الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

يوميّات حالمة: كوب من الشمبانيا وبضع حبّات من التوت

المصدر: "النهار"
هنادي الديري
هنادي الديري https://twitter.com/Hanadieldiri
 كوب من الشمبانيا وبضع حبّات من التوت
كوب من الشمبانيا وبضع حبّات من التوت
A+ A-

استمتعت بالمشاهد عندما عدتُ إلى سجني الفسيح. عشتُ القصّة عندما تحوّلت ذكريات. فهمت قيمة الأيام الهادئة المغلّفة بشراريب الطمأنينة، عندما قرع بابي القلق وبشّرني بالآتي. والآتي أعظم. كنت أجلسُ لساعات طويلة على شرفة الغرفة الفاخرة.

أتأمّل البحر وأروي قصصي للقمر. أطمئنه عن حالي. وأحتسي القليل من الشمبانيا. وأتناول بضع حبّات من التوت. وسمحتُ لنفسي بالتجسّس على العشّاق. وحاولتُ أن أكتب قصصاً قصيرة عن أحاديث الهوى التي كانت طراطيشها تصل إلى شرفة غرفتي الفاخرة. لا أريد العودة إلى بلدي.

 

همستُ للقمر مراراً، بين حديث وآخر. تجرأتُ وفتحت له قلبي، على اعتبار أننا "صرنا صحاب"، بعدما جمعتنا الشرفة، والشمبانيا، وبضع حبّات التوت التي تناولتها مساء كل يوم. تجسّسنا معاً على هؤلاء الذين ما زالوا في أولى صفحات العشق.

 

وعندما كان يُغادرني ليواسي بلاداً آخرى، كنت أجمّع له الخبريات والنوادر، إلى أن يحل المساء مُجدداً، فأهمس له في بداية كل جلسة: لا أريد العودة إلى بلدي. هُناك، يُلقبونني بالأوريجينال لأنني أحلم، أجمّع الصدف، أغني وأرسم وأعشق، قدمي العارية تغوص في الرمل، وأرتدي الفساتين التي ترقص على إيقاع الرياح. لا أريد أن أنجح، أو أن أصبح "إنفلوانسر إلها القدر والقيمة". أريد أن أكتب الروايات عن بطلة تسبح عارية في كل قصص الحب التي تعيشها. لا يهمّني من يربح في السياسة. أريد أن أعيش قبل أن أموت. أحتسي فنجان قهوة سادة وأغوص في أحلام اليقظة.

 

أبتسم للعشّاق الذين يهمسون أحاديث الهوى، ويضحكون لأتفه الأسباب. أمضي ما تبقى من حياتي في زيارة العالم، ألتقط الصور، أحتسي القليل من الشمبانيا، وأمضغ بضع حبّات من التوت، وأكسر جدار اللقاء الأول مع القمر. قبعة صغيرة تزخرف رأسي. أنام على وسادتي ليلاً من دون الخوف من قنابل نوويّة وعدم قدرة على شراء علبة من التون بأقل من مليون ليرة. أتجسس على العشّاق وأضحك بسعادة لأنهم ما زالوا يؤمنون بالبدايات. في بلدي يلقبونني بـ"المعتّرة" لأنني لا أريد أن أتنافس مع أحد، ولا يهمّني أن أتشاجر مع أحد.

 

أريد أن أجلس في مقهى حميم وأقرأ روايات دراماتيكيّة، تتبختر فيها البطلة على إيقاع جموح روحها. القمر لم يُطلق أحكاماً مُسبقة عليّ. فهم أنني أنتمي بين ذراعي العشق، وداخل إطار لوحة ساكنة يلعب فيها الأولاد بلا خوف من وباء يفتك بعظامهم، ويمشي فيها العشّاق الهوينى "إيد بإيد". القمر لا يغضب منّي لأنني لا أريد أن أنافس تلك "الإنفلوانسر" التي يتابعها مليون مريض نفسي حول العالم يهربون من حياتهم نحو يوميّاتها الكاذبة. حياة عاديّة. القمر فهمّ عليّ من اللقاء الأول. أريد أن أحيا قبل أن أموت. ظلمة أول الليل. الأولاد تعبوا من اللعب بالكرة "كل النهار". جلسوا على الرمل يأكلون ساندويش كبيرة شهيّة وغير صحيّة بشراهة الصبا.

العشّاق "غلّوا ببعضن"، وكأنني لمحتهم من بعيد وهم يحتسون فنجان قهوة سادة، "منهنهين"، تزيّن وجوههم ابتسامة الرضا الصغيرة. يهمسون أحاديث الهوى. وأنا أجلس على شرفة غرفتي الفاخرة في الفندق الذي أزوره سنوياً عندما أهرب من بلدي الذي يتهمّني بالمعترة لأنني أريد أن أعيش قبل أن أموت. القمر أطلّ بوقاره المعتاد. أحتسي القليل من الشمبانيا، وأمضع بضع حبات من التوت. ينتظرني بصبر لأستهلّ حديثنا المسائي بالجملة عينها: لا أريد العودة إلى بلدي.

هناك، لا يحق لنا أن نحلم، أو أن نحيا.

هناك، يريدوننا أن نموت مرتين.

هناك، يعيّرونني بحلم يتمسّك به نظري الذي يصطدم بالجوع والخوف، والوجوه التي تخشى الابتسام لئلا تُتَّهم بالرغبة في العيش قبل أن تموت.

 

                                       [email protected]  

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم