الدواء المحلي مفقود من الصيدليات... فهل أسباب الأزمة علمية أم مالية؟

 أزمة لبنان مع الدواء تاريخيّة، لكنّها كانت على الدوام ضمن نطاق الضبط وتستجيب للإمكانيّات الوطنيّة، قبل أن تستفحل مؤخّراً في عصر الكورونا والانهيار المالي. لم نفقد في هذه المرحلة الدواء المستورد من البلدان الأجنبيّة فقط بل فقدنا معه الدواء المحليّ، الذي بات من الصعب إيجاده في الصيدليّات ولدى مستودعات الأدوية. الأزمة اليوم مستفحِلة، ولا يبدو أن الإنتاج المحلي يمكن أن يكون حلّاً للمواطن.
 
لماذا؟ لأنّه مع انهيار سياسة دعم الأدوية والموادّ الأوليّة الداخلة في صناعته، تحاول المصانع أقصى جهدها للتصنيع "من كيسها"، رغبة في الاستمرار وتلبية السوق، حيث الطلب على الدواء المحليّ يشهد ارتفاعاً غير مسبوق. لكن ماذا يعني إقفال الصيدليّات في هذه الأوضاع الاستثنائيّة؟ وأين يذهب الإنتاج المحلي من الدواء إذا كان غير موجود في الصيدليّات؟
 
يشرح طارق طبّارة، أمين صندوق نقابة مصنّعي الأدوية الوضع بقوله إنّ "حاجة السوق إلى الأدوية المحليّة تشهد ارتفاعاً، إذ أغلبيّة المصانع الدوائية اللبنانية، وهي بحدود 8 مصانع، تشهد طلباً متزايداً على منتجاتها؛ وجميعها يلبّي هذا الطلب، إذ تعمل بعض المصانع على فترتين أو ثلاث، وهناك مصانع وصلت إلى زيادة 50% في الإنتاج والتسليم إلى الصيدليات والمستشفيات، مقارنةً بالعام الماضي". وبحسب الدراسات على سوق الدواء اللبناني، فإنّ هناك زيادة في الطلب وفي تلبية المصانع للسوق. 
 
وبالرغم من الظروف الصعبة، لم تتوقّف مصانع الأدوية والأمصال عن الإنتاج والتسليم يوماً، وفق طبارة؛ ولدى مصرف لبنان حتى اليوم فواتير متراكمة لهذه المصانع، التي اضطرّت إلى ضخّ التمويل من الاحتياطيّ الخاص بها لتأمين استمراريّتها وتلبية السوق؛ فالتصنيع في قطاعات حيوية كصناعة الأدوية لا يمكن أن ينتظر استحصال موافقة مسبَقة من مصرف لبنان.
 
يتبيّن من حديث طبّارة أنّ المصانع زادت كميّة إنتاجها وتسليمها، ما يعني أنّه من المفترض إيجاد الأدوية المحليّة لا انقطاعها. ويستغرب طبّارة النقص الحاصل في هذه الأدوية، لكنّه يؤكّد أن "المشكلة ليست لدى مصانع الأدوية، فهي تسلّم الصيدليات والمستشفيات كميات أكبر من السابق بسبب زيادة إنتاجها"، نافياً معرفة سبب "الشحّ الذي يحصل"، في حين يشدّد على جاهزيّة المصانع "لإبراز مستندات تقرّ بتسليمها البضائع وبكميّات أكبر، فالمصانع تقوم بواجباتها من إنتاج وتسليم". 
 
ويقرّ طبّارة بأنّ "أسعار الأدوية سترتفع بعد دعم المركزي للأدوية على سعر 3900 ليرة، وإن لم يمكن معرفة نسبة الزيادة؛ فالتسعير يتعلّق بمؤشّر المنتجات المستورَدة وتركيبة سعر الدواء المحلي البديل مبنيّة على أن يكون أقلّ بـ 30% من سعر المستورَد، وجزء من التركيبة تحرّرت على 3900 ليرة، وجزء لا يزال على 1500 ليرة، والموادّ الأوليّة الخاصّة به".   
 
من جهته، يقول الصيدلي جو سلّوم، المرشّح لمقعد نقيب صيادلة  لبنان، إنّ "هناك نقصاً في جميع الأدوية، سواء المصنَّعة محلياً أو المستورَدة؛ فجميع الأدوية تشهد شبه توقّف عن تسليمها إلى الصيدليّات بنسبٍ متفاوتة، مقابل الأدوية المصنَّعة محليّاً التي تسلّم بكمية أكبر. لكن يبقى النقص كبير فيها، إذ تعاني المصانع الدوائية المحليّة من نقصٍ في الموادّ الأوليّة للتصنيع، وبالتالي هناك عدد كبير من الأدوية المصنَّعة محلياً لم تسلَّم للصيدليات بعد. لكن تسليمها هو أكبر بكثير من الأصناف المستورَدة سواء البديلة أم ذات العلامات التجارية"، مستبعداً فرضيّة أن يكون شحّ الأدوية المحليّة في الصيدليات عائداً أيضاً إلى تخزين هذه الأدوية.
 
ويفيد سلوم بأنّ اعتماد الصيدليّات اليوم هو على المصانع المحليّة، التي يغطي إنتاجها حالياً 7% من حاجات السوق، لافتاً إلى أنّ "هذه المصانع تصنّع بكميات قليلة وعدداً محدّداً من الأصناف، لأنّها لا تحظى بالدعم الكافي، وتعمل بأقصى جهدها وطاقتها؛ لذلك فالأدوية المحليّة هي نوع ما موجودة في الصيدليّات".  
 
بدوره، يوضح برنارد تنوري، رئيس مجلس إدارة شركة "بنتا BPI" لصناعة الأدوية أنّ "نقص الأدوية المحليّة في السوق يعود إلى مشكلة أساسية في الإنتاج، تكمن في عدم توافر الموادّ الأوليّة. لكن من المفترض أن نباشر باستيرادها ابتداءً من الأسبوع المقبل بحسب قرار وزير الصحة؛ ونحن بانتظار توافق الوزارة مع مصرف لبنان، سواء كمستورِد دواء أم كمصنِّع، لأنّ هناك حالة تخبّط في ما بين الجهتين، إذ إنّ نية الدعم الجزئي موجودة لكن لا تمويل له". 
 
وبالرغم من هذه الأزمة وعدم القدرة على تسديد مستحقات المورّدين، يلفت تنوري إلى أنّه لم يتوقّف عن الصناعة، ويشدّد على تلبية "حاجات السوق أكثر إذا ما تمّ توفير الدعم بشكلٍ أوسع لصناعتنا"، مضيفاً أنّه "تمّ إقرار دعم جزء من الأدوية للصناعة الوطنية على سعر 3900 ليرة، لكنّه حتى الآن تنفيذ هذا الإقرار غير واضح المعالم"، بحسب تنوري الذي يعد بأن الدعم يمكّن من "إنتاج الدواء للسوق المحليّة". 
 
وعن قدرة المصنِّع المحلّي على تلبية حاجات السوق المتزايدة للدواء المحليّ في ظل انقطاع المستورَد منه، يقول تنوري "إذا حظيت جميع المصانع اللبنانية بتسهيلات ودعمٍ كامل لصناعتها، وبتطبيق جميع التزامات وقرارات المركزي ووزارة الصحة، فستصبح قادرة على تغطية السوق المحلية بشكل كامل من الأصناف التي يقوم لبنان بإنتاجها أساساً". لكن الأصناف المستورَدة، التي تشكّل أقلّ من ثلث الأدوية، لا وجود لها في لبنان، ولا يُمكن سوى استيرادها؛ فالمصانع في لبنان تنتج أكثر من 300 صنف من الدواء، وطاقتها الإنتاجيّة قادرة على الإنتاج بكميّات، إنّما المشكلة في دخول قرارات دعم الدواء حيّز التنفيذ. 
 
ويفيد تنوري بأنّ إنتاج المصنّع يذهب مباشرة إلى الأسواق، لكن المشكلة في التخزين سواء من المواطن أو من غيره، وهذه الممارسات هي التي تقطع الدواء المحلّي من السوق، وقد زادت حاجة السوق المحليّة من الدواء المحلي إلى حدود 15 و30%.
 
ويرى أن أسعار الأدوية المحليّة، بعد تطبيق دعم الدواء وصناعته على سعر 3900 ليرة، ستزيد بحدود الضعفين والنصف، أي ما كان سعره 10 آلاف ليرة سيُصبح سعره 25000 ليرة. 
 
إلى ذلك، تواجه صناعة الدواء تحديات إضافيّة، منها عدم توافر الموادّ الأوليّة وانقطاع المازوت والكهرباء ونقص العملة الأجنبية، في وقت يحاول المصنّعون "حالياً أن يتأقلموا ويؤمّنوا المازوت ومقوّمات تصنيع الدواء بأكملها؛ لذلك، فالتكلفة كلّها ستنعكس على السعر النهائي للدواء"، وفق تنوري، الذي يؤكّد الاستمرار في ظل هذه الظروف، "فلن نستسلم بل سنقاوم، فالفرج آتٍ لا محال".  
 
في السياق نفسه، يشرح نبيل غريّب، عضو مجلس إدارة شركة "Algorithm" لصناعة الأدوية أنّ المصنّع قادر على تسليم كميات كبيرة من الإنتاج المحلي إلى الصيدليات، لكن ما حصل هو بعض التأخير في هذا الأسبوع بسبب تغيير أسعار بعض الأصناف، بناءً على قرار وزارة الصحة القاضي باستئناف دعم الموادّ الأوليّة لزوم الصناعة المحلية على سعر 3900 ليرة، وبالتالي حصل تغيير هوامش الربح بحسب الشريحة، وسيُستكمل التسليم في الأيام القليلة المقبلة. 

وعن حجم الإنتاج، يشير غريّب إلى أنّ المصنع زاد كميّة إنتاجه منذ بدء انقطاع الأدوية المستورَدة منذ سنة تقريباً؛ وهناك أصناف زاد إنتاجها ثلاثة أضعاف إلى أربعة أضعاف، إلى جانب إنتاج مصنعه أصنافاً لم يكن ينتجها في السابق مثل الأدوية الخاصة بعلاج كورونا ومضادات الالتهاب وغيرها الكثير؛ وكذلك الأمر لدى المصانع الأخرى، فيما يلفت إلى أنّ الصناعة المحليّة من سوق الدواء تشكّل حاليّاً حوالي 12%.