النهار

النهار

إسرائيل... غزوة "البيجر"، حرب الاغتيالات وقواعد الاشتباك الجديدة
المصدر: "النهار"
إسرائيل... غزوة "البيجر"، حرب الاغتيالات وقواعد الاشتباك الجديدة
تشييع ضحايا "البيجر".
A+   A-
د. خالد محمّد باطرفي
 
في عالم يمضي إلى الفانتازيا المستقبلية بخطى متسارعة، يعود الإنسان إلى الكهف من جديد، ولكنّه هذه المرّة كهفٌ الكترونيٌّ يتواصل فيه مع مجتمعه ويؤدّّي أعماله عبر الأثير.
 
لم تحقق إسرائيل هدفاً استراتيجياً معلوماً بتفجيرها أدوات الاتصال اللاسلكية لشبكة "حزب الله"، فهي، حتّى الآن، لم تستغلّ الارتباك الناتج بتنفيذ عمليات غزو برّي في جنوب لبنان، ولم تجبر الحزب على التنازل أو الاستسلام، ولم تُعد ٧٠ ألف مستوطن إلى مستعمرات الشمال. إلّا أنّها نجحت في الحرب النفسية باستعراض قدراتها التقنية على إعادة الحزب إلى الكهف، أو إخراجه منه إلى الفضاء المكشوف لتنفيذ ضربات جوّية مكثّفة لمنصّات صواريخه المعدّة للردّ ومخازنها وشبكة تواصلها. فيما واصلت عمليات الاغتيال لقيادات الحزب، من الصف الأوّل والثاني، في عمليات استهداف دقيقة تكشف مدى الاختراق الأمنيّ والاستخباراتيّ الذي حقّقته. مع تفادي مدروس ودقيق للجيش اللبنانيّ ولقائمة من المناطق التي لا تخضع لهيمنة الحزب ومن ورائه إيران وسوريا. يأتي ذلك ضمن توافق على قواعد الاشتباك تمّ مع واشنطن وباريس نيابة عن الغرب.
 
فرغم التداخل المناطقيّ والسياسيّ والطائفيّ، تفادى العدوان الصهيوني المواقع الحيوية كالمطار والميناء، والمناطق السكنية ومحطّات المياه والطاقة والمستشفيات والجامعات والبعثات الدبلوماسية، وكلّ الأحياء السكنية، إلّا الضاحية الجنوبية في بيروت وبيئة الحزب في البقاع والجنوب.
 
وطالما لم تُستهدف إسرائيل من المواقع المستثناة، فالضمانات المقدّمة من تل ابيب، أن يستمرّ الالتزام بقواعد الاشتباك الراهنة تفادياً لتوسيع رقعة الصراع، وحماية لغير المشاركين فيه. مع الأخذ في الاعتبار إمكانيّة ارتكاب الأخطاء السياسية والعسكرية من أيّ طرف، في أجواء مشحونة ومضطربة، قد تتجاوز سيطرة الحكّام، وتخرج اللاعبين عن قوانين اللعبة.
 
لقد أدخلت تل أبيب الحرب السيبرانيّة الناشئة إلى طريق لم يكتشف بعد ولا تعلم مآلاته. تماما كما فعل الإنسان في القرون الخمسة الماضية باختراع البارود والصاروخ ثمّ الذرة. ففي كلّ مرّة كان التفوّق النسبيّ للرواد يقود خصومهم إلى سباق خطير ينتهي بحروب قتل جماعيّ لا تبقي إنساناً أو نباتاً أو حجراً.
 
وكما قاد المستعمرون الأوروبيون ثمّ النازيون فالأميركيون التحوّلات الكبرى في أدوات الدمار الشامل، جاء دور إسرائيل، لتفتح أبواب جحيم آخر للبشرية. وفي هذه المرحلة يتمّ تحويل أدوات التواصل والإنتاج والتنمية إلى قنابل موقوته تقتل بكبسة زرّ كل من يحملها.
 
وهكذا تسقط موثوقية أعظم مخترعات البشرية في القرنين الماضيين. فبعد أن حقّق الإنسان حلم تجسير المسافات وتسريع المواصلات وتيسير التواصل بين الناس، توصّل أشرار الكون إلى اختراعات تحطّم كلّ ما سبق وتفسد كلّ نتاجه الحضاريّ.
 
وللإنصاف، لم تكن إسرائيل أوّل من أدخل الوباء القاتل إلى عالم الاتصالات، فقد سبقها قراصنة الإنترنت في الشرق والغرب، في روسيا وأميركا والصين وإيران، باختراق الفضاء السيبرانيّ تحقيقاً لمكاسب مادية، أو عمليات تخريبية، شخصية، وجماعية، ودولية.
 
وعملت أجهزة الاستخبارات والشركات الدولية على الاستفادة من هذه القدرات لاختراق شبكات المنافسين والخصوم لسرقة البيانات وشلّ العمليات، ودسّ الفيروسات ونشر المعلومات المضلّلة.
 
كلّ ذلك أثّر على ثقة الناس بالأدوات التي يتواصلون بها ويعملون عليها ويحفظون فيها معلوماتهم وأسرارهم. ولكن أكثرهم صمد واكتفى بالبرامج الأمنية المضادة التي تعد أكثر ممّا تفي، لسبب بسيط أنّ السكّين لم يصل إلى الرقبة.
 
ما فعلته إسرائيل كان أسوأ وأخطر من كلّ ما سبق. فاستهداف البورصة العالمية أو البنوك والشركات الكبرى قد يصيب العالم بشلل مؤقّت، سرعان ما تتكاتف الحكومات وكبار القادة في القطاعات المتضرّرة لاحتوائه ومعالجته. أمّا استهداف الأفراد في بيئتهم الحياتية والعملية، في الشارع والسوق والبيت، وحتّى المستشفى، فهي أشبه بالحرب الجرثومية.
 
كما أنّها تكشف عن وجه أقبح من كلّ الوجوه التي سبق كشفها، لها ولمن يدعمها. فخلال عام واحد تحوّلت صورة واحة الديمقراطية والإنسانية والحضارة في الغابة الشرق أوسطية، إلى غول تخفّى طويلاً في ثياب الإنسان حتّى قرّر أنّه لم يعد في حاجة إلى التخفّي. وأثبت ضعف المجتمع الدوليّ والمحيط الإقليميّ، والدعم الأعمى للحلفاء، انّه محقّ.
 
ولذلك، بات على جميع الدول العربية التي تصالحت مع إسرائيل وطبّعت معها استخدام كلّ أوراق الضغط المتاحة للتأثير على قرارتها والقيام بما يمكن لتصحيح المسار. وتكثيف القيادات العربية والإسلامية الحراك السياسي والدبلوماسي مع المجتمع الأممي والمحاكم الدولية الذي انطلق من القمة العربية الإسلامية التي عقدت في الرياض مطلع العام.
 
كما أثبتت الأحداث أنّ السعودية كانت محقّة عندما اشترطت اختبار النوايا الإسرائيلية بإلزامها وضع الحصان قبل العربة. فلا تطبيع بدون قيام دولة فلسطينية ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية، على كامل الأراضي المحتلّة في حرب ١٩٦٧.
 
ومن كانت عنده ذرّة شكّ في كلّ البيانات الرسمية السابقة، يعود الملك سلمان بن عبدالعزيز في كلمته التي ألقاها ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء في افتتاح الدورة التاسعة لمجلس الشورى في الرياض، الثلاثاء الماضي، ليؤكّد المؤكّد ويعلنها صريحة، جلية: لا تطبيع بلا دولة. والدولة تأتي اولاً.
 
وهكذا بات على كلّ الطامحين لتغيير هذا الموقف بعروض تخدم المصالح السعودية على حساب القضية الفلسطينية، أن يلملموا أوراقهم ويرحلوا. وعلى المزايدين والمصطادين المشكّكين في موقف الرياض أن يبحثوا عن استهداف جديد.
 
في حسابات العقائديين، لا تجدي المعادلات الرياضية للربح والخسارة. فالواقعية السياسية أكبر الخاسرين في اختلاط الحقائق بالأساطير. والعصابة الدينية في تل أبيب لا تختلف عن ملالي طهران وصعدة والضاحية الجنوبية في تبرير التصرّفات وتفسير النتائج وتقييم المعطيات.
 
ثمّ هناك القيادات السياسية التي لا تؤمن إلّا بمصالحها الشخصية على مبدأ (أنا ومن بعدي الطوفان).
 
فقائد كرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، متورّط في قضايا فساد ماليّ وخلقيّ، ومسؤول عن فشل أمني وعسكريّ ذريع، ومهدّد من شركاء الجريمة بإسقاط حكومته، ومن المحاكم بمقاضاته وسجنه، لا يهتمّ لضحايا حربه العبثية، حتّى لمواطنيه، وتكشف عورات بلاده ودمارها. فهو متشبّث بالبقاء على عرشه المؤمن بالحصانة السيادية وأولوياتها الحربية، حتّى آخر قطرة دم وطوبة مبنى وعود شجرة.
 
في المقابل، هناك القيادات الفلسطينية التي تتاجر بالقضية، والمليشيات والأحزاب والحكومات التي تدور في فلك ايران التي تتذرّع بها. ومعهم تجّار الحروب وأصحاب المشاريع التوسّعية الإقليميّة والقوى الخارجية المتنافسة على ثروات المنطقة ومزاياها الاستراتيجية.
 
وبين هذا وذاك تشتعل الفتن والصراعات، وتتطاير القذائف والصواريخ، وتتفجّر القنابل والأجهزة اللاسلكية، ولكن على صدور ورؤوس الأبرياء الغافلين والاتباع المضلّلين. أمّا زبانية الجحيم فهم إمّا في جحور أو في قصور. ففي حروبنا العربية يقتل الخيل ويسلم الخيالة.
 
حمى الله لبنان وأهلنا فيه من كلّ شرّ.
 
@kbatarfi
الكلمات الدالة