اكتشافات في المدينة: المسرحي الكويتي سليمان البسّام للجمهور اللبناني "يا الله! ما أحلاكم!"

لا يوجد نقص في الصفات، إذا ما أردنا أن ننغمس في الملذات اللغويّة. أسطورة يونانيّة في مسرح أسطوري يُريد بأي ثمن ألا تتمكّن منه حالات الزمان. القليل من التمجيد من فضلكم في هذه الأيام المُقلقة. الكثير من الأمل في مسرح فخم وضخم وإن كان يستريح برسالته على الألفة ويُطهّرنا من هذا الوباء الذي اجتاح الروح قبل الجسد.

همهمات وضحكات غير مكبوحة قبل دقائق من العروض. لقاء الأصدقاء مُجدداً بعد هذا السكون الخطير. تبادل الأحاديث الجانبيّة قبل دخول القاعة، وتصفيق قويّ بعد انتهاء هذا التجسيد الحقيقي للإبداع الذي يستريح على إيقاع ديناميكي وسريع ومُكثّف على خشبة المسرح.

"هنادي، هيدا العمل يالّلي جبناه والّلي هو ممتاز بكتابته وبتمثيله وبالأداء، من دون أن نغض الطرف عن الموسيقى: كلّو ع بعضو ناجح جداً!".

سيّدة المسرح تُحدثني عن هذا الاحتفال الحقيقي بالمسرح وبالحياة الذي أصرّت على تقديمه في نهاية الأسبوع طوال 3 أيام. سيّدة المسرح هي بكل تأكيد نضال الأشقر. "الست نضال" التي تضحك قائلة، "أنا لساني بيقصّ قصّ!". نلتقي أكثر من مرة من أجل تسليط الضوء على الأسطورة اليونانيّة التي تراقص العالم الرقمي من دون أن تتغاضى عن عصر الاستبداد وقد اجتاحته التكنولوجيا:

"آي ميديا"، للمُخرج والكاتب المسرحي والممثل الكويتي الكبير سليمان البسّام.

 



واللقاء مع السيّدة التي تُقصّر المسافات بين الناس وتجعل كل من يزورها في مسرح المدينة يشعر وكأنه داخل "ع بيته" دائماً مُشوّق. لا وقت لديها لتنوح على الماضي. ضحكتها تدعوك إلى وليمة الحياة.

كُثر لم يفهموا إصرارها على استضافة هذا العمل الضخم في هذا الوقت العصيب الذي يعيشه البلد. "أجيبهم: على المسرح أن يطلب الأفضل باستمرار والأجود. الناس بأمسّ الحاجة ليشعروا بأن الانحطاط لم يطلهم. يجب أن نشعر جميعاً بأن في المسرح جودة وأداءً جميلاً وسعياً من قبل قطاع الثقافة عموماً والمسرح على وجه التحديد إلى أداء ممتاز يصقلنا جميعاً، يُساهم في تعزيز (المورال). نُريدهم أن يفرحوا. طوال الأيام الـ3 كانوا سعداء – فرحانين. نعم، لقد تمكنا من أن نُقدم هذا العمل الشاهق على خشبة مسرحنا. سليمان البسّام هو كاتب ومخرج مُتميز. كما هو مُمثل بارع. وهو يُحب لبنان. يُحب مسرح المدينة. ويقف إلى جانبنا باستمرار. إلى جانب هذا المسرح (من زمان). كل أعماله مُتميزة. أنا شاهدت البروفات قبل اجتياح الوباء. هو رجل يعمل كثيراً على النص. ولمسته المُعاصرة ذكية جداً. انطلاقاً من أسطورة (ميديا) بكل وحشيتها والفظاعة الكامنة فيها، في ما يتعلق بالقتل والإجرام، تمكّن من نسج عمل معاصر. صحيح أن كُثر في العالم أعادوا صياغة الأعمال القديمة لتتماشى مع الزمن المُعاصر، بيد أن سليمان البسام نجح كثيراً في سعيه. لغته جميلة. وهذا المزج بين اللغة الإنجليزيّة والعربيّة وإنصهار الموسيقى الحيّة، من العناصر التي تُزوّد العمل جماليّة. بعتقد إنّو عمل ناجح جداً".

 

سليمان البسّام الدراماتيكي في الحياة كما هو على خشبة المسرح، قدّم صيغته الشخصيّة لأسطورة ميديا اليونانيّة التي تغور في العنف لتستخلص منه مواقف حياتيّة تُعيدنا إلى (الحياة)، طوال 3 أيام في مسرح المدينة. وفيها تظهر هذه المرأة الشرسة كمُهاجرة عربيّة مُثقفة، تعيش سوء تفاهم مع العالم المُعاصر من حولها. وضع أناقته الدراماتيّكيّة، الديناميكيّة والأكبر من الحياة على النص والإخراج كما شارك في التمثيل.

حلا عمران السوريّة – الفرنسيّة الرائعة حتى الجنون في دور ميديا الأصيلة في انفعالاتها وحنانها وعدوانيّتها تقف وجهاً لوجه معه، هو الذي يغمز في وقوفه على الخشبة إلى كبار مُمثلي المسرح الإنجليزي العريق. يتواجهان ويعشقان ويتشاجران ويكتبان العنف لغة حب في عمل ينساب بمُخمليّة تزيل عنه غبار الوقت أو ثقله. والبسّام يضطلع بأكثر من دور في العمل بعدما أجبرته الجائحة على اختيار المينيماليّة وعلى الرغم من كونه قد أعدّه في الأصل ليطل من خلاله فريق عمل كبير: دور الكاتب وجاسون وكريون. كما يضطلع أسامة جامعي بدور أغادير.

وكان الإنتاج قد توقف قبل أيام من افتتاحه على مسرح دار الأوبرا في مركز جابر الأحمد بسبب زلزال كورونا في العام المُنصرم
يشرح قائلاً، "إلى قراري بولوج الفضاء الخلاب وتقديم نفسي كمؤلف كجزء من الشخصيات على خشبة المسرح هو نتيجة مباشرة لرؤيتي للعلاقة بين الكتابة والتمثيل في زمن جائحة كورونا. وعلى عكس النموذج السابق لهذا العمل الذي كان أوبرالياً حجماً وإنتاجاً. قررت الاقتصاد بالأدوات المسرحيّة إلى الحد الأدنى في محاولة لاستكشاف مفاهيم البساطة والتركيز على التجريد والتكثيف على صعيد اللغة. نتيجة لذلك، يعد العمل أيضاً، استكشافاً لسيرة ذاتيّة مُتخيلة وتعدو خشبة المسرح مرآة للعديد من القصص مُتعددة الأطياف".

وعن العمل يقول البسّام، "في هذه المنطقة المجازيّة الحيّة تُحوّل ميديا مشاكلها الشخصيّة إلى سلسلة من الأغاني الحماسيّة لأقليّة مُحاصرة. أغاني السخط والجروح التي تتحوّل بمجرد وصولها إلى اللاجئين المُحتجزين في مُخيمات على حواف كورينثيا (حيث تدور الحوادث التراجيديّة) إلى صرخات تحشد لانتفاضة وخيمة العواقب". ويضيف: "كما في كل أعمالي السابقة ما زلت أرفض الحدود الوطنيّة للمسرح، وذلك من خلال تشكيل فريق موهوب من الممثلين والفنانين المشهورين من جميع أنحاء العالم العربي وما وراءه. (آي ميديا) هو الحلقة الثانية من ثلاثية الأعمال المستوحاة من النصوص القديمة، بعد (أور – 2018) بدأت العمل على الثلاثية منذ سنوات وكنت أستلهم من الخط الإبداعي في أعمالي من نصوص عتيقة – مكسورة. لها أثر وما لها أثر في الوقت عينه".

وفي العام 2018 إنطلق العمل على صيغته لميديا وبدأت البروفات في الكويت، "كما هي عادتي مع فرقتي المُشكّلة من فنانين من طرق مختلفة. الهويّات الضيّقة لا تعنيني. كنا على بضعة ليالٍ من افتتاح صيغة كاملة للعمل وإنفجرت الجائحة وتوقفنا. ومعنا على خشبة المسرح حالياً فريق (التنّين)، وميديا، كما تعلمون، بعدما تفعل ما تفعله في أعدائها يأتي إله الشمس ويبعث لها عربة ويسحبها التنّين. نحن سُعداء، إذن، بأن يكون لنا تنّيننا الخاص. وطبعاً، العمل كان أثناء الجائحة عبر الوسائل الرقميّة وأخذ أبعاداً لم نأخذها سابقاً في الإعتبار".

وحصلت هذه المسرحيّة على حصة الأسد من جوائز المسابقة الرسمية للدورة ال22 لأيام قرطاج المسرحية في تونس، وجائزة أفضل ممثلة في المسابقة الرسميّة لمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي.

وهذه المسرحية هي إنتاج مُشترك بين مسرح البسام (sabab theatre)  والصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق) ومهرجان نابولي الإيطالي.

كما شارك فريق (التنّين) المؤلف من عبد قبيسي وعلي حوت في العزف الحيّ على الخشبة. وبما أن العمل أطل في اللغتين العربية والإنجليزيّة، قامت وفاء الفراحين بالترجمة الفوريّة التي أطلّت على شاشة خلفيّة كبيرة، ووقع الدكتور عبدالله عيسى السرحان الأغاني العربيّة التي تتلوها حلا عمران بوحشيّة صافية.
ميديا، هي بطبيعة الحال أسطورة تراجيديّة من كتابة "يوريبيديس" تتمحور في حلّتها الأصليّة على شخصيتي جاسون وميديا، وفيها نتابع قصة إمرأة ساحرة لا تنتمي إلى مجتمع يظلمها، ما يدفعها إلى قتل شقيقها لتتمكّن من الاقتران بجيسون، ولكنه يهجرها في لحظة طمع ليتزوج من إبنة الملك كريون.

وكان البسام قد أسس فرقته المسرحيّة (Sabab) في العام 2002 وتضم خليطاً رائعاً من المواهب العربيّة والعالميّة. وبالنسبة لـ"الست نضال"، فإن البسّام "فهلوي – بالدارج، أصرّ على المجيء إلى بيروت بعد القاهرة وتونس ليقدم هذا العمل المُتقن وعلى الرغم من كل ما تعيشه العاصمة من شوائب: ما في كهرباء، ما في ميّ، السير كارثة...ولكن نحن، في مسرح المدينة، الأمور معنا ماضية". والبسّام بدوره أكد أنه يعتبر نفسه في منزله في هذا المسرح العريق".

البسّام يقول لنا بعد العروض الـ3، "بالنسبة لي ولنا للفرق الفنية، أتينا إلى بيروت في أسبوع (كلّو برد، وكلّو شتي، وكلّو أمطار، وما في كهربا، ما في مازوت، ولعبة الدولار لا تتوقف) وفي كورونا، وفي كل العوامل الّلي مُمكن تقف أمام رغبة الحياة ولكن دقّات القلوب وعطش الناس الحقيقي لأن يتواجدوا معاً ويعودوا إلى الحياة عبر الفضاء المسرحي وعبر الكلمة الحرّة، عبر الشعر، عبر الجمال، هذه أكبر شهادة مُمكن أن يتمنّاها أي أحد ومُمكن يكون أي أحد له جزء في مُساهمة صغيرة في خلق هكذا لحظات تدل على أن أهل هذه المدينة وأهل هذا الوطن يرغبون بالجمال ويتوقون إلى الحريّة، وهذا الأمر متجذّر فيهم. نشكر الحضور. كانت لحظات لا تُنسى على الأقل بالنسبة لي. تبقى بيروت كما كانت وإن شاء الله بعون الله تخرج من هذا النفق المُظلم".

وكان هذا الرجل الأكبر حجماً من الحياة قد رحّب بالحضور في بداية العرض الأول مُضطلعاً بدور الحكواتي، قائلاً وهو ينظر بمحبة إلى العشرات الذين لم يخافوا عواصف الخارج وعواصف بيروت، بل حضروا بكل عزم ليؤكدوا إصرارهم على العودة،"يا الله، ما أحلاكم"!.

Hanadi.dairi@annahar.com.lb