الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

التدقيق الجنائي: بين صدق النيّات والتحوّل إلى أداة انتقام سياسي

المصدر: "النهار"
 يجب أن يتركز على أسباب انهيار مالية الدولة كافةً (تعبيرية - أرشيف "النهار").
يجب أن يتركز على أسباب انهيار مالية الدولة كافةً (تعبيرية - أرشيف "النهار").
A+ A-
غسان بيضون
**المدير العام للاستثمار السابق في وزارة الطاقة والمياه
 
التدقيق الجنائي هو أحد أنواع التدقيق الحديثة، ويتطلب مهارات مراجعة ومؤهلات خاصّة تتلاءم مع ظروف المخالفات الجرمية و"الاحتيال الجسيم" الذي تنطوي عليه. ويُطبَّق على الحالات التي يترتب عن تدقيقها نتائج ومسؤوليات قانونية. وهو يتناول العمليات التي لا يمكن كشف مخالفاتها بالطرق والوسائل ومنهجيات التدقيق العادية. وفي مراجعة أجرتها التنظيمات المهنية العالمية للمسؤولية عن تدقيق هذه الفئة من العمليات وكشف مخالفاتها، رأى أكثر المعنيين أنّ المدققين يجب أن يتحمّلوا مسؤولية الكشف عن هذا المستوى من الاحتيال، بحيث يشكّل جزءاً من تدقيقهم العادي، لا من خلال مراجعات خاصّة تجري لمرة واحدة.
 
التدقيق الجنائي غايته كشف الفساد الاحتيالي، وجمع الأدلّة على مرتكبي العمليات والمخالفات غير العادية والبالغة التأثير، وتحديد المتورّطين فيها لتحميلهم المسؤولية القانونية وتبعات الانهيار بمختلف أشكاله، وتعيين الشركاء في التسبب به. وهو في حالتنا الراهنة كالطبّ الشرعي؛ الغاية من تدخلّه هي تحديد أسباب سقوط الدولة في أزمتها الخانقة، والتحقق مما إذا كانت هناك دوافع جرمية أدّت إليه، واستطراداً تحديد "الطلقات البالغة" التي أصابت ماليتها وكانت هي القاتلة.
 
التدقيق الجنائي الذي نحن بحاجة إليه اليوم، يجب أن يتركز على أسباب انهيار مالية الدولة كافةً، وأن يشمل مختلف مكوّنات عجزها وتفاقم دينها ومواقع النزف الذي أدّى إلى إفلاس الخزينة وتوقّف المصارف عن الدفع والهدر في الإنفاق، وتفويت واردات ومداخيل مهمة من مداخيلها، وإلى تهريب الأموال إلى الخارج، وغيرها من العناصر الحاسمة في حصول العجز والانهيار، وكشف المسببين له والمشاركين فيه، على مختلف مساحات القرار المتعلق بإدارة المال العام والتصرّف به. إذاً فإنّ التدقيق الجنائي وجمع الأدلة على الفساد والعمليات ذات النتائج غير العادية والمتورطين فيها، إن بقي محصوراً ضمن مصرف لبنان فلن يحقق غايته في كشف جميع الفاسدين والمرتكبين، وذلك لعدم توفر كامل المعلومات والحقائق التفصيلية اللازمة حول عمليات الخزينة المسجّلة لديه. وذلك لا ينفي أهمية مخاطر ارتكابات مصرف لبنان الجسيمة في الهندسات المالية، وسياسات الحاكم في توزيع المغانم على القوى السياسية في غياب المجلس المركزي، ومسؤوليته عن نتائج سياسته النقدية وأثرها في تفاقم خدمة الدين العام، وعن الاستمرار بتغطية عجز الموازنة والخزينة من دون حدود، تلبية لقرارات القوى السياسية وإرضاءً لها.
 
يجب أن يشمل التدقيق الجنائي المطلوب، "تشريح" جميع مكوّنات عجز مالية الدولة ووتيرة تفاقم دينها وإفلاس خزينتها، والهدر في الإنفاق ومكامن الخلل التي سهّلت حرمان الدولة من إيرادات مهمة، وتهريب الأموال إلى الخارج، وعلاقة ذلك بشحّ السيولة وتوقف المصارف عن الدفع. وتستوجب الجدّية الحذر من أن تكون دوافع البعض من إجراء هذا التدقيق هي الانتقام من خصومهم في السياسة. ويفترض عدم الاكتفاء في تنفيذه البحث "حيث الضوء على فلس أضعناه في العتمة".
 
في مصرف لبنان لن تجد سوى حركة حساب الخزينة، وضمنها قيود خدمة الدين العام وفوائده، وتسجيل إشعاراتها دون "تصفية" مبالغها وفقاً للأصول المقررة في قانون المحاسبة العمومية. وكذلك لن تجد كامل حركة القروض الخارجية المخصّصة للمشاريع، بسبب تشتت إدارتها وصلاحية السحب منها، وإنفاقها بين مجلس الإنماء والإعمار ووزارة المالية ومصرف لبنان نفسه.
 
في مصرف لبنان، ومن خلال أجهزته الرقابية والوحدات التابعة له، المعنية بتطبيق معايير وقواعد مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال، يمكن أن نضبط واقعة إهمال نموّ الودائع في الحسابات المشبوهة على حساب المال العام والسكوت عنه والتستر عليه، أو غيره من أوجه الفساد وآلياته وهندساته، ويمكن أن نضبط دوافع التواطؤ على الاستمرار في استخدام أموال المودعين لتغطية عجز الموازنات، وتأمين "جريان ساقية الإنفاق" تسهيلاً لمزيد من الهدر والنهب منها. وكذلك يمكن أن نكتشف ما يدين الصامتين والمتغاضين عن الأموال المشبوهة، وغزارة التحويلات اللافتة إلى الخارج وتسارعها خلال فترة قصيرة وفي توقيت مشبوه. وعلى سبيل المثال، فإنك لن تجد لدى مصرف أيّ أدلّة على المسبّبين تجاوز سقوف الإنفاق على عجز الكهرباء التي حُدِّدَت بـ 2100 مليار ل.ل. في قانون موازنة 2017، ولا على ممارسة الضغط السياسي لتمرير زيادات "بالغة" التأثير على عجز الموازنة، بفذلكات شكلية، واهية ومخالفة للمنطق والقانون.
 
إنّ منهجية التدقيق المحايد النزيه والسليم تقتضي الانطلاق من الأهمية النسبية لكتل الإنفاق الوازنة، والتركيز فيها حيث هناك ضعف في الرقابة، كما على زمن حصولها وضررها "الحدّي". بمعنى أهمية مخاطر وثقل استدانة دولار إضافي على أعباء خزينة على وشك الانهيار بفعل يتزايد عجزها، وانحسار إمكانية الاستدانة وارتفاع تكلفتها، فيتناول هذا التدقيق مبالغ فوائد الدين العام وأقساطه، والإنفاق على دعم الكهرباء ومحروقاتها ومشاريعها واستملاكاتها ومصالحاتها، وتكاليف دعاوى التحكيم وعقود المستشارين والاستشاريين في إطارها، وعلى الاستملاكات وخططها المبعثرة والمفتوحة دون أفق. ويجب أن لا نهمل في مراجعة النفقات حصّة التلزيمات والمشاريع الكبرى وتلك المموّلة من قوانين البرامج، وموازنات المجالس والصناديق، أو القروض الخارجية، وغير ذلك من أوجه الإنفاق غير المجدي أو غير الملحّ والممكن تأجيله، وساهم في زيادة النزف وتعجيل الانهيار.
 
أما الإيرادات الفائتة أو المهملة والساقطة بمرور الزمن، فعلى التدقيق الجنائي البحث عنها في طرق الدعم ودروب التهريب والتهرّب الجمركي والضريبي لكبار المكلفين. وكذلك تجدها في تسهيل وزراء الاتصالات نهب أموال الخليوي وتغطيته بالمقاصّة بين إيراداتها ونفقاتها التشغيلية، فضلاً عن شراء واستئجار أبنية بمبالغ طائلة، وفي أموال البريد وحقوق الدولة فيها، وفي نفاد إيرادات استثمار الطرقات العامّة بعدّادات الوقوف العابر، بفعل المقاصّة بين إيراداتها ومصاريف الصيانة وتكلفة تشغيل إشارات السير وكاميرات المراقبة ومركز التحكم. ويمكن أن تقتفي أثر بعض هذه الإيرادات في عائدات استثمار السوق الحرّة ومراكز المعاينة، والكازينو وغيرها من المرافق العامة.
 
إنّ هذه التجاوزات والمخالفات والانتهاكات الفاضحة لحرمة المال العامّ وحصانته، تقع في صلب الفساد والجرائم المالية. ولن يكشفها التدقيق الجنائي، إن هو اقتصر على مصرف لبنان ونطاق صلاحياته وعملياته الداخلية، لأنّ مساحة الفساد الذي أدّى إلى انهيار مالية الدولة واسعة وتتجاوز حدوده. وهي لا تنتج عن قرارات الحاكم ومناوراته، بل عن القرار السياسي الذي وفّر المناخ المواتي لاستغلال مواهب الحاكم وارتباطاته في التقاطع مع العقوبات الخارجية وتوقيت ملاقاة الحصار.
 
في خضمّ التنازع والانقسام الخطير الذي يشلّ البلاد ويمعن في تعميق حدّة أزمتها المالية والاقتصادية، بفعل الحصار المرتبط بالنزاع الإقليمي والاختلاف حوله، يجب أن لا نهمل الأبعاد والغايات السياسية، الداخلية والخارجية، التي يمكن أن تكمن خلف حملة التدقيق الجنائي، وتصويب البعض على خصومهم للنيل منهم، وضمان هذا البعض نجاته واستمراريّته لتكريس "قداسته" باعتباره المخلّص.
 
إنّ الحكم على جدّية التدقيق الجنائي الجاري بحثه، يجب أن يرتكز على صياغة مهمّته والقيود التي يمكن أن تفرضها قُطَبُها المخفيّة. وكي لا يتحوّل التدقيق الجنائي إلى لعبة شطارة سياسية و"تدقيق حقّ يراد به باطل"، فإنّ المطلوب اليوم هو إطلاق تفكير ديوان المحاسبة "خارج الصندوق"، والمبادرة إلى مباشرة حملة تدقيق بموازاة التدقيق الجنائي، تلاقيه وتتكامل معه لتغطية باقي مساحات الهدر والنهب والإنفاق المخالفة للأصول، ولحدود السلطة التشريعية والقانون، ولضبط المخالفات والتجاوزات والمرتكبين، أكان ذلك في استغلال سخاء "سواقي" الإنفاق الجارية، والانتفاع منها دون وجه حقّ، أم في استغلال السلطة لنهب الإيرادات أو تسهيله وإهمال تحقيقها ومتابعة تحصيلها.
 
في ضوء التجارب الواقعية والوعود المخيبة للآمال، من حقّنا الحذر من إمكانية الاستغلال السياسي للتدقيق الجنائي، من خلال التركيز على إجرائه حصراً ضمن مصرف لبنان لاستثمار نتائجه المحتملة، واستخدامها لإضفاء نوع من القدسية على ممارسات فئة وإبقائها سيفاً مصلتاً على أخرى!
نعم لتدقيق جنائي حياديّ ومنزّه غير قابل لتحويله أداة انتقام سياسي، يكفل معاينة وتوصيف "الإصابات البالغة"، يميّز "القاتل" منها، ويمهّد لإدانة الجناة ومعاقبتهم!
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم