تعبيرية (أ ف ب).
محمد فحيلي*
كلما ازدادت الحاجة إلى إطلاق عجلة الإصلاح الحقيقي لإنقاذ المواطن اللبناني ولبنان الوطن، تكاثرت رغبة مكوّنات السلطة الحاكمة لإلهاء نفسها بالقشور والابتعاد عما هو أساسي وضروري. المطلوب بصريح العبارة هو تحرير الاقتصاد اللبناني بكل تفاصيله من فساد وهدر وجهل وتجاهل الطبقة الحاكمة.
لن تكون الحلول الإنقاذية كافية ووافية إلا إذا جاءت على حجم الوطن. الجزء الأكبر من مكونات الوطن الاقتصادية عانى الكثير منذ اندلاع أول شرارة للأزمة في تشرين 2019. شارك المودع الكثير من المواطنين في آلامهم، وشارك المصرف الكثير من مؤسسات القطاع الخاص في تحدّياته للاستمرار والبقاء على قيد الحياة. ولكن، في المقلب الآخر، ما زالت الطبقة الحاكمة تضع مكاسبها الشخصية التي شرّعتها من خلال فسادها وفي السياسية فوق كل اعتبار، وتقترح الحلول الظرفية التي تضمن استدامة هذه المكاسب. لذلك، لن يكون هناك إنقاذ ولا حلول!
نلاحظ أنه في الأشهر القليلة الماضية، كل خطوة أخذتها الطبقة السياسية كانت وتكون معطوفة على ما يريده صندوق النقد الدولي، وكأن هذه الطبقة الحاكمة لا تريد أن تأخذ المبادرة لتفعل أي شيء قد يعود بالمنفعة على المواطن اللبناني. آخر هذه الخطوات الكلام عن "توحيد سعر الصرف". لا شك في أن من الخطأ الاستمرار بهذا الكم من أسعار الصرف داخل الاقتصاد اللبناني المنكوب، وعلى الدولة اللبنانية العمل بجدية للاستغناء أو التخلي عن هذه الأسعار كخطوة أساسية في سياق إقرار وتنفيذ أي خطة للتعافي الاقتصادي. وهذه الخطوة، إن أُقرت ونُفذت، تُوصلنا إلى سعر صرف واحد. هذا أحد الشروط المسبقة لصندوق النقد الدولي.
قد يفسَّر هذا الأمر بـ "توحيد" متعمد لسعر الصرف، ولكنه في الواقع "تحرير" لسعر الصرف من هذه المجموعة من الأسعار المصطنعة وترك تحديد السعر للسوق ولقوى العرض والطلب.
لنبدأ من سعر الصرف الرسمي (1507 ليرات للدولار الواحد) وهو سعر كلف، على مدى سنوات طويلة، خزينة الدولة والاقتصاد اللبناني أكلافاً باهظة للمحافظة عليه ولا يعكس أبداً العرض والطلب لأنه فعلياً اليوم ليس هناك أيّ تداول على هذا السعر. وهناك أسعار صرف أخرى فرضتها السلطة النقدية بموجب أحكام التعميم الأساسي رقم 151 (8000 ليرة للدولار الواحد)، وآخر حُدِّدَ بموجب أحكام التعميم الأساسي رقم 158 (12000 ليرة للدولار الواحد). كلاهما فرض قسراً وليسا من أسعار السوق الحرة لأنه لا يوجد تداول و/أو عرض وطلب على هذه الأسعار. ويبقى سعر منصة صيرفة، حديث البلد في هذه الأيام والمنافس الشرعي والأقوى لسعر السوق الموازي. أُنشئت منصة صيرفة بموجب أحكام تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 157 وتم تفعيل نشاطها بموجب التعميم 161 في كانون الأول من سنة 2021. يحدّد السعر مصرف لبنان، والهدف الحقيقي من وراء تأسسيها هو استقطاب ما تيسّر من طالبي الدولار من السوق السوداء لضبط الفلتان في هذه السوق. هو أيضاً سعر مصطنع بسبب الضوابط العديدة المفروضة على التداول ومحدودية التداول، وكثافة الطلب على الدولار مقابل العرض.
لهذا كله، المطلوب هو رفع يد السلطة النقدية عن سوق الصرف نهائياً (تدريجاً أو بضربة واحدة) وترك السوق ليحدّد سعر الصرف؛ وبهذا يكون المطلوب "تحرير" وليس "توحيد" سعر الصرف، وذلك لأن التوحيد يتطلب موارد قد يكون من الصعب توفرها لدى مصرف لبنان في هذه الأوقات والظروف الحرجة اقتصادياً! الكلام عن توحيد سعر الصرف كافٍ للدلالة على فشل هذه الخطوة بإحداث أيّ تغيير إيجابي على صعيد الاقتصاد عموماً أو/و على صعيد سلامة النقد اللبناني والتحديات سوف تكون عديدة:
• ابتداءً من تحديد هذا السعر الذي سوف تُوَحّد جميع الأسعار عليه،
• ومن هي السلطة صاحبة الاختصاص المؤهّلة لتحديد هذا السعر،
• وما هي المعطيات الاقتصادية التي سوف يُعتمد عليها لتحديد هذا السعر،
وغيرها من الاعتبارات وهناك الكثير. يجب أن يكون من البديهي أن أيّ سعر غير سعر السوق الموازي (سوق التبادل الحرّ) سوف يتطلب موارد للوصول إليه والحفاظ عليه. وبعد تحديد هذا السعر وإقراره، سوف تلغى حكماً الحاجة إلى الأسعار التي حددتها التعاميم 151 و157 و158 و161 واعتماد هذا السعر الجديد (الذي سوف يكون حكماً سعراً مصطنعاً ومن إنتاج السلطة السياسية) وهذا قد يترجم ارتفاعاً في حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية وضغوطاً تضخمية إضافية. وسوف تكون هناك كلفة إضافية، وقد تكون باهظة، على جميع العمليات الرسمية التي تجري حالياً على سعر الصرف الرسمي وسوف تطال كل المواطنين وقد تنعكس ارتفاعاً بالمصاريف التشغيلية للمؤسسات. وهذه الأكلاف الإضافية سوف تزيد من احتمال التعثّر والإقفال التام لهذه المؤسسات.
في هذا الاقتصاد الذي أصبح مدولراً بكل مكوناته (باستثناء القطاع العام حتى هذه اللحظة)، من الطبيعي أن يتأثر القطاع المالي والقطاع المصرفي بأي خطوة تخطوها الحكومة باتجاه "اللعب بسعر الصرف" وفرض واقع لا يعكس حرية التبادل، ولكن من الخطأ جداً النظر فقط على تداعيات "توحيد" سعر الصرف على المصارف دون غيرها من مكونات القطاع الخاص. اليوم، المطلوب هو حماية القطاع المصرفي وتمكينه من الاستمرار في خدمة الاقتصاد اللبناني. هذا لا يعني بالضرورة:
• حماية المصرفيين (من كبار المساهمين وأعضاء مجلس الإدارة والمديرين التنفيذيين).
• أو إبراء ذمّة هؤلاء المصرفيين من الارتكابات غير القانونية (وهذا شأن القضاء المختصّ) وغيرها من الأخطاء (وهذا شأن لجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة)،
• أو/و حماية كل مصرف من المصارف التجارية الـ58 العاملة اليوم على الأراضي اللبنانية.
السلطة صاحبة الاختصاص القادرة على فرز المصارف بين من هو قادر على الاستمرار، من غيره، في خدمة الاقتصاد هي لجنة الرقابة على المصارف. ما تحتاج إليه المصارف اليوم هو إعادة الهيكلة. ما يُمَكّن المصارف على الصمود والاستمرار هو الملاءة وكفاية رأس المال وتوفر السيولة بعد الأخذ في الاعتبار المخاطر الذي يواجهها كل مصرف على حدة من جراء توظيفاته وغيرها؛ وهذا الواقع يختلف بين مصرف وآخر. وما تحتاج إليه المصارف اليوم هو إعادة جدولة وهيكلة الدين السيادي كله باستحقاقاته التي تصل إلى سنة 2037 ولكن بسبب "التعثر غير المنظم" من قبل السلطة السياسية في آذار من سنة 2020 أصبح كله مستحقاً وتحوّل رصيد هذه التوظيفات في الدين السيادي إلى خسارة تُحتسب فوراً على المصرف ويجب على كل مصرف استعمال جزء من رأسماله لامتصاص خسارته التي نتجت عن هذه التوظيفات.
وفي المقلب الآخر في اللعب بسعر الصرف، أوقعت السلطة الحاكمة الرسوم الجمركية، أحد أهم مصادر الإيرادات للدولة اللبنانية، في فخ فسادها. اليوم الحديث عن ربط سعر صرف "الدولار الجمركي" بسعر منصة صيرفة هو حديث يفتقر إلى الفقه بالاقتصاد وغني بعدم الإلمام بطبيعة وحجم الأزمة المالية في لبنان:
• منصة صيرفة هي سوق صرف يفتقر إلى حرية وشفافية التبادل بسبب الشروط المفروضة للانخراط فيها والاستنسابية بتطبيق أحكام التعميم ذات الصلة. والكل بات يعرف أن سعر الصرف يحدّده مصرف لبنان وهو ليس نتيجة العرض والطلب. والجزء الأكبر من فاتورة الاستيراد يُموَّل عن طريق دولار السوق السوداء لا عن طريق دولار منصّة صيرفة. هل باستطاعتنا تفسير ربط الدولار الجمركي بسعر منصّة صيرفة بأنه نوع آخر من "الدعم المموّه" – دعم فرق سعر الصرف بين السوق السوداء (السعر الحقيقي) وسوق منصّة صيرفة (السعر المصطنع) في تسديد الرسوم الجمركية.
• أحد أهم الإجراءات المطلوبة لإنقاذ لبنان من أزمته النقدية هي "تحرير" سعر الصرف للوصول إلى سعر موحّد يجري التداول به. المشكل يكون كبيراً جداً إن لم يكن هذا الفرق، بين تحرير وتوحيد سعر الصرف، واضحاً لدى صانعي السياسات النقدية؛ ونكون في أزمة أكبر إن كانوا يعرفون الفرق واختاروا توحيد عوضاً عن تحرير سعر الصرف.
في المحصلة بات واضحاً للجميع اليوم أن الممر الإلزامي لخلاص لبنان من الأزمات الذي يتخبّط بها هو الإصلاح وإعادة هيكلة القطاع العام بكل مكوّناته، وتمكين وتفعيل عمل الأجهزة الرقابية، ونشر نهج الحوكمة في إدارة الشأن العام. الدولار بات يحتل الجزء الأكبر من الكيان الاقتصادي في لبنان بسبب تفاقم عامل فقدان الثقة، وأصبح في احتساب دخل الفرد، وفي فاتورة الاستهلاك، وفي كلفة الصناعة، وفي الأقساط المدرسية، وفي فاتورة الاستشفاء وفي كل النشاطات الاقتصادية في القطاع الخاص. مع التأقلم السريع لمكوّنات القطاع الخاص مع المتغيّرات الاقتصادية، استمرار الدولة في دفع الرواتب والأجور بالليرة اللبنانية وتحصيل إيراداتها بهذه العملة المنبوذة اقتصادياً سوف يدفعها وموظفيها إلى "الاستبعاد الاقتصادي"، أي لن تعود الدولة وموظفوها قوة اقتصادية مهمّة في هذا الاقتصاد الجديد الذي صنعته وفرضته الظروف على لبنان!
*خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد
الأكثر قراءة
سياسة
11/6/2025 10:23:00 AM
"حزب الله": بصفتنا مكوّناً مؤسِّساً للبنان الذي التزمناه وطناً نهائياً لجميع أبنائه، نؤكد حقنا المشروع في مقاومة الاحتلال والعدوان
سياسة
11/6/2025 8:21:00 PM
هيئة البث: "إسرائيل تُصعّد من وتيرة هجماتها في عمق لبنان، لإيصال رسالة مفادها بأنه ما دام حزب الله لم يُنزع سلاحه، يُمكن لتل أبيب أن تُؤدي إلى تصعيد كبير"...
اقتصاد وأعمال
11/6/2025 6:37:00 AM
تماسك الدولار عند أقل بقليل من أعلى مستوى في أربعة أشهر الذي وصل إليه في الجلسة السابقة، وسط تزايد الإقبال على الأصول الأعلى في المخاطر
سياسة
11/6/2025 6:00:00 PM
اعتبر الرئيس اللبناني جوزف عون أن "ما قامت به إسرائيل في جنوب لبنان يُعد جريمة مكتملة الأركان"...
نبض