الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

أيّ خلاص ترتجيه الأغلبية المسيحية في لبنان في ذكرى ميلاد يسوع؟

المصدر: "النهار"
زينة العيد في بيروت (نبيل إسماعيل).
زينة العيد في بيروت (نبيل إسماعيل).
A+ A-
غسان صليبي
 
 
ينظر مسيحيو لبنان إلى مغارة الميلاد بطريقة مختلفة هذه السنة، بعدما أصبح معظمهم فقراء. يتحسّسون أكثر معنى أن يكون أهل الطفل بلا مأوى، وأن تكون المغارة باردة، وأن يحتاج الطفل الوليد إلى أنفاس الحيوانات الأليفة ليحصل على قليل من الدفء. يفهمون أكثر معنى أن يكون الإنسان فقيراً، والعائلة مشرّدة، والطفل من دون رعاية صحيّة.
 
لكن المسيحيين المؤمنين، مثلهم مثل المسيحيين المؤمنين في العالم، لديهم رجاء بالخلاص، وهم مقتنعون بأن هذا الطفل جاء ليخلّصهم من محنتهم الوجوديّة والوطنية. فأيّ خلاص ترتجيه الأغلبيّة من مسيحيي لبنان هذه السنة؟
 
أفترض أن معظم مسيحيّي لبنان قد تعلّموا من الدرس الأخير. أو لكي أكون أكثر واقعية، أتمنى أن يكونوا قد تعلّموا أنّ الخلاص الذي عملوا له في السنوات السابقة كان كارثياً، لهم ولمواطنيهم الآخرين.
 
الخلاص من "الحلف الرباعي" بداية. الخلاص من "اتفاق الطائف" قبل الانهيار الكبير. الخلاص بالنسبة لهم كان خلاصاً "من شيء ما"، وليس خلاصاً "من أجل شيء آخر يؤمنون به".
 
لذلك كان خلاصاً من دون رؤية، من دون مشروع. بتعبير أدقّ، كانوا مع أيّ مشروع يُعيد إليهم النّفوذ والقوّة اللذين خسراهما نتيجة الحرب، حتى لو كان هذا المشروع متناقضاً، انتهازياً بطبيعته، ينقلب على نفسه في كلّ حقبة جديدة، وبحسب مصالح أصحابه. هكذا اختاروا "العونيّة"، بنسبة سبعين في المئة من أصواتهم الانتخابية.
 
كانت "العونية" قد سقطت بالضربة القاضية السوريّة، وأُقصيت من بعبدا بعد "الطائف". شعر معظم المسيحيين في حينه بأن الدولة سقطت بسقوط "العونية" وحلّ الاحتلال وعادت الميليشيا المسيحية التي حاربها عون باسم الشرعية. عندما خرج الجيش السوري بضغط شعبيّ عارم، انقلب عون على تاريخه، ونقض مواقفه المحليّة والإقليميّة والدوليّة. لم يعد عون "عونياً"، لكن "العونيّة" تضخّمت بفعل تأييد شعبي مسيحيّ واسع.
 
اختارت الأغلبيّة المسيحيّة "القوّة"، اختارت التحالف مع "حزب الله"، أي مع فائض القوة، لعلّه يفيض عليهم بقوّته. الأكثرية المسيحية النيابية سمّت نفسها "لبنان القوي". إنّه الهوس بالقوة، يترافق مع ضمور في الرؤية والاستراتيجيا. أخطر من ذلك، ضمور في القيم والثوابت. وانتقلت العدوى إلى الأقليّة المسيحيّة "القواتيّة" المعارضة، فسمّت نفسها "الجمهورية القوية"، محاولة إضفاء قيم الجمهورية على القوة العارية.
 
في "تفاهم مار مخايل" بين "التيار العوني" و"حزب الله"، جرى التنازل عن "الواقع" لـ"الحزب" مقابل "المواقع" لـ"التيار". هذا الاستهتار بالواقع، ظهر في اللامنطق والتناقض الذي لاحظه معظم اللبنانيين في خطاب "التيار" وتصريحات قياداته. ربما كان الجمع بين مقولتي "القوي" و"ما خللونا" أفضل تعبير عن هذا التناقض واللامنطق. أميل إلى الاعتقاد أن هذا اللامنطق هو مؤشر مقنع إلى أن النزعة العونية هي نزعة لا شعورية، تفتش عن النفوذ والقوة، أكثر ممّا هي تعبير عن مشروع سياسيّ متناسق وواضح المعالم.
 
صفّق معظم المسيحيين لنعيم قاسم عندما قال للّبنانيين بفوقيّته المعهودة، إمّا أن تنتخبوا ميشال عون رئيساً للجمهورية وإمّا لا انتخابات. لكنّهم امتعضوا منه اليوم عندما قال لهم إمّا أن تلتحقوا بلبنان "حزب الله" وإما أن تفتشوا عن حلّ آخر. صفّقوا عندما اعتقدوا أنّهم "أقوياء"، وامتعضوا عندما أصبحوا في الحضيض.
جيّد أن يمتعضوا اليوم، على أن يكون الدافع إلى الامتعاض رفضهم لفرض الرأي بالقوّة، لا إحساسهم بالضعف أو لأن ذلك ضدّ مصلحتهم. القوة ليست قيمة بحدّ ذاتها؛ وفي المسيحيّة ليست قيمة على الإطلاق. فتاريخ نشأة المسيحية هو تاريخ مقارعة القوة بالمحبّة والقيم الإنسانية، بالرغم من أن المسيحية أيضاً عرفت حقبتها العنفيّة، بعد أن تحوّلت إلى سلطة وتطعّمت بالعنف الرومانيّ.
 
الفيلسوف نيتشه انتقد المسيحية بعنف لأنها تحتضن الضّعف، وتنادي بالتعاطف والتضامن مع الضعفاء، وتعدهم بملكوت السّماوات. للمفارقة أنّ "العونيّة" أعلت شأن القوة باسم حقوق المسيحيين، وباسم المسيحية المشرقيّة، حليفة بوتين الذي احتلّ سوريا، وحليفة الأسد الذي يرمي بالبراميل المتفجّرة على رؤوس شعبه.
 
"العونية" مسخت مفهوم المسيحيّة. جبران باسيل المتعالي والمنبطح أمام القوي في آنٍ واحد، ركب حماراً في عيد الشّعانين، متشبّهاً بيسوع المتواضع والمناهض للسلطة الدينية اليهودية وللاحتلال الروماني.
 
ليست المأساة بتأليه الزعيم، بل بتسخيف يسوع وبتشبيهه بنماذج بشرية كان يمقتها، لعدائيّتها وفظاظتها وخبثها.
 
معظم المسيحيين على الأرجح خرجوا اليوم من عباءة "العونية". والأصح القول إنّهم انتفضوا عليها عندما انخرطوا بكثافة في انتفاضة ١٧ تشرين. توجّهاتهم اليوم هي أقرب إلى ما يطرحه بطريرك الموارنة من حياد للبنان ومؤتمر دولي يحفظ الكيان، ويطبّق القرارات الدولية، ويحافظ على اتفاق الطائف، مع أن غالبيتهم باتت تميل أكثر إلى الفيديرالية، في ظلّ هيمنة "حزب الله" على الدولة المركزية، وتماديه في تعطيل الحكومة وتهديد القضاء.
 
الأهمّ أن "الخلاص" بالنسبة إليهم عاد يأخذ شكل مشاريع وأفكار وقيم رفعوها مع المواطنين الآخرين إبّان الانتفاضة، كما أن "الخلاص" لم يعد خلاصاً من "الغريب" الفلسطيني أو من المحتلّ السوري، بل أيضاً وأولاً من الحاكم المحليّ، حتى ولو كان مسيحياً. وهم بذلك يتشبّهون بمسيحهم عندما اصطدم بالسلطة الدينية اليهودية، قبل أن يلتفت إلى الاحتلال الروماني.
 
مسيحيو لبنان بأغبيّتهم ليسوا على عداء مع سلطاتهم الدينيّة، بل هم اليوم يتبعون توجّهات كنائسهم على المستوى السياسيّ والوطنيّ. لكن ماذا عن علاقتهم بالسلطات الكنسية على المستوى الاجتماعي الاقتصادي، بعد أن أصبحوا بمعظمهم فقراء؟
 
قال البابا فرنسيس إن الكنيسة إمّا تكون كنيسة الفقراء أو لا تكون كنيسة يسوع. القضية مطروحة بشكل ملموس، هذه الأيام، بالنسبة إلى المسيحيين في ذكرى الميلاد، والكنائس المسيحية هي أمام التحدّي في مواجهة محنة رعاياها.
 
لم تعد المسألة أن تكون الكنيسة "في خدمة الفقراء"، بل إذا كانت قادرة على أن تكون كنيستهم بالمعنى الحرفيّ للكلمة، بعد أن أصبحت الرعية رعية فقراء. ولأنّ الكنيسة في معناها الأصليّ هي جماعة المؤمنين؛ فهل يجوز أن تكون الكنيسة غنيّة فيما المؤمنون فقراء؟
 
أن تكون الكنيسة كنيسة الفقراء يرتّب على الكنائس المسيحية إعادة النظر في مفهومها لملكيّة الأراضي والمدارس والمستشفيات والمساكن التابعة للكنائس. ويرتب عليها أيضاً إعادة النظر في مفاهيمها للعدالة الاجتماعية. وإعادة النظر هذه لا يمكن أن ينتج منها أقلّ من نقلة نوعيّة أبعد من مفهوم "الشراكة" بين المؤمنين والكنيسة في الأراضي وغيرها، الذي كان ولا يزال سائداً. مسؤولية هذه النقلة النوعية تقع بشكل أساس على الفقراء أنفسهم، الذين عليهم التأمّل في قول البابا فرنسيس في ذكرى الميلاد، والمشاركة بأفكارهم في داخل الأطر الكنسيّة ومن خارجها.
 
تميّزت المسيحية عن اليهودية بأن الخلاص في مفهومها أصبح فرديّاً وليس جماعيّاً. إله اليهودية يخلّص شعبه، أما إله المسيحية فيخلّص الإنسان. وهو خلاص مبنيّ على ممارسة المحبّة أكثر ممّا هو مبنيّ على الصّلاة وممارسة الطقوس. وهو بالتأكيد غير مرتبط بالانتماء إلى جماعة دينيّة معيّنة.
 
تشكل ذكرى ميلاد يسوع مناسبة للمسيحيين لمراجعة خياراتهم "الخلاصيّة" السابقة، والتأمل في قول يسوع: "ماذا ينفع الإنسان إذا ربح العالم كلّه وخسر نفسه". أخطر ما حصل للمسيحيين وللّبنانيين جميعاً في الحقبة الأخيرة هو أنّهم توهّموا الانتصار على بعضهم، فيما كانوا يخسرون أنفسهم ودولتهم وكيانهم المستقلّ. مهما كان شكل الخلاص "السياسي"، الذي سيستقرّ عليه لبنان، أكان مركزياً أم لا مركزياً، فلن يكون خلاصٌ للمسيحيين إلا بخلاص جميع اللبنانيين، من خلال المحافظة على حقوق الإنسان، أيّ إنسان، ومن خلال العدالة الاجتماعية بين جميع المواطنين، في إطار دولة سيّدة ومستقلة.
 
 
 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم