الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

إلغاء الطائفيّة السياسيّة مطلب طائفي

المصدر: "النهار"
مشهد من انتفاضة بيروت في 2019 - "أ ب"
مشهد من انتفاضة بيروت في 2019 - "أ ب"
A+ A-

د. غريس إلياس*

 

"لبنان أكثر من بلد، إنّه رسالة حريّة ونموذج تعدّديّة للشرق كما للغرب"،  كما قال عنه البابا يوحنا بولس الثاني.

أن نعيش معاً لا يعني أن نلغي هويتنا وتاريخنا وجذورنا وانتماءنا. إن الطائفة هي هذه الهوية والانتماء، وليس لها طابع سلبيّ كما يحاولون أن يصبغوها، فإن الغنى في التعددية والاختلاف، وليس الخلاف، لأن الحياة مبنيّة على التعدّدية. وإن إلغاء هذا الانتماء وهذه الهوية هو أمر يترك لمسار تطوّر التاريخ، وليس أمراً مفتعلاً بالقوّة، وأكبر مثال على ذلك العلمانية التي فرضت على الدولة التركية. فالمجتمع لم يستطع أن يلغي هويته الإسلامية، الامر الذي ينعكس على الدولة التركية اليوم؛ وأكبر دليل على ذلك هو إعادة تحويل متحف آيا صوفيا الى مسجد، هذه الهوية لا تلغى بالقوة.

إن المطالبة بإلغاء الطائفيّة السياسيّة مع بقاء الواقع المجتمعي الطائفي كما هو عليه اليوم سيتحقق على حساب مجموعة أو مجموعات معيّنة، وستكون النتيجة واقعاً إقصائياً متفجراً. إن شكل الدولة وشكل النظام السياسي يجب أن يعكس تركيبة المجتمع، وأيّ نظام سياسيّ يجب أن يأخذ الواقع المجتمعي للبنان. أتت الطائفيّة السياسيّة لمُصالحة السلطة السياسية مع المجتمع اللبناني، فالطائفيّة السياسيّة هي الترجمة الحقيقيّة على صعيد السلطة للديمقراطيّة التوافقيّة، والديمقراطيّة التوافقيّة هي النمط السائد في المجتمعات المُركّبة. بوجود جماعات متعدّدة لا يمكننا تطبيق ديمقراطية الأكثرية، وبديل الديمقراطية التوافقيّة في مجتمع مركّب هو حرب أهلية أو تقسيم.

وما مطلب إلغاء الطائفيّة السياسيّة وكلّ من يدعمه، ويقف وراءه، إلا طرح طائفيّ خبيث، الهدف منه محاولة سيطرة المكوّن الأقوى عدديّاً وعسكريّاً على باقي المكوّنات الثقافيّة الطائفيّة، والاستيلاء على حقوقها ومقدراتها.  والنتيجة ستكون في القضاء على مشاركة كلّ اللبنانيين في تقرير مصير الوطن، وإقصاء الأقليّات الطائفيّة عن تحمّل المسؤوليّات الوطنيّة وتحويلها إلى مواطنين كاملي الحقوق نظرياً، وإلى مواطنين لا حقوق لهم بل واجبات فقط عمليّاً.  يقول الدكتور فؤاد إسحق الخوري في هذا السياق: "...للّبناني وجهان، وجه طائفيّ ووجه ظاهريّ لا طائفيّ. وفي هذا المجال يُمكن القول، بصراحة، إننا كلنا - مسلمون كنّا أم مسيحيّون - نمارس نوعاً من التقيّة الطائفيّة. نحارب الطائفية في الظاهر، ولا نطمئن إلى نوايا الطوائف الأخرى في الباطن".

والجدير بالذكر أنّ المجتمعات تميل حاليًّا إلى التعدّدية، أي إلى التعايش وليس إلى التلاحم. لكنّ العامل المؤثّر في قيام علاقات تعايش راسخة فيما بينها هو في تحقيق العدالة وسيادة الديمقراطيّة والمساواة، وعدم تسلّط مجموعة على أخرى، والاعتراف بالآخر، ثقافة وخصوصيّة. وليست الكارثة في اختلاف الرأي فحسب بل الكارثة الكبرى أن يكون الجميع في الطريق المؤدّية إلى الهاوية. فلبنان لا يحكم من خلال حقّ الأقوى، بل من خلال حقّ الحرية للجميع.

يحذّر الإمام محمّد مهدي شمس الدين من إلغاء الطائفية السياسية، ويقول: "تبيّن لي أنّ إلغاء نظام الطائفيّة السياسيّة في لبنان يحمل مغامرةً كبرى قد تهدّد مصير لبنان، أو على الأقلّ، ستهدّد استقرار لبنان... لذلك أوصي الشيعة اللبنانيّين بوجهٍ خاصّ، وأتمنّى وأوصي جميع اللبنانيّين، مسلمين ومسيحيّين، أن يرفعوا من العمل السياسي، من الفكر السياسي، مشروع إلغاء الطائفيّة السياسيّة...". ونشير إلى أنّ هذا المطلب حمله المكوّن السياسي الشيعي في لبنان، حتّى أنّ إقراره في وثيقة اتّفاق الطائف اعتبر إنجازاً للمكوّن الشيعي، وأبرز من نادى به الرئيس نبيه برّي حتّى اليوم. وفي كلّ محطّةٍ مفصليّةٍ من تاريخ لبنان يتمّ المطالبة بإلغاء الطائفيّة السياسيّة باعتبارٍ ساذجٍ وهو أنّ إلغاءها ينهي كلّ الأزمات السياسيّة في النظام اللبناني ويقضي على الفساد، والزبائنيّة، والمحسوبيّة، والفئوية السياسيّة، ومحاولات الاستئثار بالنفوذ والسلطة، وهذه المسبّبات موجودة في نظام طائفي سياسي وفي غير نظام طائفي سياسي، المُشكلة في ذهنيّة القيادات التي تُمارس السلطة، التي تستغلّ الطائفيّة السياسيّة.

من هنا أهميّة التنبه لكل جهة تطرح إلغاء الطائفيّة السياسيّة في هذه اللحظة التاريخيّة مع ما يعني ذلك من القضاء على الأقليات الثقافية والهويات والتنوع في هذا البلد المركب.

 
*حائزة على دكتوراه دولة في العلوم السياسية من الجامعة اللبنانية. كاتبة وباحثة في الشؤون السياسية اللبنانية، صدر لها كتاب: "دور السُّنّة في لبنان بعد اتفاق الطائف".

 

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم