الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

تأملات في معنى الصوم المسيحي في زمن الكورونا

تأملات في معنى الصوم المسيحي في زمن الكورونا
تأملات في معنى الصوم المسيحي في زمن الكورونا
A+ A-
 
الأب رمزي جريج اللعازري

1- لم يأت يسوع أرضنا ليكرّس صورةً مشوّهة عن الله رسمها الإنسان لنفسه عبر العصور من خلال التديّن الطبيعي بل ليكمّل كشفَ الله لصورته الحقيقيّة لنا، التي بدأت ملامحها تتجلّى في العهد القديم وتوجّها الله بإعلان صورته الحقيقيّة في سرّ التجسّد والفداء التي حقّقها ابنه المتجسّد في شخص يسوع المسيح.
"حقّق الله الوحي الفائق الطبيعة تدريجيًّا، معتمدًا نظامًا تربويًّا إلهيًّا، يعدّ فيه الإنسان لتقبّله على مراحل، عبر أحداث العهد القديم وتعاليمه، ولاسيّما عبر الأنبياء الذين أعلنوا أن الله ينقّي من التجاوزات ويعطي الخلاص لكلّ الأمم. بلغ هذا الوحي ملئه وكماله في شخص الكلمة المتجسّد يسوع المسيح. فيسوع هو كلمة الله الكاملة والنهائيّة، فيه قال لنا الله كل شيء، ولم يعد هناك أيّ كلمة أخرى ننتظرها تزيد شيئًا على الوحي الذي تمّ به. والكنيسة تتقدّم وتنمو في معرفة هذا الوحي عبر العصور". (من رسالة البطريرك الراعي "الحقيقة المحرّرة والجامعة" نقلا عن "التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية" 53-64)
هو لم يأتِ لينقض العهد القديم بل ليكمّله. لأنّه لم يكتمل إلا بيسوع، فهو كمال صورة الله. وفي هذا السياق فقد نقض يسوع وصحّح ما بقي غير كامل عن هذه الصورة في العهد القديم، خاصة في عظة الجبل حين كان يردّد: " قيل لكم .... أما أنا فأقول ..."
فكلّ ما كان قبل العهد القديم لا يشبه يسوع المسيح بل نتاج التدين الفطري، وكل ما أتى بعده خارجاً عنه هو تشويه للصورة التي رسمها ربنا يسوع المسيح عن أبيه.

2- ومن ضمن هذه الصورة الجديدة لله وهذه العلاقة به تأتي شريعة الصوم.
لم ينقض يسوع فقط مفهوم الصوم الذي كان قبل العهد القديم القائم على التذلّل لإله غاضب في هدف التماس رحمته عند المحن والأوبئة والأمراض، بل نجد في الإنجيل أنّه نقض أيضاً كل الانحرافات التي وقع فيها شعب الله عندما فهم مفهوم الصوم بشكل خاطئ. لأنَّ مفهوم الصوم الحقيقي لم تظهر معانيه كاملةً إلاّ ببشارة يسوع المسيح.

فعندما بلّغ يوئيل شعب الله كلمة الرب: "ارجعوا إليّ بكل قلوبكم، بالصوم والبكاء والانتحاب" وأضاف :"مزّقوا قلوبكم لا ثيابكم وإرجعوا إلى الربّ إلهكم، فإنه حنون رحيم طويل الأناة وكثير الرحمة ونادم على الشرّ" (يوئيل 2/12-13) كان التركيز على العودة إلى الربّ الرحوم أو بالأحرى الكثير الرحمة النادم على الشرّ.
وكلّما عاد الشعب إلى الله بالتوبة عن خوف، التي لا تغيّر قلب الإنسان من الداخل ولا تكوّن فرصة للقاء برحمته، كان الربّ يذكّرهم بأن الصوم الحقيقي هو توبة القلب التي يريد الرجوع إلى حضن الآب الرحوم وليس خوفاً من إله غضوب منتقم.
فالصوم ليس لكي يرى الناس برّنا فنبرّر أنفسنا امام الناس وامام الله كالذي يبحث امام القاضي والشهود عن صك براءة، بل إن هدف الصوم هو بناء علاقة مع إله هو أب ويرى في الخفاء أي يرى القلب (متى 6/16-18) وعندما أتى العتاب ليسوع أن تلاميذه لا يصومون مثل باقي الناس قال لهم أن الصوم بالنسبة لتلاميذه هو للبحث عن العريس عندما نضيّعه أو نخونه. والعريس هو يسوع. فالصوم هو ضروريّ لا لكي نليّن قلب إله غاضب، بل لنليّن به قلوبنا التي ابتعدت عن عريسها وأضاعته. ولكي نبحث عنه ونجده (مرقس 2/19-20)
ثم بعد ذلك تكلمّ يسوع عن العتيق والجديد وكيف لا نستطيع أن نرقّع ثوباً قديماً بقطعة جديدة ولا أن نضع خمرة جديدة في آنية قديمة. فمفهوم الصوم الجديد الذي أتى به يسوع لا يتلاءم مع مفهوم الصوم القديم، ولا حتى مع الذي عاشه الفريسيّون أو تلاميذ يوحنّا، فكيف بالصوم الذي عاشته الشعوب قبل العهد القديم؟

3- فإذا كان الصوم والتوبة في المسيحيّة ليسا لتهدئة غضب الله، فإن المصائب التي نعيشها ليست من غضبه ولا قصاصاً منه على الخطيئة.
"فالكتاب المقدّس يرى في تهديد المرض للإنسان دليلاً على اننا نعيش في عالم شوّهته هذه الخطيئة، ولم يعد بعد تحت سيادة الله المطلقة. ومع ذلك يرفض الإنجيل أن يرى في مرض الشخص عقاباً له عن خطاياه الشخصيّة بل يريد الإنجيل أن يقول لنا أن الله يريد الحياة. فربنا يسوع المسيح يقاوم المرض ويسيطر عليه ويرى في شفاء يسوع للأمراض علاقة على أن ملكوت الله قد بدأ ..." (المسيحيّة في عقائدها – التعليم المسيحي للبالغين. صادر عن مجلس أساقفة ألمانيا)
وفي رسالته العامّة "Fratelli Tutti" يؤكّد البابا فرنسيس في الفقرة 34، وبعد قوله في الفقرة السابقة " أن الألم والقلق والخوف والوعي لمحدوديتنا الذين أثارتهم فينا الجائحة يدفعوننا ويدعوننا أن نعيد النظر في أنظمة حياتنا وفي علاقاتنا وفي تنظيمنا لمجتمعاتنا وخاصّة في معنى وجودنا" فيؤكّد ما يلي: " إذا كان كل شيء مترابطاً، يصعب علينا أن نفكّر في أن هذه الكارثة العالميّة ليست متعلّقة بطريقة تعاملنا مع الحياة، عندما ندّعي اننا نملك السيادة المطلقة على حياتنا وعلى كل موجود. لا أريد أن أقول إنها نوع من قصاص إلهي كما ولا يكفي أن نؤكّد أن الخراب الذي نؤذي به الطبيعة يطلب منا الحساب على استغلالنا لها. لأن الطبيعة نفسها تئن وتتمرّد".
وفي الفقرة 35 يذكّرنا البابا بخطورة " أن نعود بعد انتهاء هذه الأزمة الصحية، ونقع بشكل أكبر في عقليّة استهلاكية أكبر وفي أشكال جديدة من حماية للنفس أنانيّة."
وفي هذا السياق وعندما سأل يسوع تلاميذه، الذين ما زالوا أبناء الأفكار المنحرفة من العهد القديم عن سبب ولادة الرجل الأعمى منذ مولده في هذا المرض وقالوا له: "من خطئ هو أم والداه لكي يولد أعمى؟" وكأن المرض هو عقاب الله على خطيئة الإنسان أو على خطايا أهله وأسلافه، أجاب يسوع بجزم ونفى هذه النظرة وأكّد: "لا هو خطئ ولا والداه ولكن لكي تظهر أعمال الله فيه". (يوحنا 9/3)
فالألم والمرض ليسا عقاباً من الله على الخطيئة بل فرصة لتظهر قوّة أعمال الله التي هي أقوى من الألم والمرض والخطيئة والموت، والتي تستطيع أن تعطي الفرح والسلام والحياة حتّى في المرض والموت وتشفي من الخطيئة.
فالمرض الذي يذكّرنا بمحدوديّتنا يدفعنا كما يقول البابا فرنسيس لإعادة النظر في خياراتنا وأولوياتنا وأن غالباً ما يكون الألم بسبب خطايانا وليس عقاب الله وأن الله حاضر ليستقبلنا في حضنه الوالدي إذا قرّرنا الرجوع إليه. فالتوبة إذا لا تهدف في الإيمان المسيحي لتغيير موقف الله او لتليين قلبه كما يظن الإنسان في منطق التديّن الطبيعي، بل تعمل التوبة على قلبنا وعلى قرارنا نحن بتغيير نفوسنا، لنصبح كما يريدنا الله الأب لا ليصبح هو كما نريده نحن. فالتوبة الحقيقيّة هي التي تأنسن انسانيتنا وتجمّلها وترفعها لتصبح على صورة أبناء الله وعلى صورة عروس يسوع المسيح.
ويقول البابا فرنسيس في رسالة اليوم العالمي للمريض (11 شباط 2021): " في هذا الصدد، شخصيّة أيوب في الكتاب المقدّس مثال لنا. زوجته وأصدقاؤه غير قادرين على مرافقته في محنته، بل على العكس، اتهموه، فزاد شعوره بالوحدة والحيرة... أكّد الله له أن معاناته ليست عقاباً أو جزاءً. ليست ابتعاد الله عنه ولا علامة لامبالاة الله به. وبعد أن نال الشفاء تدفّق امام الله هذا الإعلان البليغ النابض بالحياة: كنتُ قد سمعت عنك سماع الأذن، أما الآن فعينيّ قد رأتك (أيوب 42/5)"
فالمرض هو فرصة لرؤية وجه الله الحقيقيّ والانتباه لحاجات الآخرين فنعكس لهم صورة هذا الإله الغني بالرحمة.

4- وفي عظته امام البابا فرنسيس يقول الأب كانتمليسا (Cantalamessa) يوم الجمعة 10 نيسان 2020:
" أعطى صليب يسوع المسيح معنىً جديداً للألم ولوجع الإنسان. لكلّ الأوجاع الجسديّة والمعنويّة. لم تعد بعد الآن عقاباً أو لعنة لأنّها خُلِّصت وافتُديَت من جذورها من لمّا أخذها ابن الله عليه. وما هي أكبر الدلائل من أن مشروباً، يقدّمه لك أحدٌ ما، ليس مسموماً؟ أن يشرب منه هو امامك أولاً. فهكذا عل الصليب، قد شرب الله على عيون الجميع من كأس الألم حتّى النهاية. وبرهن لك بذلك أن كأس الألم ليس مسموماً بل أننا في قعره نجد اللؤلؤة. فالله حليفنا وليس حليف الفيروس".
إذا قلنا إن الجائحة هي من عمل الله وعقابه نؤكّد أن الله هو حليف الفيروس والموت، وهذا ليس إلهنا، أبو ربنا يسوع المسيح. وإذا التمسنا منه ومن قيامته الشفاء الجسدي فقط ننحدر به الى مستوى اللقاح والعقاقير، وإذا طلبنا منه الشفاء بطريقة عجائبيّة تخالف قوانين الطبيعة ندخل في تجربتنا له: " لا تجرّبنّ الرب إلهك" (متى 4/7)
5- فماذا علينا أن نطلب في زمن الكورونا من الله أبي ربنا يسوع المسيح ولماذا يجب أن نصوم؟
عندما واجه شيطان الصرع الذي يمثّل هوس الإنسان في أفكاره وانغماسه في ملذات الدنيا والاستعباد لها اكّد يسوع في متى (17/18-21) أن هذا النوع لا يخرج إلاّ بالصلاة والصوم.
فما معنى الصوم والصلاة والصدقة إذا في حياتنا؟
يقول لنا الباب فرنسيس في رسالة الصوم هذه السنة في الفقرة الأولى:
" الصوم، كخبرة نقص، يقود الذين يعيشونه ببساطة القلب إلى اكتشاف عطاء الله وإلى فهم واقعنا كمخلوقات على صورة الله ومثاله وإلى اكتشاف أننا نجد في الله كمالنا.
فإن اختبارنا للفقر الإرادي، يجعلنا فقراء مع الفقراء ويجعلنا نكدّس غنى المحبة التي نتلقاها من الله ونتشاركها مع الآخرين. فإذا فهمنا الصوم وعشناه بهذه الطريقة فهو يساعدنا أن نحب الله والقريب كما يعلّمنا القديس توما الأكويني: أن الصوم يحفّز توجُّهَنا فيقودنا على التركيز على الآخر لنعامله كأنفسنا."
وكما يقول أيضاً البابا فرنسيس في عظة احتفال وضع الرماد يوم 6 آذار 2019:
"ماذا تنفع الصدقة والصلاة والصوم؟
هذه الثلاثة تقودنا إلى الحقائق التي لا تذبل.
الصلاة تعيد ربطنا بالله، الصدقة تعيد ربطنا بالقريب والصوم يعيد ربطنا بذواتنا... فهذه تدفعنا للنظر إلى زمن الصوم هكذا:
بالصلاة ننظر إلى العلى، وهذا يحرّرنا من حياة سطحيّة حيث نجد الوقت لذواتنا دون أن ننسى الله.
ومن ثم بأعمال المحبّة ننظر نحو الآخر، بنظرة تحرّرنا من عقليّة الامتلاك الزائلة ومن التفكير أن الأمور تسير بشكل جيّد إذا كانت تسير بشكل مفيد لي.
وأخيراً بالصوم ننظر إلى داخلنا بشكل يحرّرنا من التعلّق بالأشياء ومن الدنيويات التي تُخدّر قلوبنا.
الصلاة والمحبة والصوم: ثلاثة استثمارات لكنز لا يفنى."
فالصلاة والصوم وأعمال الرحمة المسيحيّة ليست لنوال رحمة الله التي هي مجّانيّة وتسبق توبتنا بل لانفتاحنا نحن الخطأة الضعفاء على حبِّ الله ولشفاء قلبنا بهذا الحب لكي نصبح امام الناس ومع الطبيعة شهوداً لهذا الحب وصورة حيّة له.
6- ففي هذا الصوم نحن كما قال الباب فرنسيس في مباركة الشموع في فاطيما في 12 أيار 2017 نحن نطلب شفاعة أي مرافقة مريم لنا لنكون " نحن حجاج مع مريم .... ولكن أيّ مريم؟"
مريم معلّمة الحياة الروحيّة، الأولى التي تبعت يسوع على طوال الطريق الضيّق طريق الصليب والتي أعطتنا المثل؟ أم تلك السيّدة التي لا يمكن الوصول إليها أو التشبّه بها؟
مريم المباركة التي آمنت "دائماً" وفي كل الظروف بكلمة الله؟ أو "التمثال" الذي نلجأ إليه لننال المنافع من الله بسعر أرخص؟
عذراء الإنجيل مريم التي تكرّمها الكنيسة المتأمّلة والمصليّة؟ أم مريم التي رسمناها بحساسيتنا الشخصيّة اللاموضوعيّة التي يرونها تمسك بيد الله القاضي الظالم المستعدّ للعقاب؟
أي مريم؟ مريم الأفضل من مسيح نراه قاضياً بلا شفقة؟ أو مريم الرحومة أكثر من ابنها الحمل الذي ذبح لأجلنا."
لا ! ... لا ، نحن لا نطلب شفاعة مريم عذراء الإنجيل وأم الكنيسة وأمنا لكي يقبل الله صيامنا أو ليشفي المصابين بوباء كورونا ويبيده، لا! نحن نطلب شفاعتها لتعيننا أن نفهم رحمة الله وحبّه وحنانه خلال هذه الجائحة فالمشكلة ليست أن يقبل الله صيامنا بل أن نتعلّم مثلها ومعها هي كيف نصوم الصوم الحقيقي، فنفتح له قلوبنا فيشفينا من الأنانيّة واليأس والإحباط ويفتحنا على حبّه وعلى حبّ الآخرين ومساعدتهم لنبني بمعونتها، معه وفيه ولأجله، عالماً أكثر إنسانيّةً ورحمةً وانتباهاً للضعفاء، يكون بداية السماء على الأرض.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم