الديون المتعثّرة… ماهيّتها والحلول المقترحة لمعالجتها

أحمد قاسم، متخصص في الديون المتعثرة
 
تعرف الديون المتعثّرة بأنّها تلك الديون الناتجة عن تعرّض المدين لظروف طارئة غير متوقّعة، تؤدّي الى عدم قدرته على الوفاء بالتزاماته المالية في المدى القصير، ومن وجهة مصرفية تعرف الديون المتعثرة بأنّها تلك الديون التي لا تدرّ عائداً، بمعنى أنها تلك الديون التي يتقرّر عدم إضافة العوائد المحتسبة عليها لإيرادات البنك، وإنما توضع في حسابات مستقلّة، كما يعرف العميل المتعثر بأنّه العميل الذي يتوقّف عن سداد الأقساط أو الفوائد المستحقة عليه في مواعيدها، أو يواجه مشاكل مالية أو إدارية أو تسويقية يترتب عليها في النهاية تخلّفه عن الوفاء بالتزاماته المالية تجاه الدائنين في مواعيدها.
 
فالتعثر المصرفيّ يحصل عندما يتوقّف المدين عن دفع الالتزامات المستحقة عليه في مواعيدها، على الرغم من مطالبة المصرف بسدادها، وذلك لأيّ سبب كان، وهذه الأسباب قد تحصل في الغالب نتيجة لأسباب خارجة عن إرادتهم، ولا يمكن التغلب عليها إلّا بتدخّل خارجيّ (كاللجوء الى القضاء)، او بسبب عدم الرغبة من قبل المدينين مع القدرة على الإيفاء. فالديون المصرفية المتعثرة تتضمّن عدم قدرة المقترض على خدمة الدين، ويتمثل ذلك في أصل المبلغ، إضافة الى الفائدة المترتبة عليه في تواريخ الاستحقاق، ويتحوّل القرض الى قرض غير عامل كون درجة مخاطره أعلى من الحدّ الأقصى، لدرجة المخاطر الاعتيادية للقروض القائمة، وذلك وفق المعايير المقررة والمحددة من قبل جهات الرقابة في البلد المعني.
 
من هنا، نجد انّ الديون المصرفية تصبح متعثرة عندما تستحقّ ولا يجري تسديدها لأي سبب من الاسباب، فالتعثر لا يفرّق بين مدين متعثر مع قدرته على السداد لأيّ سبب كان (كالمماطلة مثلاً)، وبين مدين متعثر لظروف خارجة عن ارادته. وهذه الديون المتعثرة من أهم العقبات التي تواجه المصارف التقليدية والاسلامية على وجه الخصوص، وذلك لعدم قدرة الاخيرة على فرض غرامات تأخير او شروط جزائية او التعويض لعدم جواز ذلك شرعاً، بعكس المصارف التقليدية التي تفرض غرامات تأخير.
 
 
فالائتمان المصرفي الى جملة من المعايير والأسس التي تهدف الى تقليل المخاطر الائتمانية، فالقروض مهما بالغ المصرف في الأخذ بالحيطة والحذر والضمان عند منحها، لا يمكن معه القول بانتفاء المخاطر، والصناعة المصرفية الحديثة تعتمد على فن الحد من المخاطر وتقليلها وليس انتفائها نهائياً، لأن هذا غير ممكن عملياً. فهناك تعثّر لا إرادي، ويحدث بسبب المتغيرات الخارجة عن ارادة العملاء المتعثرين، وتعثر ارادي لا أخلاقي هدفه السيطرة على أموال المصرف. 
 
تمثل الديون المصرفية المتعثرة مشكلة كبيرة للمصارف، حيث تؤدي الى تجميد قسم من اموالها نتيجة لعدم قدرة العملاء على السداد، متسببة لها بانخفاض السيولة وبالتالي العجز احياناً عن مواجهة السحوبات على الودائع، الامر الذي يترك آثاره السلبية على سلامة موقفها المالي، وما يترتب عليه من اختلال وارتباك في النشاط الاقتصادي. فمثلاً في حال منح المصرف قرضاً بقيمة خمسة آلاف دولار لعميل، ثمّ توقف عن الدفع لأيّ سبب كان، هنا يتوجب على المصرف تعزيز هذا الدين بتكوين مؤونة له، وهي عبارة عن اقتطاع جزء من ارباحه ووضعها في حساب مستقل مقابل هذا الدين. هنا نجد انّ المصرف تعرّض لخسارتين: الأولى بقيمة القرض الأصلي والثانية بالمؤونة المأخوذة من ارباحه، ومع الوضع الذي نمرّ به في لبنان لناحية جائحة كورونا وتوقّف العديد من المؤسسات عن العمل، وكذلك للأزمة المالية التي نمرّ بها وارتفاع قيمة الدولار مقابل الليرة وانخفاض دخل الفرد وعدم قدرته على سداد القروض المتوجبة عليه، ممّا أدّى الى زيادة القروض المتعثرة وبالتالي زيادة المؤونات المكوّنة لها، وللأسف لا توجد إحصاءات عن مصرف لبنان عن نسبة هذه الديون التي سيكون الإعلان عن نسبتها مؤلماً للغاية، وذلك لكبر حجمها وما سينتج عنها من تقليل لأرباح المصارف التي ستجد نفسها مكبّلة وغير قادرة على تلبية حاجات السوق من الودائع ومن ضخّ المزيد من القروض لعدم قدرتها على ذلك، ولن نكون متشائمين اذا ما اعتبرنا انّ استمرار هذه الأزمة سوف يؤدّي الى إفلاس بعض المصارف.
 
تهدف المصارف سواء أكانت إسلامية أم تقليدية الى تحقيق الأرباح، وذلك من خلال استثمار الاموال الموجودة لديها في عمليات التسليف للقطاعات والافراد المحتاجين الى تمويل، فالمصارف تقوم بدور الوسيط بين اصحاب الاموال وبين الافراد والمؤسسات والشركات المحتاجة الى تمويل. وهي تقوم بهذه الوظيفة مقابل بدل يسمّى الأرباح، وهذه الارباح كلّما ارتفعت، ارتفعت معها الثقة بالمصرف وكلما انخفضت، انخفضت معها الثقة بالمصرف. ولكي تحقق المصارف الارباح المرجوّة منها، عليها أن تتجنّب تشكّل الديون المصرفية المتعثرة في محافظها الائتمانية، فهذه الديون تشكل عبئاً كبيراً على ميزانية المصارف وعلى القطاع المصرفي لأنّها تجمد الكثير من الاموال وتحرم المصارف من اعادة ضخّ هذه الاموال واستثمارها من جديد من أجل تحقيق المزيد من الارباح، كما تؤثر على معدل السيولة في المصارف وعلى ثقة المودعين فيها.
 
متى يتمّ تصنيفها وتكوين المؤونة لها؟
 في البدء لا بدّ من الإشارة الى انّ تصنيف الديون يهدف الى حماية المصارف والتمييز بين الديون المنتجة والديون غير المنتجة، ذلك انّ العميل الذي يستفيد من قرض مصرفي ويتعثر سوف يقوم المصرف بتصنيف دينه متعثّراً، وإرسال اسمه الى مصرف لبنان، وفي حال أراد الاستفادة من قرض من مصرف آخر سوف يقوم هذا المصرف بارسال استعلام الى مصرف لبنان الذي سوف يقوم بتزويده بكافة المعلومات عن هذا العميل وعن تصنيفه، بحيث إذا كان تصنيفه غير عادي، أي دون العادي او مشكوك بتحصيله، سوف يقوم بالطبع برفض طلبه وبالتالي تجنّب الوقوع في دين متعثّر، والدين وفقاً لتعميم مصرف لبنان رقم 274 تاريخ 24/4/2011 يصنّف دون العادي وهو أوّل درجة في التعثّر عندما يتوقّف المدين عن الوفاء بالتزاماته لفترة زمنية تتجاوز الـ90 يوماً، وعندها يعمد المصرف الى اعداد خطة لتخفيض دينه والامتناع عن منح العميل أيّ تسهيلات جديدة للحدّ من إمكانية المصرف من تكبّد الخسائر، وعليه اعادة تقييم وضعه بشكل فصلي وملاحقة مدى الالتزام بالخطة الموضوعة وتقييم ضماناته للتأكد من انّ قيمتها السوقية ما زالت كافية والمبادرة الى تصفية الضمانات المتوفرة في حال عدم حصول تحسّن على أوضاع المدين خلال فترة سنة.
 
بتاريخ 2/1/2015 صدر عن لجنة الرقابة على المصارف التعميم رقم 280 حول نظام منح قروض التجزئة وتصنيفها وتكوين المؤونة والاحتياطات المتعلقة بها، وتكوين المؤونة الاجمالية والاحتياطات على القروض الاخرى، والذي اشار الى تصنيف الدين كدين متعثر في حال تأخر العميل عن تسديد أيّ من السندات لمدة تتجاوز 91 يوماً، وأمر بايقاف احتساب الفوائد على هذه القروض وتكوين المؤونة لها، ولم يكتفِ بذلك بل أوجب على المصارف تكوين مؤونة اضافية اجمالية على محفظة قروض التجزئة حتّى وان لم يتجاوز التأخير الـ31 يوماً وذلك بناءً على اختبارات التدني الواجب اجراؤها وفقاً لمتطلبات المعايير المحاسبية الدولية ومذكرتي لجنة الرقابة على المصارف 14/2009 تاريخ 16/10/2009 و15/2013 تاريخ 12/12/2013، وأوجبت ألّا تقل نسبة المؤونة المكونة عن 0.25% من قيمة المحفظة نهاية 2014، و0.50% نهاية 2015، و1% نهاية 2016، و1.5% نهاية 2017، على ألّا يتمّ تحرير أيّ فائض من المؤونات المكوّنة سابقاً. وهذه النسب هي الحدود الدنيا وطلب البدء في تنفيذها ابتداءاً من سنة 2015 وعلى مدى ستّ سنوات.
 
ولكن ما هي الحلول لمواجهة هذه المشكلة؟
عادة تلجأ المصارف الى القضاء عند انسداد الأفق في وجهها لتحصيل ديونها وتجنّب احتجاز أموالها وتكوين المؤونات لها، وكما تعلمون فإنّ الطرق القضائية مكلفة وتتطلّب وقتاً طويلاً ومع ما يتطلّبه ذلك من حرمانها من الاستفادة من أموالها ومن المؤونات المكونة لها في استثمارات جديدة سوف تدرّ عليها المزيد من الأرباح. وكما تعلمون فإنّه في ظلّ الازمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وخاصة بعد تفشّي وباء كورونا وتوقّف البلاد عن العمل وفقاً لخطة الطوارئ الموضوعة من قبل الدولة، تقدمت الحكومة من المجلس النيابي بطلب تعليق المهل القانونية والقضائية والعقدية، وذلك بعد ظهور اول حالة كورونا في البلاد بتاريخ 20/2/2020، وقد اقرّ مجلس النواب التمديد بموجب القانون رقم 160، المتعلق بتمديد المهل القانونية والقضائية والعقدية، الصادر في 8/5/2020، والمنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 14/5/2020، العدد 20. امّا عن موضوع الاقساط فقد تمّ تعليقها كذلك حفاظاً على مصلحة المقترضين وصوناً لهم ولممتلكاتهم. فقد ورد في المادة الاولى من القانون رقم 199 ما يلي: "خلافاً لأيّ نص آخر، تعلّق لمدة ستة أشهر من تاريخ نشر هذا القانون مفاعيل البنود التعاقدية المتعلقة بالتخلف عن تسديد القروض بكافة انواعها، سواء المدعومة منها وغير المدعومة، من تجارية وسكنية وصناعية وزراعية وسياحية وبيئية وتكنولوجيا معلومات، بحيث لا تسري على المقترض أيّ جزاءات قانونية أو تعاقدية، بما في ذلك أيّ زيادة على معدل الفائدة بسبب التعليق اعتباراً من تاريخ 1/1/2021.                 
تعلّق جميع الإجراءات القانونية والقضائية والعقدية التي يباشر بها خلافاً لأحكام هذا البند، وتتوقّف مهلة مرور الزمن المسقط للحقّ خلال مدة نفاذه".
لذلك نرى انّ المهل علقت ولا تستطيع المصارف رفع أيّ دعوى او فرض فوائد تأخير على القروض، لذلك لم يبقَ لها الّا اللجوء الى الحلول الحبية وذلك بتعزيز اقسام المتابعة لديها من أجل القيام بالاتصال بالزبائن المتعثرين ودراسة كلّ حالة وحدها، من اجل ايجاد افضل الحلول واعطاء تسهيلات بالدفع للعملاء المتعثرين وهو افضل الحلول حاليّاً، أمّا بالنسبة إلى العملاء غير المتجاوبين مع كلّ هذه الحلول، فلم يبقَ لها سوى انتظار المحاكم.