الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

قراءة في أبعاد الانتخابات الرئاسية الفرنسية… إنقاذ أوروبا وتأجيل الحلول

مشهد من باريس وتبدو ملصقات الحملة الانتخابية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمرشحة الرئاسية مارين لوبن (21 نيسان 2022 - أ ف ب).
مشهد من باريس وتبدو ملصقات الحملة الانتخابية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمرشحة الرئاسية مارين لوبن (21 نيسان 2022 - أ ف ب).
A+ A-
ميشال أ. سماحة

لم يكن العالم يوماً مترابطاً ومصالحه متداخلة كما هي حاله اليوم. فرنسا، بلد الـ67 مليون نسمة وسابع أكبر اقتصادات العالم، كانت الأحد الماضي قبلة العالم السياسي. حبس العالم وأوروبا أنفاسهما بانتظار إعلان نتائج الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية. خاصة وأن الحرب الدائرة في أوروبا، على أراضي أوكرانيا، أدخلت أكثر هذه الانتخابات في تأثيرات الجيوسياسية وموازين القوى العالمية. لنتخيل لحظة واحدة سقوط الرئيس الفرنسي في هذا الاستحقاق! ماذا كان ليكون وقع ذلك على أوروبا وعلى حرب أوكرانيا وعلى الأطلسي والعالم واقتصاده؟ لا أحد يمكنه استشراف حجم هكذا زلزال في بلد يُعتبر مع ألمانيا قلب الاتحاد الأوروبي ومحرّكه السياسي والعسكري والديبلوماسي.


ماذا حصل؟ ماذا يمكن أن يحصل؟
نسبة المشاركة الأضعف منذ سنة 1969 رغم التحديات الكبيرة، تجاوزت 34 في المئة. قُدّرت نسبة المصوتين غير المقتنعين لصالح الرئيس ماكرون بـ47 في المئة! أي تقريباً نصف الذين أعطوه أصواتهم. كان ذلك موجه ضد منافسته لوبن. مع نسبة كبيرة من الشباب في صفوف المقاطعين، و63 في المئة من العمال ذهبت أصواتهم للوبن.

كنت قد تناولت في مقالات سابقة الديناميات التي تحكمت بهذه الانتخابات (تشكل لحزب يميني وسطي ليبرالي وأوروبي على أنقاض الحزبين التاريخيين، الحزب الاشتراكي والحزب اليميني الجمهوري ذي الجذور الديغولية)، وتأثيرات أزمتي "الهوية" و"التراجع الاقتصادي". الأزمة الأولى عبّر عنها يمين اليمين أو ما يعرف بـ"التجمع الوطني" (وهنا سأتفادى استعمال مصطلح اليمين المتطرف لأسباب عدّة لا مجال للدخول فيها)، فيما الأزمة الثانية عبّر عنها يسار اليسار، أو حزب "فرنسا الأبية" (La France Insoumise) الذي يترأسه جان لوك ميلونشون.
 
وإذا صحّت التوقعات، فإنّه سيكون من الصعب جدّاً على حزب الرئيس أن يأتي بأكثرية نيابية في انتخابات حزيران المقبلة. وهذا ما أشرت إليه أيضاً في مقالاتي السابقة بصيغة سؤال: منافسة على رئاسة الجمهورية أو على رئاسة الوزراء؟ وهذا ما أكّدته الأحداث عشية اعلان النتائج الاحد الماضي، حيث كان قد أطلق ميلونشون حملته الانتخابية البرلمانية أياماً بعد الدورة الثانية وطلب من الفرنسيين انتخابه رئيساً للوزراء، وهذا ما فعلته أيضاً مارين لوبن بطريقة غير مباشرة عشية إعلان النتائج من دون تقديم أي تهنئة للرئيس المنتخب. الإثنين اعتبرا إذاً أنّ الانتخابات لم تنتهِ، ولن تنتهي إلا بالجولة الثالثة مع الانتخابات البرلمانية، في كسر للتقليد الديموقراطي المتعارف عليه.
 
بالطبع، سيسعى الرئيس ماكرون إلى توسيع مروحة تحالفاته وفي إحراز بعض الإنجازات قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة، علّه بذلك يُبعد كأس "التعايش" مع رئيس وزراء معارض. وهو يفعل ذلك سيعمق أكثر أزمة الأحزاب التقليدية.
 
إذاً، نتائج الانتخابات، التي أعطت ما بقارب 42 في المئة من الأصوات إلى اقصى اليمين للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة، أكّدت قوة وصلابة وعمق التغييرات التي تحدث في فرنسا منذ الولاية الأولى لجاك شيراك وخاصة بعد نيسان 2002.
 
 
كيف يمكن اختصار هذه الديناميات العميقة التي خلخلت وتخلخل الجمهورية الخامسة؟
يمكن القول إنّ شعار الجمهورية الفرنسية "حرية، مساواة، أخوة" الذي يطبع الوعي الجماعي والثقافة السياسية الفرنسية يختصر أبعاد الأزمة. ثلاثة مبادئ حرصت الجمهورية الخامسة على احترامها. أين منها اليوم؟
 
في الحرية: إذا أخذنا البعد الديموقراطي للحرية، فرنسا، كباقي الدول الأوروبية، تجد نفسها في مغامرة بناء الاتحاد الأوروبي مكبلة بحريتها وسيادتها. وهذا مفهوم بالمطلق في بناء أيّ "اتحاد سياسي" حيث تتنازل فيه الأقطار عن بعض من حريتها لصالح الاتحاد. لكنّ المشكلة أصبحت عميقة في فرنسا مع شعور الناخبين أنّ كلّ المستويات الانتخابية (من الانتخابات البلدية وصولاً إلى الانتخابات البرلمانية الأوروبية كما والرئاسية) لم تعد تعكس الإرادة الشعبية، وإنّ هذه الأخيرة أصبحت تخضع لسلطة بيروقراطية في بروكسيل. سلطة غير منتخبة وفوق المحاسبة وهي تفشل في إدارة الاتحاد والتنوع داخله. انتخابات بعد انتخابات يشعر الفرنسي بأنّ حريته أصبحت مكبلة بلعبة ديموقراطية غير عادلة ولا تعكس تطلعاته. وهذا الشعور تعمق منذ 2002 مع إجباره على التصويت لرؤساء فقط من أجل صدّ اليمين المتطرف.
 
في المساواة: فرنسا تتراجع اقتصادياً. ميزانها التجاري مكسور وتخطى السنة الماضية 84 مليار دولار. تراجع الصناعة يغرق مناطق بكاملها في الفقر والبطالة. فاعلية قطاعها العام يتراجع كما والخدمات العامة من صحة وتعليم. كلّ ذلك في جو من اللامساواة الاجتماعية، والاقتصادية، والجغرافية.
 
في دراسة لمركز السياسات الأوروبية سنة 2019، دلّت الإحصاءات على أنّ بين 1999 و2017 خسر كلّ فرنسي ما يعادل 56 ألف يورو بسبب الاندماج في منطقة اليورو. اندماج جعل من فرنسا وإيطاليا تدفعان أثماناً اقتصادية كبيرة بسبب سياسات المصرف المركزي الأوروبي، حتى لامس الدين السيادي الفرنسي 120 في المئة من الناتج القومي. كلّ ذلك زاد هشاشة الوضع وأفقد الكثير من الناس قدرتهم الشرائية. هناك شعور عارم أنّ النخبة الفرنسية فشلت في إدارة البلاد.
 
في الأخوة: حتى البارحة، كانت اللحمة الوطنية(La cohesion et la mixité sociales) تُعتبر من أهم القيم في فرنسا. كانت الـ"نحن" قوية بترابطها وتصوراتها وقيمها. كان التنوع الكبير مضبوط بهذه الـ"نحن" التاريخية ببعدها الحقيقي كما في بعدها المتخيل. هذه الـ"نحن" تعرضت إلى اهتزاز مزدوج: الأول ناتج عن التراجع الاقتصادي وتنامي اللامساواة، والثاني ناتج عن الهجرة وما أدخلته من متغيرات (إيجابية وسلبية) على فرنسا في أكثر من مجال وقطاع. اهتزازات لم تسلم منها دولة الرعاية التي تطلب مستوى عالياً من عملية إعادة التوزيع داخل الـ"نحن". هذا الاهتزاز المزدوج يضاف إليه علاقة الفرنسيين المعقدة مع العولمة، عمق أزمة الأخوة والتضامن داخل الـ"نحن".
 
كلّ هذا الخليط من المشاكل المعقدة يفسر إلى حدّ كبير خلخلة قواعد اللعبة السياسية للجمهورية الخامسة، وبروز برامج راديكالية تهدد الديموقراطية وتداول السلطة والحياة السياسية السليمة. السترات الصفر كانوا إلى حدّ كبير تعبيراً عن هذه الأزمات المتداخلة. أزمات بدأت تضع على المحك شرعية ومشروعية المؤسسات والنخب الفرنسية الحاكمة تاريخياً. أزمات تضعف الحياة السياسية وتبعد الناس عنها وهذا ما يفسر تراجع نسب مشاركة المقترعين.
 
مع انتخاب الرئيس ماكرون لولاية ثانية، اقترع مرة أخرى الفرنسيون ضدّ الذهاب إلى المجهول. وبينما هم يفعلون ذلك، جنّبوا أوروبا والعالم استحقاقات كانت لتكون قاسية، وعبّروا مرة جديدة عن عدم رضاهم عمّا آلت إليه الأمور. يبقى أن ننتظر الانتخابات البرلمانية المقبلة لنعرف إذا كانوا سيستمرّون في الذهاب أكثر إلى أقصى اليمين واليسار في محاولة للجم الوسط الليبرالي الأوروبي (المسألة أبعد من الرئيس)، أو أنّهم سيقاطعون ويسرّعون من خلال ذلك أزمة الثقة بالمؤسسات الدستورية... أو ينجح الرئيس ماكرون في بناء تحالف عريض وفي إقناع الفرنسيين ببرنامج جديد يصاغ على وقع نتائج هذه الانتخابات؟
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم