"داعش" بين الوجود واللاوجود

الدكتور جيرار ديب
 
أعربت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، عن قلقها من عودة ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، فيما تتواصل تعبئة العسكريين الفرنسيين ضمن تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وأكّدت الوزيرة في تصريح أدلت به لتحالف إعلامي يضم محطتيّ "فرانس إنتر" الإذاعية و"فرانس إنفو.تي.في." التلفزيونية وصحيفة "لوموند" الفرنسية "أن فرنسا تعتبر أن تنظيم الدولة الإسلامية ما زال موجودًا، حتى أنه يمكن الحديث عن شكل من أشكال عودة ظهور داعش في العراق وسوريا".
 
منذ سقوط بلدة الباغوز في وادي الفرات حيث كان المعقل الأخير لتنظيم الدولة الإسلامية، يمكن أن نلاحظ أنّ داعش يستعيد قوته في سوريا والعراق، وربما في لبنان وأي منطقة يراها التنظيم في عملياته. قد لا نبالغ عندما نقول إنّ داعش موجود، وإنّ القضاء على وجوده الميداني لا يعني إنهاء حالة الداعشية، لأنّ داعش تمثّل فكرًا ايديولوجيًا لا يموت، بل يبقى موجودًا إلى حين تسمح له الظروف بالخروج والتعبير.
 
شهدت المنطقة بين سوريا والعراق وصحراء سيناء في مصر أحداثاً متشابهة؛ ففي العراق حصل تفجير إنتحاري في بغداد الأسبوع الفائت، حيث فجّر انتحاري نفسه في منطقة الباب الشرقي التجاري المكتظة بالمتبضّعين، موقعًا عشرات الضحايا. وبعدها بدقائق تجمهر عدد من الأشخاص حول شخص كان يصرخ وسط الشارع متظاهرًا بأنه مريض ويحتاج إلى المساعدة، قبل أن يفجّر نفسه بمن حوله، مخلّفًا هو الآخر عشرات الضحايا.
 
هذا المشهد البغدادي تكرّر في سوريا وفي صحراء سيناء؛ أمّا المفجّر فيتبناه تنظيم الدولة الإسلامية، والضحايا إمّا من المدنيين أو من العسكريين، كما في تلك الحافلة التي فجّرت في سوريا وأودت بعشرات القتلى من الجيش السوري.
 
التنظيم، حيكت عنه الكثير من الفبركات التي تناولت مَن أسّسه. فمنهم من اتّهم المخابرات الأميركية والإسرائيلية، كي يبرّر لنفسه أعماله العسكرية على مناطق، كان يريد تحريرها بعدما خسرها. ومنهم من يعتبره صناعة إيرانية وما تصريح وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، حول علاقة بن لادن والبغدادي في الجمهورية الإسلامية إلا مفاجأة عند كثيرين.
 
لم يعد مهمًا السؤال: من صنع تنظيم الدولة الإسلامية؟ بل بات الأهم التساؤل حول: ما سبب إعادة إحيائه من جديد بعدما شاركت دول العالم بضربه والقضاء على دولته، في هذه الظروف تحديدًا؟
 
صحيح أنّ التنظيم يمثّل ذلك الفكر الإنعزالي، الإرهابي والترهيبي المتبني فكرة إعادة الدولة الإسلامية وخلافتها إلى المنطقة العربية، وما سيناريو البغدادي يوم اعتلى المنبر في الجامع وأعلن تنصيب نفسه خليفة إلا دليل على ذلك. ولكن الأصحّ والمؤكد، أن لا أحد من المفتين ورجال الدين والشعب المسلم في العالم، يعتبر بأنّ تنظيماً كهذا يمثّله. إذًا، ما الهدف من وجوده في هذه البقعة من الشرق الأوسط؟
 
في مصر، أعمال تنظيم الدولة تتركّز في صحراء سيناء، وأغلبية الأعمال الإرهابية، تتمحور في هذه البقعة الجغرافية. أولًا، بسبب المساحة، وهذا طبيعي، إذ لا يستطيع الجيش المصري ضبطها بطريقة حازمة، فيستغل الداعشي ذلك، وتكون تحركاته أكثر تحررية من ضوابط الرقابة. وثانيًا، قطع الطريق على الجيش المصري من التموضع بشكل صحيح على الجانب الإسرائيلي.
 
من الناحية التاريخية، تمثّل مصر، بحسب نظرية هالفورد ماكندر "قلب العالم"، نقطة الارتكاز الجغرافي العربي. لذا زحف محمد علي باشا من نقطة الإرتكاز الى قلب الشرق الأوسط، الهلال الخصيب. وفي الصراع العربي مع إسرائيل، تنبّه مناحيم بيغين، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، في كامب ديفيد، إلى أهمية إخراج نقطة الارتكاز من الصراع العربي، لأهمية مصر الاستراتيجية في السيطرة على الشرق الأوسط. لهذا السبب، فإنّ وجود التنظيم في هذه البقعة من مصر، يعيق التفكير الإستراتيجي لمصر، ويحدّ طموحها من الدخول إلى قلب الشرق الأوسط، عبر تشغيل جيشها في جيوب إرهابية كداعش على سبيل المثال.
 
يقول وليم هاملتون، إنّ الاستراتيجيين في وزارة الدفاع الأميركية، وفي مجلس الأمن القومي الأميركي، قد تأثروا بنظرية ماكندر، فاحتلوا العراق لأنه يمثل قلب المنطقة العربية والآسيوية. لذا، فوجود داعش بعمليات إرهابية متنقّلة مهم لرسم المعادلة على احتلال العراق بين الأميركي والمليشيات الإيرانية، لا سيما بعد تصاعد وتيرة الهجوم الصاروخي على المنطقة الخضراء، والتهديد الإيراني بالانتقام من مقتل سليماني. وقد يكون وجوده أيضًا، تبريرًا لوجود إيران عبر وكلائها في العراق بحجة محاربة داعش، وتأثير تعاظم وجوده على حدودها.
 
في سوريا، كما في العراق، وجود التنظيم دليل على الاستفادة منه من مختلف الأفرقاء، بحيث أعطاهم الحجة الدامغة لشرعية وجودهم على الأرض السورية. المشهد السوري قد يختلف بعض الشيء، بوجود اللاعب التركي، ووجود قسد، أو قوات سوريا الديموقراطية، التي هي بحماية القيادة الأميركية في المنطقة.
أخيرًا، داعش في الوجود يشكّل تلك الورقة الرابحة لمختلف القوى المتصارعة على أرض المنطقة العربية، والتي على ما يبدو تطبّق سياسة التقسيم للمنطقة، كما رسمها زبيغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيس السابق، جيمي كارتر، عبر خلق تنظيم يدفع القوى الإقليمية للتصارع وافتعال الحروب لتفتيت المنطقة استعدادًا لتقسيمها إلى كيانات متصارعة، على أن يكون الأقوى فيها الكيان الصهيوني. وداعش في اللاوجود، ستبقى حالة حاضرة إلى حين في كل زمان ومكان، تستعمل بالوقت المناسب لتحقيق المشاريع.
 
* أستاذ جامعي ومحلّل سياسي