أناشار بصبوص والعظمة المعلّقة في البراري المنسيّة

الشرارة حاضرة بشكل يومي، والفوران الداخلي قد لا يُشبه هدوء التهويدات الخارجيّة التي يتكئ على نعومتها هذا الفنان الذي تخفي أعماله طراوة غامضة لا تُشبه قساوتها الظاهريّة الجميلة، ولكنه لا يُفارقه.
 
 
يُمكن أن نقول إن الغليان يُرافقه بشكل يومي، وليس حكراً على المبنى المهيب الذي أنجزه أخيراً في قرية راشانا المشهديّة ليكون خليج أحلامه الصغير.
 
 
محترف يليق به أن ننعزل داخله جميعاً وإن كنا لا ننتمي إلى عالم الفن ولكن لكل واحد منّا فُسحة داخليّة مُنمنمة تقودنا إلى المُبالغة في تصوير إمكاناتنا.

إذ أن أهميّة هذا المبنى الأكبر حجماً من الطبيعة أنه التعبير الأقسى عن قدرة أي شخص على تحقيق بعض أحلام تسكنه وتُهدهد انكساره. وقد تشمل أيضاً انكسارنا جميعاً.
 
 
وبطبيعة الحال، فإن أحلام النحّات أناشار بصبوص شاهقة وهي تعكس إصراره على أن يكتب قصّته الشخصيّة التي لا علاقة لها برواية والده النحّات الكبير ميشال بصبوص الذي كان أول من اختار النحت في عائلة لطالما تمكّنت من أن تُجدّد قصّتها المُتجذّرة في التاريخ. وكان أيضاً من أوائل الفنانين في الشرق الأوسط الذين اختاروا النحت الحديث أسلوب حياة.

أناشار بصبوص اختار أن يعيش رحلته الشخصيّة، بكل ما تختزنه من جنون وإنقلابات فنيّة، ليثبت لنفسه بأنه سيتمكّن مع مرور الوقت من أن يُحوّل ظلّ والده الأسطوري رفيق الأيام الحميم وليس العاشق الذي يتعذّر الوصول إلى قلبه.
 

وشرارة الفرح تُرافقه في كل تحرّكاته، وفي كل مرّة يُنجز فيها "قطعة حلوة". فهو يشعر عندئذٍ بهذا الفرح الذي لا علاقة له بالأحاسيس الأخرى التي ربما اجتاحتنا من وقت إلى آخر، عندما "بتنقش معنا"، فنعيش بفضلها تالياً لحظات عابرة من الحياة.
 
الخلق، كما يروي لي هذا الفنان الشغوف، "شي فظيع". يزوّدك الحيويّة، وهذا الحُب الغريب للحياة. أعتقد أن كل الذين يعيشون الخلق يوميّاتهم، على اختلاف توجهاته، (هول الله ناعم عليهم). هؤلاء مزوّدون بلمسات روحانيّة مُرتبطة ارتباطاً جذرياً بالخلق. من يتذوّق طعم الخلق، لا يستطيع أن ينعم بحياة عادية تُصبح عندئذٍ باهتة اللون، لا مذاق لها".
 

القلق يُرافقه، وهو الصديق الذي نادراً ما يبتعد وإن لهُنيهات عن هؤلاء الذين اختاروا أن يعيشوا داخل أروقة جنونهم. هذا قدرهم، وهذه الضريبة التي عليهم أن يدفعوها ثمن الشعور ولو للحظات عابرة، بأن الحياة باقية، وأن الوقت ينتظرنا.

وأناشار بصبوص يعيش القلق الحقيقي في تلك الأوقات التي "بتتعطّل فيها"، بحسب وصفه، "فرشاة الخلق" عن تحويل المواد القاسية قصيدة مرئية زاهية اللون.
 

وعندما تطول فترة "اللاخلق"، يزداد حجم القلق، هذا الصديق الذي يُزعجنا بحضوره، ويُدمّرنا عندما يبتعد عنا قليلاً فنتوهّم عندئذٍ أننا امتلكنا الكون، وإن الحياة ليست مجرّد "مرقة طريق".
 
توفي والده النحّات الكبير ميشال بصبوص عندما كان في الـ12 من عمره، ولكنه يذكر الكثير من التفاصيل عن عشقه الأقرب إلى هوس بفنّه. لم يتمكّن الوالد من أن يغيب عن محترفه حتى في عطلة نهاية الأسبوع، عندما كان من المُفترض أن يُخصّص ساعات طويلة لعائلته الصغيرة.
"أيام الآحاد، كان يطل على محترفه، ولو بقي فيه لنصف ساعة فقط". وكان يُردد لنجله الصغير، "يجب أن تبقى على اتصال دائم بعالم الخلق"، فعندما نُغادر فُسحاته ونُقرر بعدها العودة إليها، "علينا عندئذٍ أن نُكمل من حيث تركنا". وهذا التفصيل يزوّده الدافع لكي لا يتوقف عن الخلق.
 

قد يظن البعض أن أناشار، تماماً كسائر الفنانين، يعيش حياة غريبة في طقوسها تسمح له بأن يخلق، ولكنه في الواقع، يستمد وحيه، "من الحياة العادية، وليس من التفاصيل التي قد يصفها البعض بالخارقة. الوحي أجده في أسخف التفاصيل. من شمس تغيب وشجرة تُلقي بظلالها على مُحيطها القريب".

ومن هذا المنطلق فإن الوحي مؤلّف من "خلطة بتشبهني".

الحوادث والكوارث والخضّات العاطفيّة والأخرى الاجتماعيّة لا تستخرج منه منحوتات في اللحظة. يحتاج أناشار بصبوص إلى بعض الوقت ليُعالج كل الذي عاشه أو كان الشاهد على ضرباته المُتتالية التي لا ترحم.
 
 
هذا النحّات الذي يعيش الخلق داخل هذا المبنى المهيب المُنعزل عن كل البشاعة التي نتعرّض لها يومياً، يُحب الناس. يجد السعادة في التعامل مع مختلف الشخصيات. يجد مُتعة حقيقية في الجلوس مع "المعلّم والحدّاد اللي بيشتغل بالصخر. أغلب وقتي معهم. منصير متل عيلة".

والمُحترف الذي يعجز اللسان عن وصفه، وعلى الرغم من عظمته، هو أشبه بالخليج الصغير الذي يحضن انكسارنا جميعاً من خلال عملية الخلق. وُلد بعدما أصبح حاجة ملحّة بالنسبة لأناشار. سنوات طويلة مرّت لم يتوقف خلالها عن النحت، وأصبحت حديقة منزل العائلة "مكتظة" بالأعمال الفنيّة، و"بلّشنا نختنق".
 

ولهذا السبب قرر أن يبني فسحة تُشبهه، فينفصل عن المنزل المسكون بطيف الوالد الأكبر حجماً من الحياة.

أراد المبنى مينيماليّاً في إطلالته، لا نرى فيه أبعد من الإسمنت، وهو يُشرف على بحر البترون بأمواجه التي تخفي آلاف الانكسارات وبعض أحلام هي التعبير الأقسى عن واقعنا القاتم. ولأنه أراد أن يستفيد من كل زاوية في المبنى الضخم على الرغم من كونه مينيمالياً، حوّل السقف أيضاً فُسحة للعرض. ولأنه ترعرع وسط عائلة تعشق الناس ووالد عُرف بكرمه، يقول، "لم يكن لحديقة منزلنا أي باب. ربيت أنا هيك".
 

في فترة من الفترة، قاده جوعه للثقافة إلى السفر بلا توقف. "كنت جوعان ثقافة وفن". ولكنه، مع مرور الوقت، تُصبح حاجته للبقاء داخل محترف يُهدهد جنونه، أكبر فأكبر. وتبقى أجمل السفرات تلك التي يقوم بها داخل محترفه. "السعادة تولد فعلياً لحظة الخلق".

أخذ وقته ليحفر قصّته الشخصيّة بعيداً من رواية الوالد الأسطوري، "أبي كان نصف إله بالنسبة لي. كان من هؤلاء الأشخاص الذين يسهل الذوبان فيه من شدّة حبك له؟ هو مُهم جداً بالنسبة لي".

يكتشفه يومياً، وعلى الرغم من أنه كان في الـ12 عندما رحل عن هذه الحياة الدنيا.
 

الناس عشقوا ميشال بصبوص، "كان محبوباً لدرجة رهيبة. وهذا الحب الكبير الذي يولد من الناس يُعيد إلي قطعة من والدي. في الحقيقة عرفت والدي وكوّنت في ذهني صورة عنه على مدار السنين".

في المرحلة الأولى كانت مسألة صعبة أن ينفصل فنياً عن الأب الذي خسره باكراً، وخسر بغيابه هذا الوهم الذي يُدعى الآمان. وكانت المنحوتات الأولى تُشبه "شغل الوالد". ولكن، في نهاية المطاف، بدأ يشعر بأنها "وزن على أكتافك وحاملتيها على ظهرك، وما بتسمحلك تنتجي أعمال بتشبهك".

المسألة تطلبت الكثير من العمل على الذات، والإرادة الصلبة.
اليوم، أناشار بصبوص يشعر بأن الوالد ميشال سعيد أينما وُجد، لأن نجله تمكّن من التخلّص من هيبته وحضوره المهيب وإن في الغياب. اليوم، عندما يزور أناشار محترف ميشال، أصبحت الزيارة أو التجربة غنية. سابقاً كانت وطأة كبيرة.
 

في المحترف الذي نحته أناشار قصتنا جميعاً نحن الذين نبحث عن شتى السُبل لنحلم مجدداً، زرع الفرح وخلق فُسحة تترنّح فيها ومضات روحانيّة. لا يحتاج أناشار إلى الموسيقى لتُرافقه خلال عمليّة الخلق. يتكّل على إيقاعه الداخلي لتُساعده في رسم المنحوتة. لا يستسيغ الضجّة.
المُحترف الذي بناه أناشار بصبوص ليحضن من خلاله انكسارنا جميعاً وليُحوّل ظلّ والده إلى رفيق حميم يُرافقه في رحلته مع الجنون ويُقرّبه من الحياة، خُلق لكل شخص لا يخشى أحاسيسه.

"الحسّاس كتير بيفرح وقت يفوت على المحترف".

والحسّاس سيفهم تلقائياً أن ميشال بصبوص، أينما وجد، أكثر من سعيد لأن نجله الشغوف تمكّن من أن يُحوّل ظلّ عظمة والده رفيقاً حميماً يواسيه في كل اللحظات. ومن خلال هذا المكان المهيب، تمكّن من أن يواسينا جميعاً، نحن الذين لم يبق لنا حتى الحلم.