، رغم كل المصائب التي تحيط بك.
ربما اصبح لزاما عليك انْ تسأل الفلسطينيين كيف تمكنوا من الاستمرار في العيش مرفوعي الرأس.
وأنْ تسأل المرأة كيف تمكنت من الخروج من سجن التاريخ حاملةً راية المساواة.
وأنْ تسأل أجدادك كيف تمكنوا من ابتكار طرق للعيش بسلام بعد الويلات والمذابح.