ساحة النجمة في بيروت (نبيل اسماعيل).
غسان صليبي
(رسالة من علماني الى العلمانيين في لبنان)
ليس من عادتي أن اعنون نصوصي بصيغة الجزم، لا بل اعتدت على طرح عناويني بشكل سؤال، للدلالة على نيتي بحث الموضوع تفتيشا عن جواب أو عن أجوبة، لا أدّعي امتلاكها، بقدر ما احاول طرحها على بساط البحث.
عنوان نصي هذا يخرج على المألوف ويقول جازما إن لا علمانية بدون لامركزية موسّعة. هذه في الواقع، خلاصة توصلت إليها بعد كتابين أصدرتهما على التوالي. الأول هو "انتفاضة 17 تشرين"، الذي تابعت فيه تطورات الانتفاضة بالرصد والتحليل، متسائلا في حينه، إذا كان سيُستخدم لتقييم الانتفاضة المأزومة من أجل تفعيلها، أم أنه سيصبح ذا فائدة تاريخية فقط، يؤرخ لانتفاضة لفظت فعليا أنفاسها مع تاريخ صدور الكتاب، اي مباشرة بعد تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020. وكان استنتاجي بعد صدور الكتاب ومتابعة أحوال الانتفاضة، أن المحاولة الشعبية لتغيير الواقع على المستوى الوطني قد توقفت بعدما فشلت في تحقيق مبتغاها.
كتابي الثاني الذي صدر بعد نحو السنتين، في نهاية سنة 2022، عنوانه "متاهات التغيير في زمن الممانعة". استكملت في هذا الكتاب تحليل محاولات التغيير على المستوى الوطني، التي قامت وتقوم بها قوى متعددة، من مثل مجموعات الانتفاضة والنقابات والطلاب العلمانيين ونواب التغيير واليسار و"تيار" بكركي... واستنتجت أنها تتخبط جميعها في متاهات، في زمن سميته "زمن الممانعة"، وهو المسؤول الأول وإن لم يكن الوحيد، عن فشل هذه المحاولات.
كنت في هذا الكتاب الأخير قد نشرت نصين يتناولان العلاقة بين العلمانية واللامركزية، الأول بعنوان "علاقة ود وجفاء بين العلمانية واللامركزية"، والثاني "علمانيتي وفيديراليتي". هذا النص الذي أنشره اليوم يسترجع في جزء منه ما استنتجته في النصين السابقين، ليطرح اقتناعات ترسخت عندي على مشارف سنة 2023.
كنت في هذا الكتاب الأخير قد نشرت نصين يتناولان العلاقة بين العلمانية واللامركزية، الأول بعنوان "علاقة ود وجفاء بين العلمانية واللامركزية"، والثاني "علمانيتي وفيديراليتي". هذا النص الذي أنشره اليوم يسترجع في جزء منه ما استنتجته في النصين السابقين، ليطرح اقتناعات ترسخت عندي على مشارف سنة 2023.
لكن ما دفعني إلى كتابة هذا النص ليست الرغبة في استكمال البحث في موضوع النصين السابقين فحسب، بقدر ما هو اقتراح القانون الإلزامي للاحوال الشخصية، الذي تقدمت به مجموعة من النواب بالتعاون مع جمعية "كفى". ذلك ان القانون المذكور هو عنصر أساسي في قيام نظام علماني في لبنان.
لفتني بداية تقديم نواب لهذا الاقتراح، واكثريتهم من بين "نواب التغيير". لكنني فوجئت بأن المطروح هو قانون "إلزامي" وليس اختياريا، كما يمكن أن يتوقع المرء، بسبب ما هو معروف من معارضة كبيرة حتى للقانون الاختياري في أوساط جميع المذاهب والطوائف. وقد أشار النواب إلى انهم كانوا مترددين حول الصفة الالزامية، لكنهم عادوا واعتمدوها في نهاية الامر.
لم أطّلع للأسف على مبررات قرار كهذا، فهي لم تُذكر في الصحف، ولا أعرف إذا كان الهدف من طرح "الإلزامي" هو الحصول على "الاختياري"، بعد المداولات النيابية.
تزامن اقتراح النواب مع نشر مقال في "النهار" للدكتور كمال ديب، وهو كاتب معروف ورصين يعيش في كندا. عنوان المقال "خريطة طريق عملية لدولة مدنية في لبنان". اعترف بأنني ما إن بدأت بقراءة المقال حتى انكسفت. ذلك ان الكاتب يبدأ نصه بالجملة الآتية: "بناء الدولة المدنية في لبنان هو على مرمى حجر، إذا ما وُجدت النيات الحسنة وصحا ضمير الزعماء، مدنيين وروحيين". فأي خريطة طريق يمكن ان تكون "عملية"، عندما تنتج من افتراض يلغي مسبقا أبرز العقبات واشرسها في وجه بناء الدولة المدنية في لبنان؟
مقال كمال ديب وإصرار النواب على إلزامية القانون، وغيرهما من مواقف متكررة، لشخصيات ولمجموعات، تقفز جميعها فوق الواقع العنيد، بشكل غير معقول، اي بشكل لا يستوعبه العقل بسهولة. فلماذا هذا الإصرار على الاوهام في شأن بناء العلمانية في لبنان، أو على تكرار المجرّب بعد كل المحاولات الفاشلة، وابرزها، محاولة عسكرية قادتها الحركة الوطنية إبان الحرب، وأخرى سلمية، قادتها الانتفاضة ومعها التيار الطالبي العلماني، وبينهما وخلالهما، التحركات اليسارية التي يتناقص عدد أعضائها يوما بعد يوم، إضافة الى محاولتين رسميتين على مستوى رئاسة الجمهورية (الياس الهراوي)، وعلى المستوى الوزاري (ريّا الحسن).
اعتقد ان المشترك عند كل هذه المحاولات هو افتراضها إمكان بناء العلمانية مركزيا، اي من خلال تحرك على المستوى الوطني وفي إطار الدولة المركزية. الفرضية تجد تفسيرها، إذا أدركنا تصوّر هذه التحركات للمشكلة التي تريد العلمانية معالجتها، وهي "النظام السياسي الطائفي".
سبق أن انتقدت هذه التسمية للنظام الحالي القائم في لبنان، وألخّص نقدي، كما جاء في مقدمة كتابي "متاهات التغيير في زمن الممانعة" بما يأتي:
- هذا النظام أصبح جزءًا من نظام إقليمي تديره إيران، وديناميّة اشتغاله لم تعد الطائفيّة بل المذهبيّة، كما ان من الخطأ تسميته بالنظام السياسي بسبب التأثير المتعاظم للعامل العسكري في تحديد التطوّرات السياسيّة.
- لا ي
مكن فهم اشتغال النظام بدون الأخذ في الإعتبار التحولات الخاصة بكل مكوّن من مكوّناته. فمن الخطأ فهم اشتغال النظام وكأن مكوّناته متشابهة في تركيبتها وفي آليات عملها، وفي قدرتها على إحداث التغيير في داخلها. فالمكوّنات المذهبيّة تختلف حاليًّا على مستويات عدة:
* مستوى الوحدة والتفكّك والتنافس السياسي: التنافس السياسي قوي في البيئة المسيحيّة، لا بأس به في البيئة السنيّة، مقبول في البيئة الدرزيّة وضعيف في البيئة الشيعيّة.
* مستوى العلاقة بين السلطة السياسيّة والسلطة الدينيّة: من خلال مراقبة انتخابات المجالس المذهبية يتبين ان السلطة السياسيّة تتحكّم بالسلطة الدينيّة في البيئتين الشيعيّة والدرزيّة مع تداخل كبير في البيئة الشيعية، وهناك نوع من التوازن بين السلطتين في البيئتين المسيحيّة والسنيّة مع استقلاليّة أكبر للسلطة الدينيّة عن السلطة السياسيّة في البيئة المسيحيّة بحكم ارتباطها المباشر بالفاتيكان. مع ملاحظة هيمنة الفكر الديني في البيئة الشيعية، وتمدده في البيئة السنية، وانكفائه في البيئتين المسيحيّة والدرزيّة لصالح تعاظم النزعة الطائفيّة الإقلويّة.
* مستوى العلاقة بين السياسة والسلاح: هناك عسكرة شبه كاملة للبيئة الشيعيّة مقابل انتشار السلاح الفردي في البيئات الأخرى.
* مستوى العلاقة بين الإقتصادي والسياسي: يتحكّم السياسي بالإقتصادي في البيئة الشيعيّة، وهناك توجيه سياسي للإقتصادي في البيئة الدرزيّة وشبه استقلاليّة للإقتصادي عن السياسي في البيئتين المسيحيّة والسنيّة مع تقاطع في المصالح.
التغيير داخل كل بيئة مذهبيّة يتأثّر بشبكة العلاقات المذكورة أعلاه. وأشارت الدراسات العلميّة لاشتغال "النظام" ككل أو "السيستام"، الى تغيّر النظام بفعل التغيّر في مكوّناته وتفاعلها بعضها مع بعض. تتضح إشكالية تغيير النظام في زمن "الممانعة" إذا نظرنا الى التجديد للرئيس نبيه بري كرئيس للمجلس النيابي. ففي حين جرى تغيير نيابي سياسي في معظم مكوّنات النظام وعلى مستوى النظام ككل، اصطدم التغيير بعدم حصول تغيير في المكوّن الشيعي الذي انتصرت فيه "الممانعة". وهذا ما يجب الا يغفل عنه كل مُطالب بتغيير النظام أو بإسقاطه.
الأخطر أن هذا "النظام" في آلية اشتغاله العملية اليوم، ومهما اختلفنا في تعريفه، يخضع لهيمنة حزب ديني- عسكري هو "حزب الله". من حيث المبدأ، النظام العلماني أو المدني، هو تعريفا، نظام لا ديني ولا عسكري. مما يفترض في حال قيام هذا النظام، حل "حزب الله". وهذا ما يبدو خياليا على المدى القصير والمتوسط، لا سيما بعد ترسيم الحدود مع اسرائيل، بمباركة دولية، مما أعطى "حزب الله" شرعية إضافية ونفوذا اقتصاديا مستقبليا، قد يغنيه عن الدعم الإيراني المالي المتواصل، ويساعده ربما على ترجمة نفوذه العسكري والاقتصادي والسياسي، دستوريا.
اي طرح عن امكان "لبننة" حزب الله، يبدو لي غير واقعي اذا لم يكن مستحيلا. انا اسلّم بدون نقاش، ان أعضاء "حزب الله" هم لبنانيون، لكن كون أعضاء الحزب لبنانيين، لا يعني حكما ان الحزب لبناني. فمع توسع العولمة، شهدنا تنظيمات عالميّة، ليس لها جنسيّة معيّنة، لكنّها تضم أعضاء من جنسيات مختلفة موزّعين على عدد من البلدان. "الإخوان المسلمون" أو "داعش" هما من بين هذه التنظيمات. وفي السابق كان لدينا الامميات الإشتراكيّة، واليوم أصبح لدينا النقابات العالميّة التي تضم أعضاء من البلدان كافة، لكن هويتها عالميّة. لجميع هذه التنظيمات فروع في بلدان أعضائها، لكن هذه الفروع لا تكتسب هويّة بلدها بل تحافظ على هويّتها العالميّة.
امام هذا المشهد، لا أجد مدخلا للعلمانية في صيغة النظام المركزية. وإذا كنت افترض امكان خرق لامركزي لهذه العلمانية، فللأسباب الرئيسية الآتية:
- دلّت الانتفاضة، أن بنية قوى التغيير، اتخذت شكلا مركزيا ولامركزيا في آن واحد. وقد تمظهرت القوى اللامركزية التي تعمل للتغيير، من خلال التجمعات المناطقية التي احتلت الساحات والمناطق، ووقفت في وجه القوى السياسية المهيمنة في هذه المناطق. وهذه التجمعات اللامركزية، لا تزال تتنظم وتبلور اهدافها، لا سيما في منطقتي الشمال والجنوب، وذلك بعد تراجع المحاولات المركزية. ويبدو ان الشكل التجميعي لقوى الاعتراض, في البنية المذهبية-الطائفية، يمر في الضرورة بالتجمعات المناطقية قبل ان يلتقي على شكل شبكة ربما على المستوى الوطني. كما يبدو لي ان مواجهة "كلن يعني كلن" على المستوى الوطني، لا بد ان يسبقها او ان تترافق، مع مواجهة "كل واحد منن" في جميع المناطق.
- الاختلاف بين المكونات المذهبية، على مستويات عدة، سياسية واقتصادية وثقافية، وكما أوضحنا اعلاه، يجعل الخرق العلماني في إطار لامركزية موسعة، أكثر احتمالا في بعض المناطق دون الأخرى. ولا بد من التوقف عند التركيبة الطائفية للنواب الذين اقترحوا قانون الأحوال الشخصية، والتي تعكس غلبة مسيحية وحضورا درزيا لا بأس به، مع غياب شيعي كامل قابله مشاركة نائب سني واحد لكن بلباس الحزب التقدمي الاشتراكي، ذي الأكثرية الدرزية الساحقة. وكأن ممثلي "الأقليات" هم الأكثر حماسة للعلمانية.
- مواجهة الأطروحات العلمانية كانت تتم عادة على المستوى الوطني المركزي من خلال التناغم والتعاضد بين المرجعيات السياسية والدينية في جميع الطوائف، ولو بدرجات متفاوتة من الحدة. للمفارقة، كان هذا التعاضد يتم على خلفية الخوف من الآخر المذهبي او الطائفي، في حال قيام النظام العلماني. افترض انه في نظام لامركزي موسّع، يتراجع تأثير هذه الحجج، ومعها إمكان التعاضد، مما يسهّل الضغط على المرجعيات السياسية والدينية في كل منطقة على حدة، بهدف تحقيق العلمانية، في البعض منها. وهنا يمكن توقع عدوى بين المناطق، لصالح العلمانية.
سيكون من المفيد مراجعة العلاقة بين العلمانية واللامكزية او الفيديرالية في التجارب العالمية. وما إذا كان التاريخ يقدّم لنا مثالاً عن تجربة علمانية في مجتمعات التعدد الديني او المذهبي، من غير طريق اللامركزية أو الفيديرالية، او من غير طريق "التطهير" او إخضاع الأقليات بالقوة على يد الاكثريات.
يبقى أن تقبل القوى المهيمنة باللامركزية. فلم يمضِ الا شهر على قول المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان، إن "اللامركزية الموسّعة خطر وجودي"، وكأن خطرها يشبه خطر إسرائيل، الوجودي بدوره، بحسب أدبيات "الممانعة". على الارجح اعتبر المفتي الممتاز اللامركزية الموسعة خطرا وجوديا، لأنها تشكل بالفعل خطرا وجوديا على هيمنة "حزب الله" على كامل البلاد، اذ انها توزع السلطة الفعلية على المناطق اللامركزية. فكيف اذا اقتنع معي ان اللامركزية هي المدخل الى العلمانية، التي من شروط تطبيقها حل "حزب الله". فهل ستلقى المطالبة باللامركزية الموسّعة، رغم كل فضائلها الاضافية، الإدارية والإقتصادية والتنموية، مقاومة عسكرية أيضاً؟
الأكثر قراءة
اسرائيليات
11/11/2025 1:30:00 PM
يبحث الجيش الإسرائيلي عن بديل لتولي ملف الإعلام باللغة العربية...
اسرائيليات
11/12/2025 12:35:00 AM
سُلّطت الأضواء في تل أبيب على "الكابتن إيلا"، باعتبارها المرشحة الأبرز لخلافة أفيخاي أدرعي في المنصب الذي شغله منذ أكثر من عقدين.
الولايات المتحدة
11/11/2025 9:25:00 AM
وفقاً لتقرير للشرطة، عثرت والدة جوناثان ويليت على جثته مقطوعة الرأس.
لبنان
11/10/2025 11:53:00 PM
التحقيق جارٍ حالياً لاستكمال الإجراءات القانونية بناءً على إشارة النيابة العامة الاستئنافية في بيروت.
نبض