الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

المياه على طريق الندرة والأَمْوَلَةْ

المصدر: "النهار"
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-
الدكتور رجاء جوزيف لبكي
 
نشأت المدن والدول والحضارات القديمة بالقرب من مصادر مائية كالأنهار والينابيع الغزيرة، ويعود سبب ذلك الى كون الماء ضرورياً للحياة والنشاط الزراعي والحيواني. لكن أهمية المياه الجيو-سياسية تراجعت في السنوات المئة الأخيرة، مقارنة بمواد أولية أخرى كالنفط والغاز والمعادن النادرة، وذلك باعتبارها ثروة مجّانية ومتوافرة في الطبيعة وفي أنحاء العالم كافة. أمّا اليوم وبسبب نقصها، تعود أهمّية المياه الى الواجهة من جديد خصوصا في السنوات الخمس الأخيرة، ما يجعل من تأمينها الإشكالية العالمية الأبرز في المستقبل القريب.
 
الثروة المائية: انتشارها واستعمالاتها
تغطّي المياه 70% من مساحة الكرة الأرضية. وتشكّل المياه العذبة 2.5 % من المياه في العالم، مقابل 97.5% من المياه المالحة. حوالى 1% من المياه في العالم هي سائلة وعذبة، و1.5% الباقية من المياه العذبة هي على شكل ثلج أو جبال جليد.
 
يتبخّر في السنة حوالي 500,000 كلم مكعب من المياه في شكل مياه عذبة، ويسقط عشرها على شكل متساقطات على الأراضي اليابسة. يمتصّ النظام البيئي جزءاً من هذه المتساقطات ويجري الباقي في الأنهار والبحيرات وفي جوف الارض كمياهٍ جوفية. يتجدّد كل سنة 40,000 كلم مكعب من المياه العذبة أي ما يعادل 15,000 ليتر/يوم/شخص؛ ولكن 9% منها فقط يُستخرج ويُستفاد منه. وتنقسم استعمالات المياه عالمياً الى ثلاثة: زراعية بنسبة 70%، وصناعية بنسبة 20%، وفردية ومنزلية بنسبة 10%.
 
رغم تراجع نوعيّتها، تؤمّن المياه على الأرض الحاجة البشرية، لكنّها تتوزّع بطريقة غير عادلة في الزمان والمكان، إذ إنّ 60% من احتياط المياه العذبة السائلة في العالم تملكها 9 بلدان وهي، الولايات المتحدة الاميركية وروسيا وكندا وكولومبيا والبرازيل والصين والهند والبيرو واندونيسيا. ففي حين أنّ المعدّل العالمي المائي السنوي هو 535 متراً مكعباً/شخص في مجمل الاستعمالات، فهي بنسبة 59 متراً مكعباً/شخص في قطاع غزّة مقابل 500,000 متر مكعب/شخص في إيسلندا.
 
تناقص الثروة المائية وتلوّتها
رغم توافرها في مناطق كثيرة من العالم، فإنّ مليار شخص في العالم يعيشون في مناطق تعاني من نقص حاد في المياه، ومن المرجّح أن يرتفع العدد الى 3.4 مليارات نسمة سنة 2030. يعود ذلك الى أسباب عدة، منها: تَوَزُّعْ المياه بشكل غير عادل بين المناطق، وضعف البنية التحتية، والزيادة الديمغرافية، والارتفاع في مصروف المياه، وتفشّي التمدّن، وزيادة المصانع، والتلوّث، والاحتباس الحراري.
 
تنعدم في بعض المناطق البنى التحتية لجرّ المياه؛ فمنذ سنة 2015، أكثر من 10% من سكان الأرض لا تصلهم المياه. وفي بعض مناطق أخرى تتوفّر بنى تحتية إمّا قديمة أو غير صحيّة أو رديئة أو غير قادرة على تلبية الحاجة الزائدة، فتحدّ من كمية مياه الجرّ وتساهم في تلوثها. توجد معظم هذه المشاكل في البنى التحتية في البلاد النامية والتي تعاني أيضاً من تزايد سكاني كبير، ما يقلّل من نسبة المياه المتوفّرة للفرد الواحد بشكل خطير، بالإضافة الى سوء معالجة مياه الصرف الصحي فيها والذي يعتبر أبرز اسباب التلوّث، وبالتالي قلّة توفّر المياه العذبة الصالحة. وجرّاء ارتفاع نسبة التلوث، يشرب 47% من سكان العالم مياهاً خطرة على الصحّة متسببةً بأمراضٍ عدة، وبأكبر عدد للوفيات في العالم، بنسبة مليون شخص في السنة الواحدة، متفوقةً على كل الحروب مجتمعةً. والجدير ذكره أنّ من الاسباب غير المباشرة للتلوّت هو الاحتباس الحراري الذي يؤثّر سلباً على التنوّع البيئي ما يحدث خللاً في الطبيعة يؤدي الى التلوّث والجفاف اللذين يؤثران بدورهما سلباً على التوازن البيئي.
 
وفي المحصّلة، اكثر من 30 بلداً مهدداً بالنقص الحاد في المياه خصوصاً في أفريقيا والشرق الأوسط، ومن المتوقع أن يعاني نصف العالم من هذا النقص في المياه في سنة 2040. أمام هذا الواقع الخطير، ظهر مصطلح "الإجهاد المائي" وهو حالة تكون فيها موارد المياه في منطقة غير كافية لاحتياجاتها. نذكر بعض المدن التي تعاني من الإجهاد المائي: كاراتشي، وكازابلانكا، ومكسيكو، وبرشلونة، ومدريد، وبرلين، ولندن، وروما. ومن المرجّح أن يسبب الإجهاد المائي صراعات جديدة بين الدول وصدامات اجتماعية بين الذين يستطيعون الحصول على المياه والذين يفتقرون إليها.
 
طرحت عدة حلول لحل مشكلة المياه كالوقاية والتنظيم وتحسين البنى التحتية والتثقيف البيئي واعتماد ري المزروعات بتقنية النقطة والحفر أي عملية ثقب المياه الجوفية والتحلية، أي تحويل مياه البحار أو المحيطات من مالحة الى عذبة وغيرها... إلاّ أنّ هناك حلّاً قد طُرح واستعمل في بعض المناطق مؤخّراً وخلق جدلاً كبيراً حوله، ألا وهو أَمْوَلَةْ المياه. فما هو هذا الحلّ؟ وما هي إشكالياته وتحدّياته؟
 
أمولة المياه
تعتبر المياه ثروة طبيعية مجّانية ومتوفرة لكنّها، نتيجة لتراجع توفّرها، يُتّجه الى أمولتها أي تحويلها الى بضاعة تعرض في الأسواق كسلعة لتنظيم تجارتها كالنفط والمواد الاولية الاخرى والهدف الظاهر منها هو إدارة تمويلها وتوفيرها وضبط هدرها لأنّها أصبحت نادرة. فمبدأ الأمولة هو اعطاء سعر للمياه لتوفيرها، لأنّه طالما انّها مجّانية، يقلّ الانتباه في مصروفها وتُصرف كيفما كان؛ فبهدف ترشيد استعمالها، يتم تسعيرها.
 
دُعم هذا القرار من الجماعات البيئية التي تناضل للدفاع عن كوكب الأرض والمياه. ولكن السؤال الذي يُطرح، هل إدخال المياه في سوق المداولات هو الحل للمحافظة عليها ولتأمينها للجميع؟ من سيكون المستفيد الاول عندما يتم تبادلها في الأسواق بوتيرة عالية؟
 
قد لا يكون السوق حكماً عادلاً ومنصفاً، لانه عندما نفهم قواعد لعبة السوق، نستنج أنّ أمولة المياه تفتح الباب أمام المضاربة الهائلة وارتفاع الأسعار لصالح أقوى اللاعبين الاقتصاديين. فتطبيق هذه القواعد على ثروة حيوية واساسية للعيش كالمياه قد تكون له نتائج كارثية. فقد يحصل مثلاً أنّ أغنياءً يملأون احواض السباحة خاصتهم مقابل فقراء يموتون من العطش!
 
بدأت عملية أمولة المياه في أوستراليا، وهي من أول البلدان التي تأثّرت بشدّة جرّاء التغيّرات المناخية وموجات الجفاف الخطيرة. فطُرحت مشكلة توزّيع المياه في ظل ندرتها مع مرور الوقت، وتقرّر عرضها أو طرحها في الأسواق. في البداية، كان سعرها 50 دولاراً أوسترالياً لكل مليون ليتر واليوم أصبح السعر حوالي 500 دولار أوسترالي في المناطق التي يضربها الجفاف. حسب النظام الموضوع، يحق للمواطن كوتا من المياه حسب الحاجة وحسب التوقعات المناخية، وإذا فاضت عنده الكمية يمكنه بيعها في بورصة خاصة أُنشئت لهذا الغرض حيث تتم عبرها عملية بيع وشراء المياه.
 
هنا بدأت ظاهرة جديدة وخطيرة تتكاثر وهي لجوء بعض الناس لشراء كمّيات كبيرة من المياه بهدف المضاربة ما قد يسبب في ارتفاع مباشر في سعرها. ففي بعض المناطق الأوسترالية، أصبح الحليب أقل سعراً من المياه، هذا ما جعل الكثير من مربّي الأبقار الصغار يغيّرون عملهم، ما ترك المجال في هذا العمل حصرياً للشركات الكبيرة التي تربّي الحيوانات لأن بمقدورها أن تؤمّن المياه بكمّيات وتتحمّل تقلّبات السوق.
 
تطوّر هذا النموذج الأوسترالي في بلدان أخرى إنكلوسكسونية مثل ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية حيث ظهرت مشاكل جفاف مرتفعة ومشاكل زراعية. كذلك، يدفع المتداولون في "وول ستريت" في اتجاه أمولة المياه مقتنعين أنّ المياه ستكون "نفط" القرن الـ 21. ومنذ سنة 2018 يوجد على تداول الأسهم ناسداك NASDAQ مؤشر المياه الذي يقيس السعر الفوري للمياه في ولاية كاليفورنيا؛ كما وأن أدوات مالية أخرى على المياه هي قيد التطوير.
 
أمّا الدول الأوروبية، فتعتبر حتى اليوم من الدول الممانعة أمام أمولة المياه. بقيت المياه فيها مورداً عاماً وجماعياً يُدار من السلطات المحلية، رغم محاولة من المفوضية الأوروبية لأمولة المياه، والتي قُوبِلَتْ بردة فعل قويّة من المواطنين الأوروبيين بمليوني إمضاء لإبقاء المياه كمصدر عام مجاني يُدار من السلطات المحلية.
 
لكن هذا الانتصار الأولي في المعركة لا يعنى انتهاء الحرب، لأنه بالإضافة إلى ضغوط رؤوس الأموال المستفيدة، سيزداد الطلب على المياه في السنين الآتية بسبب التغيّر المناخي، ما قد يجعل الدول الأوروبية أمام أمر واقع جديد.
 
في النهاية، وإن كان الغرض من سوق المياه دعم الاقتصاد ومنع الهدر، فإنّ الآثار السلبية التي قد تحدثها المضاربة الهائلة وارتفاع الأسعار على حساب تمتع الناس بحقهم الانساني في المياه هي أخطر بكثير من الهدف الإيجابي الأساسي، وفي ذلك تناقض مع اعتراف الأمم المتحدة في 28 تموز 2010 بحق الإنسان في الحصول على منشآت صحية ومياه نوعية.
 
أمام هذه التحدّيات الخطيرة التي يواجهها العالم، يمكننا أن نستبق المشاكل التي نواجهها وسنواجهها في لبنان الذي يعتبر من أغنى بلدان المنطقة في المياه. فإنّ التحسين في البنى التحتية بالإضافة إلى المعالجة والتكرير وإنشاء السدود وتنظيم المياه وتوزيعها والإدارة الرشيدة يشكّل الحلّ الأنسب للمشكلة اللبنانية ولدول أخرى في المنطقة التي قد تستورد المياه من لبنان في المستقبل بدل أن تصرف الأموال الهائلة على التحلية أو الحفر. فإدارة المياه دقيقة بقدر ما هي معقّدة، وقد تشكّل مستقبلاً فرقاً هائلاً في تطوّر الدول.
 
*أستاذ في الجامعة اللبنانية- كلية الآداب والعلوم الإنسانية
 
 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم